إدارة الركام.. لماذا يُمنع أهالي ريف دمشق من ترميم منازلهم؟

نور ملحم

رغم مرور سنوات على انتهاء العمليات العسكرية في ريف دمشق وعودة الأمان بعد تحرير البلاد من نظام الأسد المخلوع، لا يزال مئات آلاف السكان عاجزين عن ترميم منازلهم المتضرّرة، وسط قيود قانونية وإدارية صارمة تحرمهم من الحد الأدنى من الاستقرار المعيشي.

في مدن مثل داريا ودوما والقابون، يواجه الأهالي عراقيل متكررة من السلطات المحلية، التي تمنعهم من تنفيذ أي أعمال ترميم، حتى تلك البسيطة التي لا تمس البنية الإنشائية، بذريعة مخالفة القوانين التنظيمية.

أبرز هذه القوانين هو القانون رقم 40 لعام 2012، الذي ينص على إزالة الأبنية المخالفة بغض النظر عن طبيعة المخالفة أو موقعها.

لكن المخاوف لا تتوقف عند هذا الحد، إذ يثير القانون رقم 10 لعام 2018 قلقاً أكبر، كونه يسمح بإنشاء مناطق تنظيمية جديدة، ويشترط على المالكين إثبات ملكيّتهم خلال فترة قصيرة، وإلا يصادر العقار من دون تعويض، هذه الإجراءات خلقت حالة من القلق الدائم.

استياء السكان من منع الترميم

يقول خالد الحمد (45 عاماً) من أهالي الغوطة الشرقيّة، في حديثه لموقع “تلفزيون سوريا”: “منزلي لم يسقط بالكامل، لكن أجزاءً كبيرةً منه تهدمت بفعل القصف. حاولت ترميمه بجهدي الشخصي، لكن البلدية أوقفت العمل وهدمت ما رممته. أملك سند الملكية منذ أكثر من 20 عاماً، فكيف أصبح بيتي مخالفاً؟”، على حد تعبيره.

أما مزنة النجار (40 عاماً) من أهالي زملكا، والتي عادت إلى سوريا بعد التحرير، تقول: “وجدت منزلي متضرراً جزئياً. حاولت إصلاح الحمام والمطبخ، لكن البلدية منعت إدخال المواد بحجة أن المنطقة ستدخل في تنظيم جديد”.

بدوره، يقول عبد اللطيف النادر (65 عاماً) من سكان القابون بريف دمشق، في حديثه لموقع “تلفزيون سوريا”: “منذ 4 سنوات أعيش في غرفة مسقوفة بالقماش المشمع. حتى لو جمعت المال، لا يسمح لي بالبناء، لا أحد يشرح لنا لماذا، هذه ليست حياة، بل انتظار دائم للمجهول”.

الترميمِ وفق معايير السلامة الإنشائية

تحاول معظم العائلات العائدة من الشمال السوري أو من دول اللجوء إعادة ترميم منازلها بأدوات بسيطة، وسط غلاء في إيجارات المنازل التي وصلت إلى نحو مليوني ليرة سورية، أي ما يعادل 200 دولار أميركي. لكن البلدية تهدم ما بنته هذه العائلات، فالقوانين التنظيميّة تُستخدم كذريعة لتجميد الحياة ومنع العودة.

وفي هذا السياق، يقول قتيبة الحمود، مسؤول العلاقات العامة في محافظة ريف دمشق، إن ترميم الأبنية المتضررة ممكن في حال كانت نسبة الدمار جزئية، وكانت الأبنية سليمة من الناحية الإنشائيّة، مشيراً إلى أنّ “الوحدات الإدارية تمنح الموافقة على الترميم بعد التحقق من استيفاء الشروط الفنية”.

وأوضح الحمود، في تصريحٍ خاص لموقع “تلفزيون سوريا”، أنّ “المعيار الأساسي المعتمد هو السلامة الإنشائية للمبنى، والتي تقاس بسلامة الأعمدة والبلاطات والجوائز، وعدم وجود تشقّقات أو هبوطات واضحة تؤثر على استقرار البناء”.

