في أسباب الهوان العربي

رفيق عبد السلام

 

لم يعُد من المجدي كثيراً التوسّع في الحديث عن عجز العرب وهوانهم، فواقع الحال يغني عن المقال، وليس هناك ما هو أوضح عن حالة العجز العربي من استمرار حرب إبادة مفتوحة على أرضهم وضد شعب عربي ما يقرب من السنتين، بما يمس أمنهم القومي في الصميم، من دون أن يفعلوا شيئاً، أو هم بالأحرى لم يريدوا أن يفعلوا شيئاً، حتى مجرّد إدخال المساعدات الغذائية والطبية وتخفيف الحصار، قبل أن نتحدّث هنا عن إيقاف الحرب وردع إسرائيل ومنعها من التمادي في غيها وعدوانها، بل زادت بعض الدول العربية على ذلك بالترفيع في معدّلات التبادل التجاري مع دولة الاحتلال واستمرار العلاقات الدبلوماسية في أجواء الحرب، وكأن شيئاً لم يقع، بما جعل الموقف العربي متأخّراً مسافات حتى مقارنة بمواقف بعض الدول الأوروبية.

انعقدت قمم عربية وأخرى إسلامية، وأصدرت بيانات الشجب والإدانة، واتخذت قراراتٍ متتاليةً بإدخال المساعدات ورفع الحصار، ولكن شيئاً من ذلك لم يفعّل، وبقيت بياناتها مجرّد حبر على ورق. جرى ويجري ذلك كله والدول العربية تتغنّى بمقولات الأمن القومي والسيادة الوطنية اللذين لم يبقِ منهما نتنياهو شيئاً. ثم جاءت الحرب الأميركية الإسرائيلية على إيران والعرب خارج “الجغرافيا” (إن لم نقل خارج التاريخ أيضاً)، ما بين شامت ومحايد ومتواطئ وعاجز، وكأن ما يجري على حدودهم لا يعنيهم ولا يؤثر على أوضاعهم بصورة مباشرة وغير مباشرة، هذا في وقت بدأ فيه قادة دولة الاحتلال يجاهرون بالهدف القادم أو الطريدة القادمة في مشروعهم العدواني، وهل ستكون مصر أم تركيا أم باكستان؟

قبل الحرب على إيران بأيام قليلة فقط، كان هناك حدث لا يقل خطورة، وربما يلخص واقع العجز والهوان العربيين، منع نتنياهو وزراء خارجية اللجنة العربية المشتركة من الاجتماع بنائب رئيس السلطة الفلسطينية حسين الشيخ، أو ما بقي من السلطة الفلسطينية، في رام الله، فاضطروا إلى ابتلاع غصتهم وعقد اجتماعهم عن بعد، وتحوّل وزراء الخارجية العرب ما بين متوجع ومتأسّف ومحلل ومستنتج أن إسرائيل لا تريد السلام، وكأنه اكتشاف عبقري وغير مسبوق، ومنذ متى كانت إسرائيل تبحث عن السلام والتعايش؟

مقابل ذلك كله، يجاهر قادة إسرائيل بأن القدس الموحدة عاصمتهم الأبدية، ويهودا والسامرة (الضفة الغربية)، حقٌّ حصري لهم، وغزّة قادمة في الطريق، وما هو أنكى أن تمتد أبصارهم إلى كل الشرق الأوسط بطوله وعرضه، حيث لا يكفّ نتنياهو عن تكرار “معزوفته الأزلية” أنه بصدد تغيير خرائط الشرق الأوسط وتوازناته، وأن ما يفعله في غزّة يسمع صداه في كل عواصم المنطقة.

الأزمة باتت ماثلة للعيان في كل مناحي الحياة العربية، من السياسة والاقتصاد إلى الاجتماع والثقافة وكل شيء

طبعا الاستغراق في تشخيص عاهات العرب وأزماتهم، سواء كانوا كياناً جمعياً أو دولاً حصرية لم يعد يجدي كثيراً، والأهم من ذلك البحث في الأسباب العميقة والدواعي الخفية وراء عجز العرب وفشلهم بدل تفصيل واقع الفشل في حد ذاته الذي هو أمرٌ محسوسٌ ومسلم به، فلعل ذلك يوفّر أرضية فكرية وسياسية لمن يريد التدارك والإصلاح من الأجيال الجديدة في المستقبل القريب أو البعيد، وخصوصاً أن الأزمة باتت ماثلة للعيان في كل مناحي الحياة العربية، من السياسة والاقتصاد إلى الاجتماع والثقافة وكل شيء، ولا يغرّنك هنا واقع التفاوت في المال والرزق بين أغنياء العرب وفقرائهم، فالجميع يعاني من أزمات مفتوحة، وإن كانت متفاوتة الحجم والمقدار، وربما الفارق الوحيد هو بين أزمات ظاهرة وأخرى مستترة، وبين حروب ساخنة وأخرى صامتة، والحقيقة أن هذا الوضع يكاد يكون استثنائيّاً في المنطقة ويخص العرب دون غيرهم. … صحيح أن الأمور عند جيراننا ليست مثالية، ولكن أوضاعهم بمعايير السياسة النسبية تظلّ أفضل من عرب المشرق والمغرب، الأتراك مثلاً. ورغم الصعوبات والتحدّيات الداخلية والخارجية التي يواجهونها يتقدّمون خطواتٍ ملموسةً على صعيد بناء اقتصاد منتج، ويسجلون منجزاتٍ كبيرةً على صعيد الصناعات المدنية والعسكرية بشكل غير مسبوق. إلا أن الإيرانيين، ومع معاناتهم الشديدة من حصار، وتعسّر أوضاعهم العامة ومخلفات حرب شرسة، إلا أنهم أنجزوا خطوات مهمة على صعيد الاقتدار العلمي والعسكري، ولعلّ صناعتهم الصاروخية النامية تلخّص ذلك، وليس من المستبعد أن ينجح الإيرانيون بعد “الحوار بالقوة النارية” من انتزاع اتفاق مع ترامب يمكنهم من التنفس وإطلاق أجنحتهم رغم ما أصابهم من كدمات موجعة. الباكستانيون تمكنوا رغم فقرهم من إحداث توازن استراتيجي مع الهند التي تفوقهم عدة وعتاداً، ونجحوا في تحصين أمنهم القومي بجدارة.

أما العرب فيراوحون مكانهم، بل هم يتراجعون إلى الخلف قياساً بما كانوا عليه في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وحتى المكسب الوحيد المتأتي من فوائض النفط التي كان من الممكن أن يعمّ خيرها الدول العربية النفطية وغير النفطية، يتم امتصاصها لصالح الخزائن الأميركية والغربية عامة رغبا ورهبا. … والسؤال المطروح هنا؟ ما الذي دهانا وما الذي أوصلنا إلى هذه الهوّة السحيقة التي ما بعدها قاع؟ يمكن القول، بشيء من الاختصار، أن أزمات العرب يتداخل فيها البنيوي العام بالتاريخي بالإرادي الذاتي، بما يجعلها عصية على العلاج، من دون الاستحالة، إذا توفرت الرؤية المصحوبة بمضاء العزم ومراكمة العمل والجهد.

العرب الحلقة الأضعف في المنطقة، رغم أنهم الطرف الأثقل ديمغرافياً واقتصادياً وجغرافياً، وليس هناك ما يرشّح العرب لتدارك هذه الحالة المزمنة من التيه والضياع

أولاً: تنبئنا المعطيات السياسية والسوسيولوجية بأن الدولة العربية، ولاعتبارات تاريخية معروفة، تتعلق بلعبة الأمم في المنطقة من تقسيم وتذرير هي بطبيعتها هشّة وضعيفة، بغض النظر عن أنها أصيلة أم مصنوعة ملكية أم جمهورية، وقد أضيف لذلك زرع كيان استيطاني في قلبها، ولكن المعطي الأخطر من ذلك كله أن مقادير كثيرة من الأزمات الراهنة تعود إلى ما فعل ويفعل العرب بأيديهم وبأنفسهم، فزادوا هذه الكيانات هشاشة على هشاشتها السابقة. ومن ذلك امتناعهم عن بناء الحد الأدنى من التعاون والتضامن في ما بينهم للتغلب على ضعفهم التكويني، اللهم إلا التعاون في القمع ومحاصرة شعوبهم، إذ إن المؤسّسة الوحيدة التي استقرت في أعمالها، وانتظمت في اجتماعاتها، هي مجلس وزراء الداخلية العرب.

