
ـ في تطور لافت على الساحتين السورية والإقليمية، شهدت العاصمة الفرنسية باريس في 19 آب/ 2025 ، لقاءً مباشرًا جمع وزير الخارجية السوري “أسعد الشيباني” بوزير الشؤون الاستراتيجية في الكيان الإسرائيلي “رون ديرمر”، وذلك بوساطة ورعاية أمريكية عبر مبعوثها ” توم باراك”. وقد عُقد اللقاء تحت شعارات من بينها : ( خفض التصعيد في الجنوب السوري ـ ضمان عدم تكرار الاعتداءات والتدخلات الإسرائيلية في الشؤون الداخلية السورية ـ تفعيل معاهدة فض الاشتباك لعام 1974 ـ بحث عن تفاهمات وترتيبات أمنية مشتركة في محافظة السويداء .. ) إلى جانب نقاط أخرى لم يتم الإفصاح عنها
ـ لا شك أن ما يجري من تعقيدات على الساحة السورية .. بدأت ملامح تداعياته تتضح بوضوح منذ فشل الاجتماع التمهيدي الذي عُقد في العاصمة الأذربيجانية / باكو في تموز/ 2025، والذي رعته واشنطن بحنكة خبيثة ومدروسة. هذا المسار المزعوم الذي رُوّج له تحت شعار ” ضرورة إجراء محادثات مباشرة مع الكيان الإسرائيلي ” بهدف التوصل إلى تفاهمات جديدة تفضي إلى ” سلام عادل ودائم في المنطقة ” ، لم يكن في جوهره سوى محاولة لإنتاج مشهد تفاوضي يخدم مصالح تل أبيب بالكامل ، مقابل مزيد من العبث والتدخل في تعقيد الواقع السوري ، وتحويل الأزمات الداخلية إلى احتقان وصراعات بينية و أوراق ضغط تُستخدم لابتزاز العهد الناشئ ، بهدف فرض وقائع سياسية وميدانية جديدة على الأرض
ad
ــ وما يثير القلق أكثر لدى النخب المفكرة والمثقفة ، بل وعند غالبية عامة الشعب السوري ، أن هذا السيناريو الأمريكي لا يقدّم ” حلولًا ” بقدر ما يفرض ” وقائع ” قسرية ، تُمرَّر تحت عناوين خادعة من قبيل ” التهدئة ” و” التسوية “، و”ضرورة الحوار المباشر”، في حين أن الكلفة الحقيقية تكمن في شرعنة واقع الاحتلال الإسرائيلي الذي فُرض بالقوة العسكرية ، مع استمرار الكيان في السيطرة على أراضٍ سورية إضافية ، إلى جانب احتلاله القائم لمرتفعات الجولان ، في انتهاك صريح للشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن
ـ وفي موازاة ذلك ، لا يزال الكيان الإسرائيلي يستخدم العصا الغليظة لفرض أجنداته التوسعية ، وذلك عبر مواصلة غاراته الجوية على مواقع سيادية في قلب العاصمة دمشق ، مستهدفًا القصر الجمهوري ومبنى الأركان ، إضافة إلى مواقع عسكرية حساسة أخرى ، في مشهد يعكس بوضوح تجاهله واستهتاره بأي معاييرانسانية أو قواعد دولية
ـ أما الخطاب المتكرر والمقيت في ظاهره ، حول مسألة ضرورة ” حماية الدروز ” وتوفير ” الممرات الإنسانية ” ، فلا يبدو سوى غطاء سياسي يُستخدم لترسيخ فكرة مشاركته في إدارة محافظة السويداء من جهة ، و لتثبيت خطوط تماس جديدة تمهّد لإعادة ترسيم الجنوب السوري بما يخدم المصالح الإسرائيلية من جهة أخرى ، وذلك بموافقة أمريكية ضمنية ، ما يعكس خطورة المرحلة وحجم التحديات الوجودية التي تهدد مستقبل الدولة السورية الناشئة ووحدتها الوطنية
ad
ـ كما أن هذا المسار الافتراضي ، الذي يتم تقديمه كفرصة ذهبية لتفادي التصعيد في الداخل السوري من ناحية ، وبين مكونات المجتمع ومحيطها الإقليمي من ناحية أخرى ، فإن حقيقته تمضي في اتجاه آخر أكثر تعقيدًا وخطورة. ـ فالسيناريو الأمريكي لا ينطلق من رغبة حقيقية وملموسة في إحلال السلام ، بل من سياسة ” إدارة الفوضى ” ، حيث تعمل الولايات المتحدة على دفع السلطة السورية الجديدة إلى خيارات ضيقة ، ثم تقدم حلولها الخاصة وتعرضها كبديل عن الفوضى والانهيار الداخلي ، بينما تكون كلفتها الفعلية هي التنازل التدريجي عن الحقوق والسيادة الوطنية
ـ وفي ظل هذه التحديات الجسيمة والوقائع المتراكمة ، تبدو الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على العهد الجديد محاولة مكشوفة لدفعه نحو دور ” وظيفي ” محدد ، بدأت ملامحه تتشكّل تدريجيًا للعيان ، حيث يذكّرنا بتجارب أنظمة سابقة ، تم استدراجها إلى تقديم تنازلات حيوية ومصيرية مقابل دعم خارجي ملموس ومتعدد الجوانب ، لكنه مؤقت ، قبل أن يتم التخلي عنها بعد تنفيذ المخططات والمهام المحددة لها . وللأسف ، فإن المضي قدما في هذا المسار يمنح خصوم العهد الجديد سهامًا حادة إضافية لاتهامه بشكل صارخ بأنه أتى بدعم أمريكي وغطاء إسرائيلي لأداء دور وظيفي مرسوم مسبقًا ، لا لبناء مشروع وطني حقيقي
ـ وفي هذا السياق ، فإن اللقاء الذي جرى في باريس مؤخرا .. قد قدّم خدمة سياسية مجانية لرئيس وزراء الكيان الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو” ، الذي يعاني من اضطرابات حكومية و داخلية قوية. فقد استثمرذلك اللقاء مباشرة في مواجهة خصومه ، والاحتجاجات الداخلية ضده ، والضغوط القضائية التي تهدد موقعه ومنصبه. حيث جاء اللقاء في توقيت سياسي بالغ الحساسية ، ليمنحه رمقًا جديدًا ، يُسوّقه داخليًا على أنه نجاح دبلوماسي في تحقيق اختراق سياسي مع دمشق ، بينما يكون الثمن الحقيقي مدفوعًا من الرصيد السوري
ـ في مواجهة هذا المشهد المعقّد ، لا بد من التأكيد على أن قوة العهد الجديد لا تتأتّى من التفاهمات الخارجية ، على الرغم من أهميتها الحيوية ، بل من الارتكاز إلى الداخل ، وخلق شرعية سياسية قائمة على الإرادة الشعبية ، لا على التوافقات الدولية. إن الإسراع في عقد مؤتمر وطني شامل ، وإطلاق المجلس التشريعي ، يُمثّلان اليوم خط الدفاع الأهم في وجه الضغوطات الدولية ، وهما الكفيلان بتحصين شرعية القرار الوطني ، ووضع حدّ لأي سيناريو تطبيعي لا يخدم المصلحة الوطنية.
ـ إننا نكتب من منطلق وطني صادق ، لا من باب المناكفة أو التشكيك ، وندرك تمامًا حجم التعقيدات التي تواجه العهد الجديد ، لكننا نؤمن أن هذه اللحظة المفصلية تتطلّب تواصلًا مباشرًا ودائمًا ومستمرًا بين القيادة والشعب ، تُشرح فيه مجريات الأحداث بكل مصداقية وشفافية ، حتى يدرك الشعب السوري ما يجري حوله ، ولا يصغي إلى المنابر المشبوهة التي تدسّ السمّ في الدسم
ـ في النهاية .. فإن أي مسار لا ينطلق من استعادة الأرض والحقوق كاملة هو مسار محفوف بالمخاطر، مهما حمل من وعود و شعارات برّاقة. والرهان الحقيقي يجب أن يكون على الشعب والمؤسسات والدستور، لا على لقاءات عابرة أو وعود خارجية. فالمعركة اليوم ليست فقط مع عدو خارجي ، بل مع سيناريو أمريكي خبيث يسعى لإعادة رسم الخارطة السورية بما يخدم مصالح الكيان الاسرائيلي الذي يسعى جاهدا لإبقاء الدولة السورية في حالة تمزق وصراع دائم . وما لم يتم تدارك هذا المسار بسرعة ، فإن تداعياته لن تتوقف عند حدود الجنوب والشمال ، بل ستطال هوية الدولة وانتماءها ووحدة أراضيها
كاتب وباحث سوري مقيم في ألمانيا
ألمانيا ـ كولن
أعلى النموذج
المصدر: رأي اليوم
أسفل النموذج