وأضاف أن “لجنةً مختصة تمّ تشكيلها على مستوى المحافظة بقرارٍ من السيّد المحافظ، وتضمّ مهندسين من مديرية الخدمات الفنيّة وعضويّة مهندسين من نقابة المهندسين فرع ريف دمشق، تتولى تقييم الأضرار الإنشائية في الأبنية”.

وأشار الحمود في تصريحه إلى أن “اللجنة قامت بتقييم عدد من الأبنية في مناطق مختلفة من ريف دمشق، بالتعاون بين الخدمات الفنيّة ونقابة المهندسين، وتم إعداد مخطّط تصنيفي يوضح حالة الأبنية، ويتضمّن 3 مستويات: أبنية سليمة إنشائيا، أبنية متضررة قابلة للتأهيل والتدعيم، وأبنية غير سليمة إنشائيّاً وتحتاج إلى إزالة، كما هو الحال في بعض أحياء مدينة حرستا”.

وفيما يخص إزالة الأنقاض، قال الحمود إن “العملية تنقسم إلى قسمين: أنقاض المباني الحكومية وتزال بالتنسيق مع الوحدات الإدارية والجهات العامة المختصّة، كمثال مشفى دوما الذي شارف على الانتهاء من إعادة بنائه، وأنقاض الأبنية الخاصة حيث يمكن للمالكين التقدم بطلب خطي للوحدة الإدارية للحصول على مؤازرة في إزالة الأنقاض وتنظيف الموقع تمهيداً لإعادة البناء بشكل أصولي”.

كما أشار إلى أن “هناك دراسة حالية لإعادة تقييم المخططات التنظيمية، خاصة فيما يتعلق بالارتفاع الطابقي، ما من شأنه أن يسهل على المالكين التعاقد مع مستثمرين لإعادة البناء وتسليم الوحدات لأصحابها، خصوصاً في الحالات التي لا تحقق فيها الأبنية القديمة شروط السلامة الإنشائية”.

أرقام تتحدث بصمتٍ

تُعد الغوطة الشرقية من أكثر المناطق تضرراً في محيط العاصمة دمشق، حيث تشير بيانات صادرة عن معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث (UNITAR) إلى أن نحو 35 ألف مبنى فيها تعرض للدمار الكلي أو الجزئي، نتيجة سنوات من القصف والمعارك، وتشمل المناطق المتضرّرة بشكلٍ واسع مدناً مثل دوما وحرستا وزملكا وسقبا وحمورية وعربين وعين ترما، حيث دُمّرت أحياءٌ بكاملها، لا سيما في دوما وحرستا، التي تحولت بعض أجزائها إلى أطلال.

وعلى مستوى سوريا، تظهر التقييمات الأولية أنّ أكثر من 64 ألف منزل دمر بالكامل، فيما تضرر نحو 71 ألف منزل بشكلٍ جزئيّ، وقرابة 43 ألف منزل بشكلٍ طفيف.

 أما في ريف دمشق تحديداً، فتنتشر كميات هائلة من الأنقاض الخرسانية، تقدر بنحو 6.9 ملايين طن، ما يجعلها من أكثر المناطق السورية تلوثاً بالركام، ويعقد أي جهود لإعادة الإعمار أو الترميم الذاتيّ.

هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن حجم الدمار المادي، بل تكشف عن عمق الأزمة الإنسانية التي يعيشها السكان، في ظل غياب خطة وطنية واضحة لإزالة الأنقاض أو دعم العودة الآمنة إلى المنازل المتضررة.

هل الترميم ممكن؟

يؤكد المهندس المدني فائز البستاني أن إعادة تأهيل الأبنية المتضررة في ريف دمشق تمثل خطوة أساسية نحو تعزيز الاستقرار العمراني والاجتماعي، خاصة في المناطق التي شهدت عودة تدريجية للسكان بعد سنوات من النزوح.

