ربما يستغرب البعض هذا الربط وهذا العنوان، لكن الرائي والمتابع لحال مجمل نشاط شخصيات قوى الثورة والمعارضة السورية، بشكلها الرسمي وغير الرسمي يجد نموذج المثقف الذي يتابع ويقرأ في السياسة، وليس نمط رجل السياسة الذي يفكر بعقل سياسي ويُنتج باستمرار سلوك سياسي.
فممارسة السياسة بعقل المثقف الذي يقرأ ويحلل فقط، دون فعل سياسي حقيقي يعبر عن العقل السياسي وسلوكه، وربما أي موقف أو نزق ما يطرأ للمثقف، يجعله يتحول إلى عمل آخر كمحلل أو باحث أو أكاديمي في الجامعة وليس صاحب مشروع وهدف حثيث يسعى له ليل نهار بعمل نضالي دؤوب. والبعض يظن مجرد النقاش والكتابة أو الحديث على اليوتيوب أو نشر بحث أو كتاب هو فعل سياسي، بل حقيقة هو فعل كتاب وصحفيين لا نقلل من قيمته لكنه ليس فعل السياسيين، فالسياسي إما هو جزء من منظومة تنظيمية يأخذ دورًا فيها أو دور قيادي فاعل يمارس دور قيادي حقيقي وليس صوري.
رجل الدولة أو رجل السياسة لا ينعتق من هدفه أو يتغير عنه أو يُغيره لعمل آخر يمارسه قد يكون أربح مادياً أو أريح له.!
ولو فعل المناضلون والزعماء هكذا فلن تتحرر بلدانهم ولن يحدثوا تغييراً. فنحن اليوم يكثر فينا النشطاء والمثقفون ومتابعي السياسة ويقل بل يندر فينا السياسيون.
حيث يتطلّب العمل السياسي القيام بدراسة الأحداث والظواهر دراسة موضوعية حيادية ميدانية حركية تبتعد كل البعد عن التحيّز، والتعصّب، والتفاؤل الرغبوي غير المستند إلى واقع وحقائق، أو انتظار التغيير الغيبي كحال المتصوف الروحي الذي ينتظر المدد الغيبي، أو حال من يعلق التعثر والفشل على القدر وأنه حكمة سماوية.! ولا يدرك أنه التعثر والفشل نتيجة تردي الأداء والسلوك الجمعي وتكاثر الخصوم.
والمُلاحظ للحقل السياسي اليوم يجد أن غالبية من تصدروا العمل السياسي لا يُعيرون شأناً واهتماماً للسلوك والمعرفة السياسية معرفة حقيقية ميدانية واقعية، مما يشكّل معضلة أمام الفاعل السياسي وأمام الواقع السياسي.
العمل السياسي هو العمل الجماعي داخل المجتمعات التي تدور في فلكها السياسة. فمن الضروري رصد المشاكل واكتساب المعرفة في طرق حلها، وحسن الدراية في إدارتها، وإتقان الوسائل التي تساعد في ممارسة السياسة وتجنب الأسباب المؤدية إلى الأزمات والصراعات، ونشر الوئام بين الناس، وتعزيز عمل المؤسسات والعمل على الاستفادة من خبرات الآخرين، والتخطيط لمستقبل أفضل، والعمل على التغيير الدائم.
نحن نعيش التعثر ووصلنا إلى إفراغ الفعل السياسي من مضمونه، وقد فقد المواطن الثقة في العمل السياسي وتملكه اليأس من السياسة، ودور المثقف يختلف كلياً عن دور السياسي فالمواطن لا ينتظر من السياسي أن يخبره بما يجري حول قضيته، فهذا دور المثقف أو الإعلامي أو المحلل والقارئ للسياسة وليس دور السياسي.!
بل المواطن ينتظر حلاً لمشاكله الحالية، ودفعاً وتوجيهاً مفيداً يسرّع الجهود نحو الخلاص من الحالة التي يحيياها، وهذا ينتظره من السياسي ومن قادة العمل السياسي.
فلا يريد المواطن أن يسمع وحسب. ولكن يا للأسف نحن لا نعيش حياة سياسية حقيقية، بل نحن نعيش فقراً سياسياً لاسيما بالفعل والسلوك، والفاعلية السياسية الحقيقية، فتغيب عنّا القدرة كما تعوزنا الخبرة.
وقد تم تفريغ المجتمع السوري عبر عقود من الفعل السياسي الحقيقي، لا مجتمع مدني موجود ملتزم ببرامج ذات مسؤولية مجتمعية واضحة، ولا مبادرات شعبية اليوم لكسر الجليد وتخفيف حدة الأزمات، ولا رؤى فكرية تخترق حالة الصمت، ولا مساهمات أكاديمية جادة ومستقلة تقول لنا أين نحن ذاهبون.؟
علينا اليوم إعادة بناء الحقل السياسي والعمل السياسي لاستعادة السياسة دورها الطبيعي إذ لا يمكن الحديث عن السياسة بمعزل عن الحقل السياسي أو بالاستقلال عنها ومن ثم فالسياسة علاقة متشابكة ونسق متكامل بين الأفراد والمجتمع والمؤسسات.
الحياة السياسية تتحكم فيها عدة عوامل ومقاربات تفسر الأزمة السياسية التي نعيشها اليوم، وتتمثل في: الفقر والأمية وتراجع شيوع المعرفة لاسيما في الداخل السوري، وضعف وغياب الفضاء السياسي، أي غياب الثقة بين المواطن والقوى السياسية، بل غياب القوى السياسية والتنظيمات الحزبية بشكل حقيقي فاعل في الواقع، فالأحزاب السياسية، والبنية التنظيمية، وإدارة العمل السياسي والحزبي داخل المجتمع يولد حالة سياسية وتصويب لدفة السياسة، لكن الشتات والتفرق وغياب التنظيمات السياسية الحقيقية، وضعف القدرة على إدارة الاختلاف في المجتمع، وغياب الفكر السياسي الحداثي والبقاء على الأفكار القديمة الكلاسيكية سواء اليمين أو اليسار لم تدرك بحيويتها الحاضر ومن لم يتجدد يتبدد، هذه الأسباب هي المسؤولة عن تأزم الوضع الحالي، فلا يصح اليوم مجتمع دون حوامل مجتمعية وسياسية تثري التفكير السياسي والفعل السياسي، لا ينتشر في الواقع اليوم قوى سياسية معتبرة سوى بعض الشللية هنا وهناك، أو بقايا القوى الكلاسيكية، ولكن هناك بوادر شبابية تفكر اليوم بظل هذا الفراغ بإثراء الحركة الوطنية السورية في ظل واقع الاحتلالات والصراعات الدولية على الأراضي السورية.
نحن نعيش أعقد صراع في الشرق الأوسط، لكن مع الأسف دون المستوى السياسي المطلوب لهكذا واقع معقد، يحتاج لخبراء ضليعين ومناضلين سياسيين وليس حالة المثقف في السياسة الذي يكتفي بالحديث عن السياسة وأخبارها ويظن أنه يقوم بفعل وقيادة سياسية للحالة السورية المعقدة.!
المصدر: إشراق