ثانياً: ما زاد في تقييد أيدي العرب وإنهاك صفوفهم أكثر هو صعود إيديولوجيا “ليبرالية انعزالية” (ليبرالية مشوّهة) مع الجيل الجديد من الحكام العرب، وملخّصها أن القضية الفلسطينية تمثل وهماً من صنع عنتريات القوميين العرب ومغامرات جماعات الإسلام السياسي، ومن ثم ينظر إليها عبئاً يجب التخلص منه والانشغال بدلا منه بالأولويات المحلية، وهي نظرية تتجاهل الحد الأدنى من قوانين الجغرافيا السياسية والترابط الوثيق بين الداخلي والخارجي، وهي حالة أشبه ما تكون بمن يستغرق في تزيين بيته الداخلي وتزويقه ولهيب النار يشتعل من حوله، ويمكن أن يداهمه في أي وقت وحين. ومع ذلك، الحصيلة هنا فشل مضاعف على جميع المستويات، فلا نجح العرب في حماية الحد الأدنى من سيادتهم ومقدراتهم وأموالهم، ولا هم بنوا تنمية حقيقية يعتد بها. والحقيقة أن حمل القضية الفلسطينية ليس مسألة أخلاقية وإنسانية تفضّلا على الفلسطينيين، بل هي دفاع عن الوجود والنفس في وجه مشروعٍ لا يرى في الفلسطينيين سوى حاجز أولي لما بعدهم.

ثالثاً: غياب الدور القيادي والناظم المفترض أن تتولاه الدول العربية الكبرى والفاعلة في جمع كلمة العرب وتوجيه بوصلتهم. مصر كبّلها أو هي كبلت نفسها باتفاقية كامب ديفيد، وزادت في إنهاك نفسها بالتفريط في دورها العربي وارتهانها الكامل للأميركان مع صعود النزعة العسكرية القمعية، وقبل ذلك تصورات انعزالية خاطئة مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات. السعودية مستغرقة في خطّتها الجديدة “السعودية 2030” ولا ترى نفسها والعالم من حولها سوى من خلال الحديث عن عالم المال والأعمال. العراق ما زال يعاني من مخلفات الاحتلال الأميركي وحروبه الطائفية والإثنية الباردة والساخنة. المغرب العربي كسيح ومقعد بالمعركة الأزلية بين المغرب والجزائر حول موضوع الصحراء.

 أزمات العرب يتداخل فيها البنيوي العام بالتاريخي بالإرادي الذاتي، بما يجعلها عصية على العلاج، من دون الاستحالة إذا توفرت الرؤية المصحوبة بمضاء العزم ومراكمة العمل والجهد

رابعاً: أقطار عربية كثيرة منشغلة بمعاركها الداخلية وحروبها البينية أكثر من انشغالها بالمعطيات الجيواستراتيجية من حولها، وقد استقرّ في روع كثيرين من حكّامها أن معركة المصير هي مع “مخلفات” الثورات العربية، ومع ما يسمّونه بالإسلام السياسي أكثر مما هي مع إسرائيل، هذا إن لم ينظر إليها باعتبارها حليفاً موضوعياً استراتيجياً وتكتيكياً في هذه المعركة المقدسة، وقد وجد هذا التوجّه هوى لدى الأميركان ومن خلفهم الإسرائيليين، بترسيخ “عقيدة مقاومة الإرهاب” التي يفهمها ويترجمها الحكام العرب على طريقتهم الخاصة بما هي ضرب المعارضين وسجنهم وتشريدهم.

خامساً: حالة الإفساد السياسي الناتجة عن النفط العربي الذي تحوّل من نعمة إلى نقمة، فهذه الثروة الطبيعية التي حبا الله بها العرب أصبحت عبئاً ثقيلاً عليهم ومجلبة لكل أنواع التدخلات الخارجية والأطماع الأجنبية، بل أكثر من ذلك أضحت مصدراً لتخريب البيت العربي بأيدي العرب أنفسهم، من خلال استخدام المال لتفجير الصراعات الداخلية والبينية وإثارة الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية والأزمات السياسية… أنظروا ما فعلته وتفعله إحدى الدول الخليجية بالسودان وليبيا واليمن ومصر وتونس وغيرها، وتأملوا ما تنسجه من علاقات وتحالفات مع دولة الاحتلال ضد المصالح الخليجية والعربية والإسلامية.

كل هذه المعطيات أعلاه تجعل من العرب بمثابة الحلقة الأضعف في المنطقة، رغم أنهم الطرف الأثقل ديمغرافياً واقتصادياً وجغرافياً، وليس هناك ما يرشّح العرب لتدارك هذه الحالة المزمنة من التيه والضياع من دون التفكير خارج الصندوق ومراجعة الرؤية والأولويات والحسابات.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى