
أولا :وحدة المجتمع الوطني
ثانيا : وحدة جغرافية المجتمع
ثالثا : القدرة على الوفاء بواجبات الجغرافيا السياسية للدولة
رابعا: طبيعة المجتمع المدني ودوره في تحصين المجتمع
خامسا : مواجهة الدمار وإعادة الأعمار
سادسا: القيام بموجبات مهمة محاربة الإرهاب
أولا : وحدة المجتمع الوطني
في السعي لوحدة هذا المجتمع يبرز أهمية مفهوم “الاسترداد”
** استرداد المكونات التي عملت قوى النظام البائد والقوى ذات المشاريع الانفصالية على اختطافها.
** استرداد عموم المنطق السياسي والاجتماعي من النظرة الطائفية، وإعادته إلى النظرة الوطنية.
**استرداد السلوك العام من مفهوم الاعتماد على قوة السلطة في الوصول إلى ما يريد كل منا، إلى الاعتماد على قوة القانون ومؤسساته الشرعية في تحقيق هذا الهدف.
**استرداد قيمة القانون، وقيمة القضاء ورجالاته وحمايته من تغول السلطات التنفيذية عليه. وقيمة العلم ورجالاته.
في 8 ديسمبر 2024 انهار النظام الأسدي، وهرب رأس النظام من سوريا، وهرب واختفى الصف الأول الذي كان يمسك بمقدرات سوريا، وانحلت وتفككت البنى العسكرية والأمنية لذلك النظام مع دخول قوات الفصائل دمشق، مختتمة بذلك معركة استمرت في فصلها الأخير خلال أحد عشر يوما، سقط النظام الذي استمر قابضا على المجتمع والحياة السورية أكثر من ستة عقود، ختمت بأربعة عشر عاما من قتل وتشريد وتهجير وتدمير واخفاء قسري لا يعرف التاريخ الحديث للبشرية نظيرا لها.
وبسقوط النظام تكون قوى الثورة المسلحة بفصائلها المختلفة تتقدمها “هيئة تحرير الشام” قد استردت السلطة من ذلك النظام الغاشم الذي حاز بجدارة وصفه بأنه نظام “فاسد مستبد طائفي وإرهابي قاتل”.
ولأن للنظام البائد تلك الصفات فإن استرداد السلطة منه مثل الخطوة الأولى الضرورية على طريق استرداد المجتمع السوري مما أوقعه فيه ذلك النظام.
وفي مقدمة ما بات ضروريا استرداده هو وحدة هذا المجتمع، الوحدة الداخلية لهذا المجتمع الذي عمل النظام البائد على تخريبها.
استرداد المكونات الوطنية الأثنية والمذهبية والدينية والمناطقية التي عملت قوى النظام البائد على تحويلها من مظاهر لتنوع غني يثري حياة هذا المجتمع، إلى ثغرات لتفتيته وشله عن الحركة، وإلى مداخل لحركات انفصالية تجزيئية وجدت لها دعما خارجيا متعدد الجهات.
لقد تصدرت مهمة استرداد مكونات المجتمع السوري من المنطق الطائفي الى المنطق الوطني كل المهمات الأخرى، ليصبح النجاح في تحقيق ذلك هو المؤشر على صحة الطريق الذي تسير فيه قوى السلطة الجديدة، صار مطلوبا أن يستعيد المجتمع السوري معيار “المواطنة” ليكون هو المعيار الأول في الحكم على الأفراد والمكونات والجماعات والأفكار.
والمهمة هنا ليست سهلة، لأنها تواجه أكثر من ستين عاما من سياسات قائمة على مفهوم طائفي تخريبي، ربط كل شيء برؤية طائفية قائمة على ولاء لا حدود له، ومدعمة بمكاسب، وفرص، وتميز اجتماعي، جعلت من هؤلاء طبقة فوق طبقات المجتمع، وطائفة فوق طوائف المجتمع، بل وولدت “دينا / أو سلوكا دينا” فوق دين المجتمع.
هذه المهمة، مهمة استرداد المجتمع السوري من الهاوية التي دفعه إليها النظام البائد، وإقامته من جديد على مفهوم الوطنية والمواطنة، يحتاج إلى جهد جماعي مثابر، وإلى التعالي فوق جراح تلك المرحلة.
وحينما نقول جهد جماعي، فهذا يعني جهد السلطة، وجهد القوى الاجتماعية، وجهد الناس جميعا، إذ إن المنطق الطائفي التفتيتي، ونتيجة طبيعته العدواني، وما ارتكب في زمنه من جرائم، وولد من أحقاد، بات متغلغلا في المنطق العام للمجتمع، حتى في وصف النصر الذي تحقق على النظام الأسدي بات عند البعض يوصف بأنه ” نصر للسنة” على الطوائف الأخرى، أي أن هذا النصر الذي استعاد السلطة، ويعمل على استعادة المجتمع السوري كله، بات يقدم “من قبل هذا البعض” من زاوية طائفية تعتمد مفهوم الأكثرية والأقلية، وبدأ هذا المنطق يسري بسهولة لأن “السنة” في الواقع يمثلون الأغلبية الساحقة من المسلمين في سوريا، وكانوا عبر تاريخ سوريا وتاريخ المجتمعات الاسلامية بمثابة تعبير عن “الأمة كلها”، بمختلف تنوعها الديني والمذهبي. تماما كما كان “العرب” هم التعبير الثقافي عن “الأمة”، دون أن يعني هذا أو ذلك استئثارا أو تعاليا، أو امتيازا في السلطة أو الثروة أو المكانة الاجتماعية.
وحديثنا عن الطائفية ليس حديثا في إطار الشعارات، والمفاهيم النظرية العامة، وإنما هو حديث عن امتيازات، ومآلات، وحصون، وأمان، يشعر به الفرد ويناله حينما ينتمي إلى هذه الطائفة أو تلك، واستنادا إلى هذا المعنى الملموس لا يعود هناك فرق جوهري في أن يكون انتماؤك طائفيا ل”الأغلبية أو الأكثرية”، ما دام لديك القناعة والاحساس بأن هذا الانتماء هو ما يحقق لك الأمن والأمان، وهو ما يوفر لك الفرص للتقدم والتطور، وهو ما يمكنك من الحصول على مبتغاك من الثروة ويفتح لك أبوابها.
وما يقابل هذه “الطائفية” ويكون نقيضا لها وهو ما يجب استرداده ويعتبر المهمة الأولى والأولى والأهم في استعادة المجتمع لصحته، هو “الوطنية، والمواطنة”، حيث السبيل إلى كل ما سلف هو الانتماء إلى الوطن، وما يحققه هذا الانتماء من مساواة عادلة بين الجميع في نيل الأمن والأمان، وفرص العلم والعمل والبناء، وحقك في ثروة المجتمع وتقدمه.
ونحن حينما نطبق هذا المقياس على نظام الحكم البائد سنكتشف أنه كان طائفيا بامتياز:
** طائفيا في احكام السيطرة على مراكز القوة والعنف من جيش وأجهزة أمن.
** وكان طائفيا في التعليم وفي دفعات المبتعثين الى الخارج
** وكان طائفيا تعيينات القضاء والتعليم الجامع العالي.
** وكان طائفيا في الامتيازات الخاصة بالشركات وتوزيع ثروات المجتمع.
** وكان طائفيا في خرائط الاعتقالات والضغط السياسي. والاخفاء القسري، والتدمير الممنهج لحياة السوريين طوال العقود الستة الماضية، وخصوصا السنوات الأربع عشرة الأخيرة
** وكان طائفيا في عمليات التهجير التي تخلفت عن القصف الممنهج السوري، الروسي، الإيراني للمدن والأحياء السورية.
لقد كان النظام البائد طائفيا في كل شيء، وعلينا أن نسترد كل مكونات المجتمع وبنيته من هذا هذه الطائفية المقيتة ونعيدها إلى مفهوم ومقياس وقيم المواطنة.
ويمتد مفهوم استرداد المجتمع السوري ليغطي ضرورة استرداده من “القيم الاجتماعية المشوهة” التي استنبتت فيه على مدى الفترة الأسدية /البعثية.
من هذه القيم التي يجب استعادتها، قيمة القانون، وقيمة القضاء، وقيمة مؤسساته الشرعية في الوصول إلى الحقوق، وفي ضبط الأداء العام، بدل قيمة “الواسطة، وقوة السلطة الغاشمة”، التي باتت السبيل لإضاعة الحقوق والاستئثار بالمكاسب، والسطو على أمن الناس واستقرارهم.
ومن هذه القيم استعادة المكانة والقيمة الأخلاقية والاجتماعية للتعليم ورجالاته، ومؤسساته، والتي أصابها النظام البائد بمقتل، حتى بات التعليم والمعلم، مجرد سلعة معروضة في السوق يتحكم بها من يملك القدرة على الدفع، “مدارس خاصة، دروس خصوصية، مترافق مع اهمال متعمد للتعليم العام،..الخ”.
ومن هذه القيم التي علينا استردادها قيم “المسؤولية الاجتماعية الجماعية” إزاء كل ما له صفة “الجماعة” وقد أقيم وود ليخدمها، وكل ما يتصل بأداء الجماعة، من التعاون بين “الناس” في الأحياء والمناطق بشأن النظافة، والأمان، وصولا إلى المسؤولية المشتركة في تحقيق أمن المجتمع، وأمن وأمان الملكية العامة بتجلياتها المختلف في هذه الأحياء والتجمعات الحضرية.
ومن هذه القيم أيضا استرداد القيم الخاصة بالأسرة ومسؤولياتها في تربية الأبناء، وفي زرع القيم الإيجابية في شخصيتهم. وضرورة تعزيز الدولة والسلطة لهذه القيم من خلال قوانين وإجراءات تمكن كل أسرة من القيام بواجباتها إزاء تربية الأبناء، وتعليمهم، وتوجيههم، باعتبار ذلك كله جزءا من الوظيفة الاجتماعية للأسرة التي يثاب عليها، ويسأل عنها الوالدان.
ثانيا: في الوحدة الجغرافية للوطن.
هذا شعار رئيسي حقيقي، وحين نتابع تصريحات السيد رئيس الجمهورية، وكذلك وزير الخارجية نرى اصرارا وتكررا في التشديد عليه. وهو ما يوحي بأن هناك خطر حقيقي على هذه الوحدة، وهو كذلك لا شك.
**وحدة الجغرافيا لا تتحقق إلا بخضوع هذه الجغرافيا خضوعا غير منقوص للسلطة وللسيادة الوطنية العامة.
– الاحتلال أي وجود أراض محتلة يطعن في هذا المفهوم.
– وجود سلطات الأمر الواقع يطعن في هذا المفهوم .
ـ توزيع الثروة الوطنية على غير قاعدة التنمية والعدل والالتزم الوطني يطعن في هذه الوحدة.
ـ وجود حواجز لتعطل أو تعيق تنقل أو تملك أو إقامة أو الاستثمار لأي مواطن سوري، في أي جزء من هذه الجغرافيا، يطعن في هذه الوحدة.
يجب أن ندرك أن وحدة الجغرافيا هي أحد المعادلات الموضوعية لمفهوم المواطنة.
إذ لا مواطنة واحدة إن لم تكن هناك جغرافيا واحدة للدولة.
ويجب أن ندرك أيضا أن رفع شعار “وحدة الجغرافيا السورية”،،إن كان شعارا حقيقيا وليس مجرد طرح نظريفإنه يتجلى في قضايا، وأوجه عديدة من أهمها:
1ـ الموقف الحاسم ضد الاحتلال الاسرائيلي للجولان السورية، وبالتالي الالتزام باسترجاع هذه الأراضي المحتلة بكل الوسائل التي تؤمن عودتها كاملة غير منقوصة .
2 ـ الموقف الحاسم من المشاريع الانفصالية التي جسدت قسد أبرز تجلياتها، وهناك من يعمل لمثلها في الساحل والجنوب، ومن يعمل على اختطاف مكونات وطنية سوريا لهذه الاستهدافات التي تريد تفتيت هذا الوطن .
والموقف الحاسم يعني أنه ليس هناك حلولا وسطا مع هذه المشاريع والحركات الانفصالية، التي تحاول أن تتخفى خلف مظلومية تاريخية مزعومة، وخلف مظلومية اجتماعية راهنة، وتعمل على اختطاف المكون الاثني أو الطائفي التي تنتمي إليه، والادعاء بتمثيله.
3 – الموقف الحاسم من مفهوم “الحكم المحلي”، و”الإدارة المحلية”، وما يتصل بهذا المفهوم من صيغ وتصورات، حتى لا يتحول إلى مدخل لتعزيز مشاريع التجزئة والانفصال، والتدقيق بحيث لا تتعدى هذه المفاهيم نطاق ترشيد العمل في المحافظات والحواضر المتخلفة، ولا تقوم على أي أساس أو قاعدة أثنية أو طائفية، ولا تختص بأجهزة أمن أو قوات محلية مستقلة عن أجهزة الأمن والقوات العسكرية الوطنية. ولا تقيم علاقات مع الخارج سياسية وتمثيلية مستقلة عن علاقات الدولة.
وبإيجاز فإن هذه السلطات المحلية، هي سلطات وطنية قائمة تحت مظلة الدولة، ولتحقيق مصالح المواطنين في منطقتها بشكل أفضل، وتيسير أمورهم، وتوفير فرص التعاون والمشاركة في النشاط العام وإخضاع هذه السلطات المحلية للرقابة الشعبية المباشرة.
نحن في اتجاهنا إلى “الإدارة المحلية”، نبحث عن كفاءة الإدارة، وعن التشاركية الشعبية، وعن التخفف من أعباء وضغوط الارتباط بالمركز في تسيير شؤون الناس، وفي توفير الأمن والأمان المحلي المرتبط بالبنية الاجتماعية المحلية، ولا نبحث أو نستبطن الاستقلالية أو الانفصالية عن السيادة الوطنية.
ثالثا: في الوفاء باحتياجات الجغرافيا السياسية للدولة والمجتمع السوري
وذلك يستدعي منا الاطلالة على تجليات هذا المفهوم الذي يعبر في عمقه عن دور “الدولة والمجتمع في الحيز الجغرافي” وفيما يحيط به من مجتمعات ودول وتكتلات ومصالح.
إن أي دولة أو مجتمع لا يدركُ بشكل صحيح ما تفرضه عليه جغرافيته السياسية، فيميل إلى “العزلة”، أو إلى التجاوز والتمدد فإنما يحكم على نفسه بالفشل والانتكاسة وإهدار الوقت والامكانات، لأن “فرائض الجغرافيا السياسية”، ليست متولدة عن قرارات نظام معين، ولا تصنعها مرحلة معينة، وإنما هي أشبه بعنصر “الشخصية” للإنسان، يصنعها ويحددها، ويرسم معالمها التطور التاريخي، حركة التاريخ، وهي ذات تجليات سياسية وثقافية، وروحية، واقتصادية ، لا يمكن الفكاك منها.
إن الانتماء العروبي لسوريا ليس مسألة رفاة يمكن تأجيلها، والالتزام السوري تجاه فلسطين، ليست عملية تزيًد يقدم عليها النظام السياسي، وإنما هي اسباغُ الثوب الصحيح “لونا ومقاسا ونسيجا” على سوريا، وهي لا تستطيع أن تعيش بدونه ولا تستطيع أن تكون خارجه، المسألة هنا ليست خيارا، وإنما توافقا مع بنية هذا المجتمع ومكوناته، وحينما لا تدرك أي قيادة سياسية هذا المعنى لفرائض للجغرافيا السياسية قصورا أو تجاوزا فإنها تحكم على نفسها بالفشل، وبالعزلة، أو بالمغامرة والرهانات الخاسرة.
رابعا: مؤسسات المجتمع المدني ودورها في تحصين المجتمع.
توصف مؤسسات المجتمع المدني، بأنها مؤسسات قانونية غير حكومية، وغير سياسية، وغير ربحية، وتطوعية.
تستهدف في عمومها تقديم خدمة عامة، شاملة أو قطاعية. وتعمل في ظل القانون العام، وتأخذ منه مشروعيتها وحمايتها.
وبذلك تكون مروحة مؤسسات المجتمع المدني واسعة جدا، تمتد من منظمات حقوق الإنسان، إلى منظمات رعاية السجناء وأسرهم، إلى منظمات حماية رعاية القوى الأضعف في المجتمع، إلى منظمات وهيئات متابعة الشفافية في الأعمال والنشاطات السباسية والانتخابية، إلى الجمعيات الخيرية، والنقابات، مراكز البحوث ….الخ
وتساهم هذه في تطوير المجتمع وفي تأمين عوامل استقراره، وفي تنمية روح المسؤولية الاجتماعية لدى أفراد المجتمع كما تساهم في توفير أسس الحكم الرشيد .
لذلك يعتبر حجم وفعالية مؤسسات المجتمع المدني مؤشرا على مدى تقدم واستقرار المجتمع، ومعيارا أيضا على توفر الديموقراطية الحقيقية في المجتمع.
ولأن هذه المؤسسات تطوعية وغير ربحية، فعلى المجتمع أن يؤمن لها مصادر التمويل الكافية لنشاطها، وفي الوقت نفسه يضمن لها أن لا تتحول إلى ثغرات يتم من خلالها اختراق المجتمع من قبل قوى ومؤسسات خارجية، أو الخضوع إلى سيطرة، قوى وأحزاب داخلية.
إن الاستقلالية المادية، والشفافية المستدامة، في عمل هذه المؤسسات ضروري لوجودها، ولاستمرار هذا الوجود، ولتحقيقها لأغراضها التي وجدت لأجلها.
مهم أن نلاحظ هنا أن على الدولة وليس السلطة أن توفر سبل الدعم الاجتماعي المادي لهذه المؤسسات، وقد يكون هذا من خلال الاعفاءات الضريبية لها ولنشاطاتها، أو الاعفاءات للمتبرعين لها من أفراد أو شركات، أو المنح، أو من خلال النصوص القانونية التي تتيح علاقة مشروعة ومفتوحة بين هذه المؤسسات وبين مختلف أنواع النشاطات الثقافية والفكرية والتنموية التي تخدم الأهداف التي أقيمت من أجلها هذه المؤسسات. وكذلك العلاقات الصحية مع الأحزاب التي يعتبر وجودها في المجتمع من أبرز سمات النضج الاجتماعي والسياسي في أي مجتمع.
وفي سوريا وفي الدول والمجتمعات التي تمر بمثل ما مرت به سوريا فإن وجود منظمات المجتمع المدني يمثل ضرورية من ضروريات اتجاه تعافي المجتمع، ونمو مؤسسات المجتمع المدني مؤشر على جدية تحرك المجتمع، وفي المقدمة منه السلطة القائمة، في اتجاه التعافي.
ولعله من المهم هنا التنبه إلى الدور الكبير لمؤسسات المجتمع المدني في ترميم الأخلاق العامة / الاخلاق الاجتماعية، التي أصابها الكثير من التشويه النظام البائد، ونتيجة ظروف سنوات الحرب المتواصلة التي استمرت لأربعة عشر عاما .
خامسا: مواجهة الدمار وإعادة الإعمار
لا شك أن ملف مواجهة الدمار، وإعادة الإعمار يمثل واحدا من أشد الملفات ضغطا على المجتمع، والدولة، وعلى السلطة، لاعتبارات كثيرة يتقدمها كلفة إعادة الإعمار، وكذلك تعدد الأوجه المتصلة بهذه المسألة، فتقديرات للأمم المتحدة، وخبراء، ذهبت إلى أن هذه التكلفة تصل ما بين ١٥٠ مليار دولار إلى ٤٠٠ مليار دولار شاملة تكاليف إعادة إعمار البنية التحتية المتهدمة، وتأمين عودة ملايين النازحين إلى البلاد. إضافة إلى استتباب الأمن، وإعادة بناء القوات المسلحة، ومعالجة قضايا التعليم لأجيال باتت خارج المنظومة العلمية نتيجة الهجرة واللجوء، وكذلك قطاع الصحة، والغذاء، والبيئة.
ومشروعات إعادة الإعمار متفاوتة منها ما يعتبر استراتيجي يستغرق تنفيذه وقتا طويلا، ومنها ما يستغرق وقتا متوسط المدى، ومنها ما هو ملح يجب إنجازه بسرعة، ولا يملك المجتمع القدرة على تأجيله.
وإذ ننظر إلى مصادر تمويل مشروعات إعادة الإعمار فإن علينا أن ندرك التنوع في مصادر التمويل والتباين في طبيعة هذه المصادر وفي اختلاف طرق التعامل معها، ومن هذه المصادر:
١ – المؤسسات المالية الدولية.
٢ – دول الاقليم والمجموعة العربية
٣ – التعويضات المفروض أن نطالب بها الدول المسؤولة عن الدمار(روسيا، إيران..الخ)
4- استرداد الثروات المنهوبة، من رموز النظام الساقط داخل سوريا وخارجها
5ـ مساهمات شركات ومؤسسات القطاع الخاص
٦ – ما يمكن أن يوفره خلق وابتكار مبادرات مشجعة للقطاع الخاص من إمكانات مادية تساهم في تحقيق هدف إعادة الإعمار.
وإعادة الأعمار ليست عملية فنية فحسب، وإنما في جوهرها عملية تستند إلى وجهة نظر ورؤية اجتماعية ووطنية…. ليست مجرد استثمارات وفرص للكسب والربح – وهذا أمر مشروع -، وإنما هي تحديد لأولويات في التنمية وإعادة الإعمار. وبالتالي فالمسألة وطنية بالدرجة الأولى.
كل القطاعات يجب بدء العمل فيها، لكن لمن الأولوية؟.
كل الجهات التي تبدي استعدادها للتمويل وللمساهمة مرحب بها، لكن لمن الأولوية؟.
كل الجهات الخارجية الممولة من مؤسسات، ودول، وشركات، لها شروط ومتطلبات، فهذه بعمومها ليست جمعيات خيرية، فما هي معايير القبول والرفض. وطنيا، واقتصاديا.
مهم إلى أقصى حد أن نرتب أولوياتنا في تلبية احتياجات التعافي -وهي عالية الكلفة – لتكون وفق ترتيب بظهر جدية الالتزام الوطني، وجدية تعامل السلطات القائمة مه الأولويات الوطنية والاجتماعية، فلا تضيع استقلالية الإرادة الوطنية ونحن نلهث خلف ضرورة تأمبن تموبل المشاريع التي نحتاجها، ولا تتوه الاجتياجات الرئيسية للأغلبية الشعبية تحت ضغط التطلع للربح الذي يغلب على دوافع الشركات الخاصة في المشاركة بمثل هذه المشروعات.
بجب الاعتماد أولا على قدرات الوطن وثرواته الذاتية ، وامكانات القطاع الخاص الوطني، وابتكار اساليب وحوافز تشجيع خاصة له، وعلى الثروات والأموال المستردة، وبذل الجهود السياسية والدبلوماسية لتيسير استعادة هذه الأموال، ويجب التوجه بقوة وبوعي إلى الدول العربية ذات الصناديق السيادية الوازنة لتقوم بدورها في إعادة الإعمار، باعتبار هذا الدور ليس مجرد عمل إنمائي، وإنما هو في عمقه مساهمة جديدة في حفظ أمن هذه الدولة، وفي توفير أرضية صلبة للأمن القومي العربي والإقليمي، بل والعالمي، وقد أظهرت المأساة السورية على مدى أربعة عشر عاما كم هي مؤثرة على أمن واستقرار المنطقة والعالم.
