
لقد أخفق المشهد الثقافي السوري، على مدى عقود مضت، في أن يكون أحد عوامل المقاومة في وجه تسلط الدولة وتوحشها وتغولها على حقوق المواطن، كما أخفق في أن يجسد جبهةً منحازة لقيم الحق والمواطنة والعدالة وسيادة القانون. ولا شك أن أسباب هذا الإخفاق لا تكمن في طبيعة المثقفين أو بنية الثقافة فحسب، وإنما تعود – في غالب الأحيان – إلى عوامل موضوعية أخرى، لعلّ أهمها الظروف السياسية وتداعياتها على جوانب الحياة الأخرى، ولا ريب أن الثقافة من أبرز تلك الجوانب التي تأثرت بفعل تلك العوامل.
لم تكن المسألة الثقافية في ظل الحقبة الأسدية شأنًا نافلًا كما يتوهم بعضهم، بل كان الحقل الثقافي يحظى باهتمام كبير من جانب السلطة. ولهذا، لم يعمد نظام الحكم إلى تجاهل المشهد الثقافي، بل سعى إلى مصادرته أولًا، ومن ثمّ توظيفه ليكون عاملًا في تعزيز وجود السلطة والدفاع عن استمراريتها. وربما كانت الكيانات الثقافية الرسمية هي الأقدر على تبرير وشرعنة خطاب السلطة، ومن ثم تصدير هذا الخطاب باعتباره التجسيد الأرقى لحال “الوطن – الأمة”.
لقد ضمنت السلطة الأسدية، من الكيانات الثقافية، مسألتين أساسيتين: تتمثل الأولى في جعل تلك الكيانات شريكةً في إنتاج السلطة، وتتجلى المسألة الثانية في رسم منهج صارم بتدجين تلك الكيانات من جهة بقائها مرتبطةً ارتباطًا مطلقًا بالسلطة.
ويمكن لنا في هذا السياق الإشارة إلى الدور الذي نهض به اتحاد الكتّاب العرب في سوريا، ممثلًا برئيسه (علي عقلة عرسان)، الذي شغل منصب رئيس الاتحاد طوال ثمانٍ وعشرين سنة (1977 – 2005)، فضلًا عن توليه مناصب أخرى موازية، كمعاون لوزير الثقافة، ورئيساً لإدارة المسارح، ومسؤول مباشر عن جميع المطبوعات الدورية التي تصدر عن الاتحاد. إذ من يقرأ ويتابع ما يكتبه عرسان، سواءٌ في افتتاحيات صحف ومجلات الاتحاد، أو ما ينشره في أماكن أخرى، سيقف عند أمرين اثنين:
1 – قدرة فائقة على إعادة إنتاج خطاب السلطة، ولكن بمرجعية قومية تجسد بدقة كبيرة النهج الذي اتبعه حافظ الأسد في التعاطي مع القضايا العربية والدولية.
2 – نبرة الثقة البارزة في كتابات علي عقلة عرسان – آنذاك – توحي بأنه ليس مجرد ناقل خبر، بل قريب من دوائر مصدر القرار السياسي، وربما كان هذا نتيجة لكونه أحد مستشاري رئاسة الجمهورية للشؤون الثقافية.
ولم يكن الدور المنوط بوزارة الثقافة مغايرًا لمسار اتحاد الكتّاب، إذ لم تكن (نجاح العطار)، التي بقيت على رأس الوزارة المذكورة طوال أربعٍ وعشرين سنة (1976 – 2000)، بأقلّ قدرةً وحرصًا من نظيرها في رئاسة الاتحاد، على الامتثال لخطاب السلطة بغية إعادة إنتاجه وتصديره ثقافيًا.
لقد ضمنت السلطة الأسدية، من الكيانات الثقافية، مسألتين أساسيتين: تتمثل الأولى في جعل تلك الكيانات شريكةً في إنتاج السلطة، وتتجلى المسألة الثانية في رسم منهج صارم بتدجين تلك الكيانات من جهة بقائها مرتبطةً ارتباطًا مطلقًا بالسلطة، من دون أي هامش يوحي بالتغاير أو الاستقلالية.
لم يمنع هذا المسار من العلاقة بين الأطر الثقافية الرسمية والسلطة من حدوث وفرة في المُنتج الثقافي، وذلك من جهة كثرة المطبوعات الدورية وتعدد الخطط والمشاريع الصادرة عن وزارة الثقافة، واستمرار وتنوع الأنشطة الثقافية، وإقامة الندوات والفعاليات الثقافية. ولكنها وفرة موظفة توظيفًا منهجيًا لتعزيز السلطة والاستمرار في إعادة إنتاجها بالدرجة الأولى، وليست وفرةً تلبّي حاجة مجتمعية أو تأتي استجابةً لواقع حياتي اجتماعي ذي صلة بمصالح المواطنين أو حاجاتهم، أو تكون تعبيرًا عن تفاعل إنساني من المثقف حيال الناس. وربما لهذا، لم يكن لدى السلطة أي تحفظ حيال دعم مشاريع كإعادة طباعة موسوعات من التراث الأدبي وتوزيعها بأسعار رمزية، أو تقديم الدعم المالي لمهرجانات فنية، أو استضافة فعاليات لأيام عديدة. كما لم تُبدِ السلطة أي تحفّظ من شيوع حراك فكري يطول مسائل فكرية وفلسفية وأدبية متنوعة، طالما أنها لا تتجاوز التخوم التي رسمتها السلطة. ولكنها – من دون أدنى ريب – لن تسمح بنشر مقالة صغيرة الحجم تحمل – تلميحًا أو تصريحًا – مضمونًا مغايرًا لمصالح السلطة وتوجهاتها الأمنية أو السياسية.
جناية الحقبة الأسدية على الثقافة في سوريا لا تنحصر بتجفيف الثقافة أو مصادرتها وتوظيفها لخدمة نظام الحكم فحسب، بل بتشويه ومسخ مفهوم الثقافة والمثقف معًا، أي بإفراغ الثقافة من مضمونها الإنساني التحرري، وكذلك من خلال تجريد المثقف من بواعثه الأخلاقية وانحيازه إلى قيم الحق والحرية والعدالة، والتزامه بسلطة الضمير قبل امتثاله لسلطة أرباب الحكم والمصالح.
المثقف ليس صاحب شهادة أو كمّ معرفي فحسب، بل هو – إضافةً إلى ذلك – صاحب ضمير شديد الغيرة والانحياز إلى كل ما هو إنساني.
لا شك أن اندحار نظام الأسد قد أورث البلاد السورية كمًّا هائلًا من الخراب، سواء في البنية المادية أو البشرية، وعادت سوريا إلى حالة صفرية من جهة افتقارها إلى جميع مقومات الحياة من جهة الخدمات الأساسية وبناء المؤسسات والمرافق الحياتية الأخرى. إلا أن هذا الخراب المادي يوازيه منجز كبير كان نتاجًا حقيقيًا لمعاناة السوريين ونضالهم طوال سنوات الثورة، سعيًا إلى التحرر من العبودية والظلم. ولا شك أيضًا أن انتصار ثورة السوريين إنما جسّد انتصارًا لإرادتهم من جهة، كما جسّد ولادة وعيٍ جديد أكثر قدرةً على فهم واستيعاب قيم الحداثة والحرية وحقوق الإنسان من جهة أخرى. وبالتالي، فإن هذا المنجز العظيم لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه في نهضة سوريا أو تعافيها، بل هو ما ينبغي البناء عليه.
ولعلّ هذا ما يجعل الكيانات الثقافية الرسمية في الدولة السورية الجديدة – سواء في وزارة الثقافة أو اتحاد الكتّاب العرب – أمام مسؤوليات كبيرة، تتجاوز من خلالها الفهم الأسدي البائس لمفهوم الثقافة ودورها وفاعليتها في الحياة والمجتمع، وتسعى إلى التأسيس لمنهج جديد في التفكير والعمل معًا، يتماهى مع المعطيات الجديدة لوعي السوريين الذي انبثق وتجدد مع تطلعهم إلى الحرية واستعادتهم لحقوقهم. ولا شك أن هذا النهج المأمول من الكيانات الثقافية لا يقف عند حدود الجوانب التنظيمية والإدارية، أو إعادة توزيع الأدوار، أو إعادة النظر في المواقع الوظيفية فحسب، بل عليه أن يمتد إلى التخلي عن سياسة احتكار النفوذ، وتجاوز ثقافة المحاور والشللية، والارتقاء إلى ثقافة المؤسسات التي تعزز القناعة لدى المبدعين السوريين بأن الثقافة ليست تجسيدًا لإرادة الحاكم، كما أنها ليست شأنًا ملحقًا بالسياسة، بل هي إحدى محدداتها الإنسانية، فضلًا عن كونها مسؤولية أخلاقية. وأن المثقف ليس صاحب شهادة أو كمّ معرفي فحسب، بل هو – إضافةً إلى ذلك – صاحب ضمير شديد الغيرة والانحياز إلى كل ما هو إنساني.
المصدر: تلفزيون سوريا