أثارت خطبة الجمعة التي ألقاها رئيس المجلس الإسلامي السوري، الشيخ أسامة الرفاعي، في المسجد الكبير في مدينة أعزاز، ردود فعل سلبية بين صفوف المعارضة السورية، وردوداً على ما ورد فيها عن منظمات المجتمع المدني، الإغاثية والنسوية بشكل خاص، اعتمدت معظمها صيغاً سجالية، فيما تستدعي اللحظة التاريخية التي تمرّ بها المجتمعات المسلمة، ومنها المجتمع السوري، مناقشة العقل المشيخي الراهن، وقدرته على التعاطي مع الظروف والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، ومدى حاجته لتطوير طرق تفكيره ومناهجه، كي يكون قادراً على أداء دور إيجابي في المجتمع.
لم تحتوِ تعاليم الإسلام على وظيفة رجل دين، كما في الديانات السماوية الأخرى، اليهودية والمسيحية، وحديث القرآن الكريم عن “أهل الذكر” لا يشير إلى رجال دين، بل إلى أصحاب قدرات على الفهم والشرح والتفسير والتقعيد، عُرفوا بالفقهاء، علماء في أمور الدين، وقد لُقّب بعضهم بشيخ الإسلام، كابن تيمية، لما تمتّع به من قدرة فقهية عالية، قبل أن يصبح هذا الوصف اسماً لمنصب كبير علماء الدين أيام السلطنة العثمانية. لذا، لم تعرف المجتمعات المسلمة ظاهرة المشايخ إلا في عصور متأخرة، خلت القرون الهجرية الأربعة الأولى منها، وبدأت نوياتها بالظهور في النصف الأخير من العصر العباسي الثاني، وتصاعدت في العصر العثماني، وتحوّلت في الدول الوطنية إلى ظاهرةٍ ممأسسةٍ عبر تأسيس وزارات الأوقاف ودور الإفتاء وتوظيف مفتين وأئمة مساجد… إلخ.
وقد اتسعت ظاهرة المشايخ وتطورت شكلاً ومضموناً، مع تزايد عدد المسلمين والحاجة إلى أعدادٍ متزايدة من الفقهاء وأئمة المساجد وحاجة السلطة الحاكمة لمن يقوم بدور ترويج سياساتها بين المسلمين، وضبط التفاعلات الاجتماعية باستخدام سلطان الدين؛ وتميز القائمين على هذا الأمر بالشكل والدور، فكانت ظاهرة الوظائف الدينية من قارئ القرآن إلى خطيب الجمعة والعيدين وإمام الصلاة والدعاة والمشايخ الذين يمتلكون مستوىً جيداً من العلم بأمور الدين، فيلقون الدروس والمواعظ ويجيبون عن استفسارات المسلمين.
وقد تكرّس دور المشايخ بانفجار صراع اجتماعي بشأن وظيفة الدين في العصر الحديث، وانقسام الرأي العام المسلم بين من يرى أن للدين وظيفة ثابتة ولا يمكن القفز عليها؛ وأن للإسلام منطلقات ومبادئ سياسية لا بد من الأخذ بها، ومن يرى أن وظيفة الدين قد انتهت مع تطور العلم وبروز قيم ومعايير إنسانية تتفوّق عليه. وقد ترتب عن هذا الانقسام العميق تمسّك كل طرف برؤاه وتشدّده في رفض موقف الطرف الآخر، واعتبار كل ما يطرحه غير ذي موضوع، ولا يستحق النظر فيه. كذلك ساهمت حاجة السلطات السياسية لترويج سياساتها ومنحها غطاءً دينياً وتوظيف المشايخ للقيام بالمهمة في زيادة الطلب على المشايخ، فأسست الثانويات الشرعية والمعاهد الخاصة لتدريس العلوم الإسلامية، فعرف مجتمع المشايخ انقساماً بين متمسّك بما يعتبره صحيح الدين ومروّج سياسات السلطة، عبر ليّ عنق النصوص، لتنسجم مع ما تريده الأخيرة، ما رتّب تعارضاً وتبايناً في القراءات لنصوص الدين، القرآن الكريم والحديث الشريف، والمواقف من وقائع التاريخ الإسلامي وفق تباين الولاءات والمصالح، على الرغم من اعتماد كلا التيارين على مرجعية واحدة. وكان لافتاً تطابق مواقفهما السلبية من القيم والنظم الحديثة والتفكير الحر. ويمكن بالرجوع إلى بعض مواقف وآراء مشايخ تلمّس طبيعة العقل المشيخي الراهن ومنتجاته.
ـ قال عزام التميمي في مقابلة تلفزيونية على قناة الحوار: “إننا – المسلمين – لسنا بحاجة إلى أنظمة حديثة وديمقراطية، لأن الإسلام قد حمى خلال تجربته الطويلة كرامة الإنسان وصان حقوقه وحرياته”. نسي أو تجاهل ما ورد في كتب المؤرّخين المسلمين عن المظالم والافتئات على الحقوق من خلفاء بني أمية وبني العباس والسلاطين العثمانيين وولاتهم.
ـ دعا عبد السلام راجح، أستاذ أصول الدين في معهد إسلامي، عام 2007 في برنامج إذاعي في إذاعة “صوت الشعب” الحكومية، إلى التصويت بـ “نعم” للرئيس، المرشّح الوحيد، باعتبار التصويت فرض عين.
ـ لام الشيخ يوسف القرضاوي، وهو من هو في عالم الفتوى، الفنان نور الشريف على موافقته على تنفيذ موقف في مسلسل “عائلة الحاج متولي” نصح فيه ابنه سعيد بعدم الزواج بامرأة ثانية، باعتباره موقفاً ضد الإسلام الذي يبيح تعدّد الزوجات، مع أن المسلسل لم يتناول المسألة من زاوية الحلال والحرام، بل من زاوية النتائج العملية؛ فضلاً عن أن الإسلام يسمح ويقيّد بالعدل بين الأزواج، بقوله “فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً”.
ـ انتقد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، الموالي للنظام السوري، في بداية الثورة السورية، المتظاهرين الذين انطلقوا بالتظاهر من المساجد، واتهمهم بأنهم لم يؤدوا الصلاة قبل التظاهر، لأنهم لا يعرفون كيف يؤدّونها، ولم يهتم بقتل المتظاهرين بالرصاص الحيّ والسكاكين والبلطات.
ـ حذّر الشيخ محمد راتب النابلسي، المعارض للنظام السوري، اللاجئين من الهجرة إلى الدول الغربية وتربية أبنائهم فيها، لأنهم سينحرفون أخلاقياً. وقال إنه يعرف أسراً ربّوا أبناءهم في الغرب، فخرج من أبنائهم من هو مثلي الجنس ومتعاطٍ للكحول والمخدّرات، متجاهلاً الظروف التي دفعت المواطنين إلى الهجرة وتعرّضهم للقتل والتدمير وانعدام الخيارات أمامهم للمحافظة على حياة أبنائهم. علماً أن لديه أولاداً في الدول الغربية.
ـ ركّز الشيخ أسامة الرفاعي، المعارض للنظام السوري، في الخطبة المشار إليها على “مخاطر” منظمات المجتمع المدني، وتجاهل دورها في إنقاذ اللاجئين بتوفير مساعدات غذائية وطبية… إلخ، ولم يتطرّق إلى ما تقوم به الفصائل التي كان في ضيافتها، من اعتداء على المواطنين، بمن فيهم اللاجئون، وتوجيه إهانات وإذلال وتعدّ على الحرمات والاستيلاء على الأملاك ونهب الأرزاق.
ـ أرسل إليّ شيخ صديق فيديو عن تجربة في مختبر أوروبي، نجحت في تحويل خنزير إلى خروف، مع تنبيه يقول: “إنها مسؤوليتك ألا تأكل من لحم هذا الخروف – الخنزير”. تنبيه يعكس مدى ضيق النظرة؛ فالخروف الخنزير تجربة كلفت مئات آلاف الدولارات، ليس من أجل خداع المسلمين ليأكلوا لحم خنزير متنكراً في صوف خروف، بل لاكتشاف فرص علمية لخدمة الإنسان في علاج أمراض أو تحسين نسل أو زيادة فرص توفير الغذاء.