ويرى البستاني في تصريح لـ موقع ” تلفزيون سوريا” أن الترميم ممكن من الناحية الفنية، شرط أن تكون الأبنية سليمة من حيث البنية الإنشائية، مشيراً إلى وجود حلول هندسية معروفة يمكن تطبيقها لتدعيم الجدران والأسقف المتضررة جزئياً.

ويضيف: “الالتزام بمعايير السلامة الإنشائية هو الأساس لأي عملية ترميم، وينبغي أن يتم ذلك بالتنسيق مع الجهات المختصة لضمان جودة التنفيذ.” كما يوضح أن إعادة النظر في بعض البنود التنظيمية، مثل الارتفاعات الطابقية، قد يفتح الباب أمام حلول استثمارية تساعد السكان على إعادة البناء بشكل قانوني وآمن.

وفي السياق ذاته، يوضح المهندس المعماري إبراهيم الحسين أن الترميم يجب أن يستند إلى تقييم إنشائي دقيق، يشمل الأعمدة والأساسات والبلاطات، مع مراعاة طبيعة التربة والحمولات المستقبلية، مؤكداً أن العملية تحتاج إلى تنسيق محكم بين الجهات الفنية والإدارية.

ويضيف الحسين في تصريح لـ موقع “تلفزيون سوريا”: “في بعض الحالات، يكون الضرر محدودًا ويمكن إصلاحه بوسائل بسيطة، لكن غياب الدعم الفني والمالي يجعل الترميم مهمة صعبة على السكان.”

ويشير إلى أن إدخال المواد الإنشائية لبعض المناطق لا يزال يواجه عراقيل تنظيمية، رغم أن الأبنية لا تشكل خطراً إنشائياً، مما يؤخر عمليات الترميم ويزيد من أعباء الإيجار والنزوح الداخلي.

 مبيناً أنه “إذا تم اعتماد آلية مرنة لمنح رخص الترميم، وتوفير دعم فني من البلديات، يمكننا أن نعيد تأهيل آلاف الوحدات السكنية، ونخفف الضغط عن البنية التحتية والخدمات العامة.”

عوائق مالية: لا قروض ولا دعم

رغم عدم وجود قرار رسمي معلن يمنع منح القروض في مناطق ريف دمشق المتضررة، إلا أن شهادات متطابقة من السكان تشير إلى وجود تعليمات شفهية داخل المصارف الحكومية تقضي بعدم التعامل مع طلبات الترميم، حتى في الحالات التي يستوفي فيها المتقدمون جميع الشروط القانونية والفنية. الموظفون في بعض الفروع يبررون الرفض بعبارات عامة مثل “المنطقة غير مخدمة” أو “لا توجد تعليمات واضحة”، ما يفتح الباب أمام تفسيرات متعددة، أبرزها وجود توجيه غير معلن بتجميد عمليات الإقراض في المناطق المدمرة، والتي يخطط لإعادة تنظيمها.

يقول منذر اليوسف (50 عاماً) من أهالي منطقة دوما: “أملك جميع الأوراق المطلوبة للحصول على قرض ترميم، لكن المصرف رفض طلبي شفهياً. قال الموظّف: التعليمات لا تسمح بالقروض في منطقتك”.

ويضيف: “هذا الغموض في السياسة التمويلية يعمق شعورنا بالتهميش، ويجعل من العودة إلى منازلنا مشروعاً مؤجلاً إلى أجل غير مسمى، في ظل غياب أي بدائل حقيقية أو دعم مباشر من الدولة “.

في ظل غياب خطة وطنية واضحة لإعادة الإعمار، واستمرار تطبيق قوانين تنظيمية سابقة، ورفض الدعم المالي، يبقى مصير آلاف الأسر معلقاً بين أطلال المنازل وقسوة النزوح الداخلي.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى