
يحق للقوات اللبنانية أن تعتبر فوزها بانتخابات بلدية زحلة تكريساً لزعامتها في الوسط المسيحي. فهي خاضت الانتخابات وحيدة، إلاّ من تراكم مواقفها وخطابها السياسي، في وجه تحالفات واسعة داخل المدينة وخارجها.
لكن للنصر المدويّ، الذي كان كثر من القواتيين أنفسهم يشككون به، أسباب وخلفيات، منها ما يتصل بالسياسة ومقارباتها، ومنها ما ينسحب على الاجتماع.
أي دور للعهد؟
في السياسة نجحت القوات في تعبئة مساحة واسعة عند “الرأي العام المسيحي المحايد”. وهي فئة صار معروفاً أنها تميل إلى من يجسد في لحظة معينة تطلعاتها، أو يرفع تحدياتها، أو يطمئنها إلى غدها.
سبق لميشال عون أن حقق “تسونامي” مشابهاً، كانت سنوات ست من الأخطاء والخطايا كافية لإنهاكه وإنهائه.
تصويت زحلة بالأمس للقوات، هو في أحد وجوهه، تكريس تفويضها في هذه اللحظة التعبير عن تطلعات المسيحيين. وهو ضمناً، يغمز من قناة رئيس الجمهورية الذي، وإن لم يكن معنياً بالانتخابات البلدية بالمباشر، إلاّ أن الانحياز الكبير للقوات يفهم من رسائله الضمنية غياب الرهان الكبير على العهد، الذي يبدو في كثير من المحطات يقدم ويحجم معاً.
كذلك تكشف نتائج بلدية زحلة ضعف خصوم القوات فيها، أحزاباً ومستقلين. باكراً استشعر التيار الوطني الحر “موجة” القوات المرتفعة، لكنه لم ينجح في عقد تحالف معها. فهو يعرف مكانة زحلة في أدبيات القوات، فحاول رفع سقف مطالبه. لم يتوصل الطرفان إلى اتفاق مما زاد في إرباك قواعد التيار، التي لم تكن متحمسة للائحة أسعد زغيب وتحالفاته.
فصوّت عدد من مناصري التيار للائحة القوات لاعتبارات منها سياسية وأخرى محلية.
وجاء الكلام عن “إقبال شيعي” على التصويت بعد الظهر، ليدفع بمناصري القوات إلى دقّ أجراس الكنائس بعد أن “دقّ الخطر عَ البواب” وصار متداولاً أن “عاصمة الكثلكة في الشرق يقرر نتائجها الصوت الشيعي”. فمن كان متردداً حسم أمره.
ولمرة، منذ سنوات طويلة جداً كان عنصر المال وشراء الأصوات في زحلة، ضعيفاً جداً. ويصبّ ذلك في صالح القوات، التي تستند إلى العصب الحزبي والطائفي، في مواجهة العصب المالي.
“زحلة النجم اللي ما بينطال”
إضافة إلى السياسة، لم تغب عوامل أخرى عن الإسهام في فوز القوات بهذه النتيجة “كما يحبها الزحالنة تلتين بتلت”، على ما سرت التعليقات في أوساط القوات. وفي ذلك تلميح إلى العرق، المشروب الأشهر في زحلة، الذي يخلط، عادة “تلت” منه مع “تلتين” من الماء.
فوقوف القوات وحيدة في مواجهة الجميع من حلفاء مفترضين كالكتائب والأحرار والنائب ميشال ضاهر، إضافة إلى كل خصومها التقليديين خلق تعاطفاً شعبياً حول “الضحية التي تقاوم ولا تستسلم”.
كما أن الزحالنة، كالكثير من اللبنانيين عموماً، يحبون التغيير والوجوه الجديدة وينتقدون من كان في السلطة، سواء أصاب أو أخطأ، وهذا ما انسحب على المرشح الخصم أسعد زغيب ولائحته.
ويبقى أخيراً لا آخراً، مكانة زحلة في الوجدان القواتي- المسيحي. مكانة مرتبطة بشكل خاص بمحاصرة الجيش السوري المدينة عام 1981 وقطع كل الإمدادات عنها، وقصفها لمدة ثلاثة أشهر. ومع ذلك لم تستسلم المدينة.
منذ تلك الأيام تحولت زحلة في خطاب القوات إلى “أيقونة” مقاومة، لم تعطَ هالتها لأي من مدن الأطراف.
هذا يفسر انتقال نواب القوات من مختلف المناطق اللبنانية إلى زحلة أو إلى معراب للاحتفال بفوز لائحة “زحلة بالقلب”. وهو ما لم يحصل مع أي بلدة أو مدينة أخرى.
وهذا يفسر أن يعلن سمير جعجع فوز اللائحة وهو يستهل كلامه ويختمه بكلام أغنية تصدح في معراب، وتقول “ع زحلة ما بفوتو…زحلة النجم اللي ما بينطال”.
كما يفسر ذلك أن يكتب نائب كسروان شوقي الدكاش على موقع “إكس” أن “أجراس كسروان تقرع فرحاً لزحلة. زحلة التي لم تخذل لبنان يوماً ولا خذلت القوات. ونحن أيضاً لم نخذلها، تشهد جبال عيون السيمان على ذلك، كما تشهد أجساد رفاق تجمدت على الثلج في الطريق إليها”.
انتهت انتخابات بلدية زحلة بفوز كبير للقوات اللبنانية و”خطها” السياسي. ويطيب لمناصريها ترداد كلمة “تسونامي” في وصف ما حققوه.
ومع ذلك، هي محطة ومؤشر في مسار طويل سبق أن عبره كثيرون، ليس آخرهم التيار الوطني الحرّ.
وإذا كان من عبرة فهي أن “الوسط المسيحي”، على عيوبه ومخاوفه وهجرة نخبه، لا يزال ينبض، يقيّم، ينجرف وينسحب، يولي ويعارض وينتخب ويحاسب أو يكافئ في الصناديق. وهذه تُحسب له، وتحسب لزحلة؛ وتفرض على القوات وسائر القوى السياسية أن تجيد دوماً قراءة الوقائع والحسابات وهواجس الناس وتطلعاتهم.
المصدر: المدن