ـ استنكر الشيخ الصديق نفسه سلوكي بعدم تناول طعام عشاء، قائلاً إن سيدنا النبي أمر بتناول العشاء، لأن المعدة الخالية تطحن نفسها. لا يعلم أنّ المعدة الخالية ترتاح بين وجبات الطعام، ولا تطحن نفسها.
يستطيع الباحث والدارس اكتشاف مدى انفصال هذه المواقف عن الواقع، وعن مقاصد الشريعة الإسلامية التي جاءت لخدمة الإنسان لا العكس، وأن المشايخ في مأزق تاريخي، يستدعي تطوير برامج التعليم الديني، لتشمل علوماً إنسانية كثيرة، من السياسة إلى الاجتماع والفلسفة والنفس والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا، حتى يستطيع مشايخ المستقبل الإلمام بالظواهر الاجتماعية، وإدراك طبيعتها ودلالاتها والتقدّم بفتاوى ناضجة، مبنية على معرفة واسعة بكل المعطيات وتفاعلاتها ونتائجها الايجابية والسلبية، فالفتاوى الصحيحة تحتاج إلى النظر إلى العالم بطريقةٍ موضوعيةٍ ترتكز على معلومات دقيقة وشاملة. وثمّة حاجةٌ إلى تعليم شامل، يكون مدخلاً للتحرّر من العقل النمطي الذي تمركز حول ثنائية الحلال والحرام، وتكرار مواقف وفتاوى قديمة قيلت في زمان غير هذا الزمان، وفي ظروف غير هذه الظروف، من دون اعتداد بالتغيرات التي طرأت، ومن دون تفكير في ضرورة الاجتهاد والتساؤل كيف كان سيكون حال المسلمين الآن؛ وما القيم والنظم السياسية والاجتماعية التي سيستقرّون عليها، لو أن الحضارة الإسلامية لم تتوقف عن العطاء ويجفّ نسغها، وينقلب حالها إلى الدمار والانهيار بعد التطور والازدهار، فإطلاق المواقف والفتاوى من دون اعتداد بالسببية التي ألحّ القرآن الكريم على الأخذ بها، وبروح الدين الإسلامي وما تنطوي عليه من نزوع نحو التيسير والتخفيف عن الناس في مواجهة الصعاب والملمّات. وهنا نذكّر بواقعة عام الرمادة (المجاعة) وقرار الخليفة عمر بن الخطاب وقف قطع يد السارق، ما سيفقد هذه المواقف والفتاوى موضوعيتها وجدواها، ويحولها إلى الضد من هدف قائلها وتكون ذات أثر سلبي، فالجدوى تقتضي تفهم الظروف الموضوعية المحيطة بسلوك المجتمعات، أفراداً وجماعات، والضغوط القاهرة التي تدفع إليه ووضع حلول للتخلص من الأسباب. كذلك تقتضي التوقف عن التركيز على الآخر المختلف باعتباره مصدراً للشرور والأخطار؛ فالتعاطي المنطقي مع المخالفين ووجهات نظرهم يستوجب الدراسة، وتبين صحّتها من عدمها، وجدواها من عدمها، مع الاحترام والتقدير، لأنّ عدم تقدير الظروف وتجاهل الأسباب سيدفعان عامّة المسلمين إما إلى التطرّف والعنف أو إلى الهروب من الدين ومستدعياته، كما حصل في أوروبا في العصور الوسطى. واعتبرت الكنيسة السبب في انتشار الإلحاد، فالفتاوى التي لا تضع قضايا الناس وظروفهم ومعاناتهم نصب عينيها، وتحاول مساعدتهم والتخفيف عنهم وتعزيز قدرتهم على حل المشكلات، والإحساس بالأمان وتكتفي بلومهم، لن تكون عوامل إيجابية، بل ستكون سلبية ومدمرة للدين والمجتمع.
قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه “الاقتصاد في الاعتقاد”: “نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة، لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن، وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات والأمن، فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقاً بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة، متى يتفرّغ للعلم والعمل، وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة؟ فإذن: إن نظام الدنيا، أعني مقادير الحاجة، شرط الدين”.
المصدر: العربي الجديد