ثم يأتي دور الاعانات والقروض القائمة على العلاقات الثنائية من الدول الصديق، ليكون الاقتراض من مؤسسات الاقراض الأممية آخر ما يمكن اللجوء إليه، لأن سياسات هذه المؤسسات يتقدمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مقيدة بوصفات وشروط ومفاهيم مقيدة للدول والمجتمعات بأكثر مما هي مساعدة لها، والتجارب مع هذه المؤسسات كانت في معظم الأحيان ذات أثر شديد السلبية على التوازن والاستقرار الاجتماعي. وكانت ذات تكلفة اجتماعية واقتصادية عالية، لا تتحملها عادة المجتمعات التي تمر بأزمات اجتماعية، وتعاني من انتشار الفقر والتفاوت الطبقي.
سادسا: القيام بموجبات مهمة مكافحة الارهاب.
واضح أن البند الخاص بمكافحة الارهاب ودور النظام السياسي الجديد في تحقيق هذا الهدف من البنود الرئيسية الذي يبرز مع كل محادثات تجريها القيادة السياسية السورية مع الدول الغربية تتقدمها الولايات المتحدة، ولعل ما يدفع إلى تصدر هذا الهدف
:** أن الغرب أسند الجانب المحلي من هذه المهمة إلى قسد، المنتظر أن ينتهي أمرها على نحو ما في النظام السوري الجديد.
** أن هناك سجون في الجزيرة السورية تقوم “قسد” بمهمة إدارتها، وفيها نحو ٩ الى ١٠ آلاف مقاتل من داعش وفق مصادر “قسد” والكثير من عائلاتهم.
** أن داعش تستعيد نشاطها.
وهنا يجب أن نفرق بين مواجهة داعش، وبين محاربة الارهاب.
فالأولى فرع من الثانية، والمشكلة المنهجية أن الثانية (محاربة الارهاب)، تحمل في عمقها مأزق حقيقي إذ لا يوجد تعريف أممي معتمد لمفهوم الإرهاب ولا تعريف علمي معتمد، وهذا ما يجعل الشعار فضفاض وغير مستقر، ومن الغريب أن تدار حرب كونية على “الإرهاب”، دون أن يكون هناك اتفاق على مفهوم الارهاب.
ولنستبين خطورة الغموض في تعريف هذا المصطلح علينا أن ندقق في الحركات المسلحة التالية، وفي صلتها بمفهوم الارهاب:
** داعش (الدولة الاسلامية في العراق وبلاد الشام).
** قسد ، pyd ، حزب الاتحاد الديموقراطي.
** حزب العمال الكردستاني pkk.
** حماس، والجها،د وقوى المقاومة لفلسطينية.
** الخلايا النائمة الموجودة داخل جسم فصائل الثورة السورية.
** بل وحتى فصائل الثورة السورية يتقدمها هيئة تحرير السام التي كانت حتى وقت قريب مصنفة ضمن الحركات الإرهابية.
بدابة بجب أن ننتبه إلى أن هذا تصنبف أمريكي غربي، بخدم رؤية ومصالح تلك الدول، وليس تصنيف “علمي موضوعي” يصلح لأن يكون مقياسا تعرف من خلاله المنظمات والجهات والكيانات الإرهابية.
بالتأكيد تتناقض مواقف الدول الإقليمية والدولية في توصيف هذه الحركات وبالتالي في الموقف منها.
الأمر نفسه ينطبق على توصيف الدول والأنظمة
** نظام الأسد البائد.
** النظام الصهيوني في فلسطين المحتلة.
** ونظم الاستبداد والقتل والعنصرية المنتشرة في غير مكان في إقليمنا، وعلى مستوى المعمورة كلها.
وهنا يبرز السؤال عن الجهة التي يمكن وصفها بالإرهابية:
** دول
** منظمات
** أفراد.
كما يبرز السؤال حول ما إذا كانت هذه الصفة تطلق على الفكر، أم على الفعل، أم على الفعل المرتبط بفكر محكوم عليه بالارهاب… ؟.
كل تلك الأسئلة مطروحة ويجب الإجابة عليها، ليس فقط من القيادة السورية، لكن الإجابة الحقة مطلوبة على المستوى الوطني والإقليمي والعالمي، فبدون إجابة واضحة تصبح “صفة أو تهمة الإرهاب” سلعة تتخطفها النظم والقوى العالمية في مواجهة خصومها، وتتخذها مدخلا للاستبداد والتنكيل بالمعارضة، ولمحاصرة وتشويه حركات التحرر الوطنية.
في كل المحادثات والمفاوضات التي يجريها القادة الغربيون بل، والاقليميون مع القيادة السورية يبرز هدف ” محاربة الإرهاب”، ومطلوب من القيادة والنظام السوري المشاركة في المعركة ضد الارهاب، وهذا طلب شائك، وغامض. ولو كان المطلوب مشاركة التحالف الدولي في مواجهة داعش، لكان الأمر مفهوما ودقيقا.
ولو كان المطلوب إقليميا يختص بمحاربة الانفصالية الكردية، ممثلة بقسد، وpkk، لكان الأمر محددا ومفهوما. حتى ولو لم يتم الاتفاق حوله. لكن الأمر ليس كذلك والطلب يأتي في خضم الغموض والتضارب في مفهوم هذا المصطلح وأفقه، لذلك تبقى قدرة القيادة السورية ، والنظام السوري على الاستجابة لهذا الطلب محدودة، ومضطربة.
إنهم يريدون من القيادة السورية أن تستجيب لرؤيتهم في مسألة الإرهاب، وأن تشارك في خططهم لمحاربة الإرهاب، دون أن يكون لها مكانة أو دور في تعريف هذا ” العدو” التي تدعى إلى محاربته.
إنهم يريدون منا أن نرقص على وقع ضربات طبولهم، أن نسم من بريدون بسمة الإرهاب، ونشارك في محاربته، وأن نرفع هذه السمة عمن يريدون، حين يرون في ذلك مصلحة لهم، وهذا أخطر ما في ملف ” محاربة الإرهاب”.
هذه أهم التحديات التي تواجه المجتمع السوري في عهده الجديدة، والتصدي لهذه التحديات مسؤولية كل قوى المجتمع : السلطة والدولة بمختلف مؤسساتها، والناس على اختلاف تكويناتهم، الكل مسؤول لكن المسؤولية ألأولى تقع على عاتق السلطة التي تمسك بمقدرات المجتمع وإمكاناته، والتي أخذت على عاتقها أن تقود ركب المجتمع في هذه المرحلة، وعليه فإنها وضعت نفسها في موضع المسؤولية والحساب.
حلب – منتدى الكواكبي بتاريخ / 3 / 6 / 2025
** الخطوط العامة لهذه المحاضرة عرضت في جلسة حوارية ب ” منتدى الكواكبي” في حلب يوم 3 / 6 / 2025، وقد اغتنى محتواها بالمناقشات والأفكار التي طرحت خلال الجلسة.
قراءة جميلة للمحاضرة والحوار الذي نظمه “منتدى الكواكبي” بحلب مع الدكتور مخلص الصيادي، دور المجتمع المدني أساسي بإعادة اللحمة الوطنية والعدالة الإنتقالية وإعادة الإعمار، لذلك على السلطة والدولة بمختلف مؤسساتها العمل على مساعدة إنشاء ونمو منظمات المجتمع المدني لأخذ دورها في سورية الجديدة.