التزلُّف السياسي في سوريا بوصفه نسقاً ثقافياً

فاطمة عبود

خلال الحقبة الزمنية التي حكمت فيها عائلة الأسد سوريا، شكَّلت ظاهرة التزلُّف السياسي (التطبيل للسلطة) إحدى السمات الأكثر رسوخًا في الحياة السياسية والاجتماعية؛ إذ كانت تعبِّر عن الولاء السياسي والتبعية، ثمَّ تحوَّلت، مع مرور الأيام، إلى منظومة ثقافية متجذِّرة، تجاوزت أطر العلاقة بين الحاكم والمحكوم إلى عمق البنية النفسية للمجتمع.

وبعد سقوط النظام الأسدي البائد، يمكننا أن نطرح عدَّة تساؤلات عن مصير هذه الظاهرة في حياة السوريين: هل يمكن لها أن تضمحل وتتلاشى بمجرد زوال النظام الذي ارتبطت به لعقود طويلة؟ أم إنَّها، وقد تشكَّلت وترعرعت في رحم الاستبداد، قادرةٌ على الاستمرار والتكاثر بأشكال متحوِّرة، حتى في غياب مَنْ أنشأها؟

اشتغل النظام البائد، منذ بداياته، على تشكيل بنية الوعي الجمعي لدى السوريين، حتى أصبح التزلُّف السياسي واحدًا من أهم الأسس التي سعى إلى ترسيخها في عمق وعيهم، كحال الطاعة المطلقة، والتمجيد المفرط، والتقديس الأعمى. فمنذ سبعينيات القرن المنصرم، بنى النظام الأسدي مشروعيته على تمثيلات رمزية تعيد إنتاج الزعيم بوصفه أبًا ومخلِّصًا ومصيرًا، ما حوَّل الولاء له إلى عبادة مقنَّعة تتطلَّب من الفرد أن يبالغ في تمجيد الحاكم كلما ازداد قهره. فبات التزلُّف وسيلة للبقاء، أكثر منه تعبيرًا عن القناعة.

المفارقة المؤلمة أنَّ الذين اعتادوا لسنوات تمجيد الأسد، انتقلوا بسلاسة إلى تمجيد البديل الذي يحمل خطابًا مناقضًا له.

هذه البنية التي تموضعت في الوعي الجمعي السوري لم تكن مجرد انعكاس لإرادة السلطة فحسب، إذ التقت هذه الإرادة مع البُنى التقليدية الكامنة في النسيج الاجتماعي ذاته، حين وجدت السلطة في البُنى الأبوية والطائفية والقبلية أرضًا خصبة تُعيد من خلالها إنتاج نموذجها السلطوي في الحياة اليومية. وهكذا، لم تعد السيطرة مفروضة من خارج الذات، بل أُعيدت هيكلتها لتنبع من الداخل، فتجسَّدت في اللغة، والعلاقات، ونمط التفكير. من هنا، يصعب الحديث عن التزلُّف السياسي بوصفه آلية فُرضت فرضًا على الشعب السوري، لأنَّها غدت وكأنها تواطؤ ضمني بين سلطة تريد السيطرة، ومجتمع أُضعف على مدى أجيال حتى فقَد القدرة على التفكير خارج شرط القوة.

غالبًا ما يُتوقع، عقب انهيار أي نظام شمولي، أن تتفكَّك البُنى الثقافية المرتبطة به. غير أن الواقع السياسي لا يسير وفق نظام خطيّ متتابع. وتجارب الشعوب العربية، كالعراق وليبيا ومصر، كشفت بوضوح كيف أن الظواهر الرمزية المرتبطة بالاستبداد لا تزول بزوال الحاكم، إذ قد تتخذ وجوهًا جديدة، أكثر غموضًا وتسللًا. وفي سوريا، يبدو أنَّ التزلُّف السياسي لم يفقد طاقته، بل بدأ يعيد تشكيل نفسه بصيغ رمزية جديدة. والنتيجة أن المنطق لم يتغيّر، فالآلية التي عمل النظام الأسدي على ترسيخها ظلَّت قائمة، لأنها مرتبطة بالحاجة الملحَّة إلى رمز يوفِّر الإحساس بالحماية والانتماء، وكأن النجاة لا تتحقق إلا بوساطة شخصية مخلِّصة يُنظر إليها بوصفها الضامن الوحيد للاستقرار، في حين يُمثِّل غيابها انهيارًا للمعنى والمصير معًا.

المفارقة المؤلمة أنَّ الذين اعتادوا لسنوات تمجيدَ الأسد، انتقلوا بسلاسة إلى تمجيد البديل الذي يحمل خطابًا مناقضًا له. إن هذا التناقض يكمن في آلية التفكير التي ظلَّت على حالها، عند البعض، ولم تتغير أو تتطوّر. فتزلُّف هؤلاء لا ينبع، في جوهره، من موقف سياسي، بقدر ما هو فعل دفاعي نفسي، يعكس اضطراب الهوية الذي يعاني منه عدد لا يستهان به من السوريين؛ إذ يصعب على الأفراد الذين نشؤوا في بيئة قمعية التخلِّي عن عادة المبالغة في الولاء، لأنهم لم يتعلموا آليات التفكير النقدي، ولم يختبروا ممارسة الحرية من دون خوف. لذلك، فإنَّ زوال النظام لا يفضي تلقائيًا إلى ولادة وعي ديمقراطي، بل قد يُنتج أشكالًا جديدة من الولاء الأعمى تحت شعارات مختلفة، ويندرج هذا السلوك ضمن ما يمكن تسميته بـ”تشظي الهوية السياسية”، حيث يفقد الأفراد القدرة على التمييز بين الالتزام الواعي بالقضايا العامة، وبين الارتهان النفسي لرموز تعويضية.

واللافت أنَّ التزلُّف السياسي لم يعد مقتصرًا على النظام البائد أو مناصريه، بل تسلَّل إلى الخطاب المعارض ذاته. وهذا التقديس المضاد، وإن بدا في ظاهره مناهضًا للاستبداد، إلا أنَّه يعيد إنتاج منطق الهيمنة ذاته، الذي تسعى الإدارة الجديدة إلى محاربته والقضاء عليه، كما رأيناه في ظاهرة إزالة الصور واللافتات، حيث يُختزل الموقف السياسي في شعارات فارغة، وتُستبدل الحرية المطلوبة بحرية وهمية. وبهذا المعنى، يصبح التزلُّف السياسي عائقًا أمام التحول الديمقراطي؛ لأنه يعطّل النقاش، ويرفض الاختلاف، ويمنع المجتمع من التمرُّن على الفعل النقدي بوصفه جوهر السياسة.

التحرُّر من التزلُّف السياسي هو شرط سياسي وثقافي لأي مشروع نهضوي حقيقي.

في هذا السياق، تظهر الحاجة إلى تفكيك الظاهرة من خلال تحليل السياق الذي أعاد إنتاجها في غياب السلطة التي أنشأتها. فالتغيير السياسي لا يمكن أن يكون عميقًا من دون ثورة معرفية تراكمية تعيد بناء العلاقة بين الفرد والسلطة، بعيدًا عن الولاء العاطفي. إذ يجب أن تُبنى العلاقة على أساس المواطنة والمساءلة. فالمطلوب ليس فقط هدم الاستبداد في صورته المادية، بل تفكيك بنيته الذهنية والثقافية التي لا تزال حاضرة في وعي الناس، حتى في خطاب التحرر.

ولكي يتحقق هذا التحول، لا بدَّ من إشراك التعليم، والإعلام، والمجتمع المدني في مشروع نقدي شامل، يعيد تعريف القيم المؤسِّسة للوعي الجماعي، ويمنح الأفراد أدوات معرفية تُعينهم على التفكير المستقل. فالتحرُّر من التزلُّف السياسي هو شرط سياسي وثقافي لأي مشروع نهضوي حقيقي. ومن دون هذه الخطوة، سيظل المجتمع يدور في حلقة الولاء والتبجيل، مهما تغيَّرت الوجوه والأسماء. فسقوط النظام لا يعني سقوط التزلُّف السياسي المقيت، بل قد يكون لحظة ولادته الثانية، وذلك حين يتحوَّل من سلوك مفروض بالقوة إلى عادة داخلية. وعندئذ، يصبح الخطر أكبر، لأن الاستبداد الجديد لن يحتاج إلى القمع العلني، بل يكفيه أن يحظى بتزلُّف طوعي من مجتمع لم يتعلم بعد كيف يكون حرًّا.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى