رئاسة الجمهورية في الدساتير السورية نحو الانتقال السياسي الديمقراطي

د- نائل جرجس

تعتبر دمقرطة عملية انتخاب الحاكم، إضافة إلى تحديد صلاحياته في المنطقة العربية عموماً، وفي سورية، خصوصاً، من أهم أركان الانتقال الديمقراطي. فقد رزحت ولاتزال بعض دول هذه المنطقة تحت نير الديكتاتورية التي تمثّل أبرز وجوهها بتغييب الانتخابات الديمقراطية لرئيس الدولة، فضلاً عن إعطائه صلاحيات مطلقة ومهيمنة على مفاصل الحياة السياسية والتشريعية. وهكذا كان أبرز مطالب انتفاضات السنوات الأخيرة في المنطقة العربية إسقاط الحكّام العرب وتحقيق انتقال سياسي للسلطة، الأمر الذي لن يتحقق الا في الدول التي شهدت تغييراً ديمقراطياً لرأس النظام كما في تونس التي أسفرت انتخاباتها الرئاسية الأخيرة لعام 2019 عن وصول رئيس منتخب ديمقراطياً وذو صلاحيات محدودة في حال فريدة وغير معهودة في دول المنطقة العربية.

تسلّمَ بشار الأسد منصب الرئاسة في سورية عام 2000 إثر تعديل دستوري لتخفيض السنّ القانوني لرئيس الجمهورية من الأربعين إلى الأربعة والثلاثين (لينطبق عليه آنذاك)، وذلك خلفاً لوالده حافظ الأسد الذي شاركَ في انقلاب الثامن من آذار عام 1963 بوصفه عضواً في اللجنة العسكرية للفرع الإقليمي السوري لحزب البعث العربي الاشتراكي. سرعان ما فتكَ الأسد الأب بخصومه في انقلاب 16 تشرين الثاني 1970، أو ما سمي بـ”الحركة التصحيحية”، لينفرد بالسلطة، ويتبوأ منصب رئاسة الجمهورية بشكل رسمي في آذار 1971). ما لبث أنّ قامَ الأسد بتفصيل الدستور السوري لعام 1973 الذي كان له أكبر الأثر في انتقال سورية إلى مرحلة ديكتاتورية طويلة الأمد تركّزت فيها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بيد رئيس الجمهورية.

دستور عام 1973 : صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية في ظلّ تغييب الانتخابات الديمقراطية

غابت تعددية المرشحين لرئاسة الجمهورية خلال حكم حافظ الأسد، بل تولى مجلس الشعب ترشيح رئيس الجمهورية (المادة 71 من دستور عام 1973) ليصار إلى إجراء استفتاء شعبي كل سبع سنوات في ظلّ جو من القمع السياسي وانعدام النزاهة في التصويت. وقد تضمّن دستور عام 1973 صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية الذي يمارس السلطة التنفيذية بحسب المادة 93، ويحدد السياسات العامة للدولة ويشرف على تنفيذها (المادة 94)، ويعيّن نواب الرئيس ورئيس مجلس الوزراء و الوزراء ونواب الوزراء ويعفيهم من مناصبهم، ذلك بموجب المادة 95 من الدستور السوري. و يكون لرئيس الجمهورية حق تعيين الموظفين من مدنيين وعسكريين وإنهاء خدماتهم بموجب المادة 109 من هذا الدستور، وتتيح له المادة 102 إعتماد رؤساء البعثات السياسية والدبلوماسية، إضافة لتشكيله المجالس و الهيئات و اللجان المتخصصة بموجب المادة 114. كما أنّ رئيس الجمهورية هو القائد العام للجيش و القوات المسلحة بحسب المادة 103، ومن يحق له أنّ يعلن الحرب و التعبئة العامة و يعقد الصلح بموجب المادة 100، و هو من يعلن ويلغي حالة الطوارئ في البلاد بحسب المادة 101 ويتخذ إجراءات سريعة “بحال وجود خطر جسيم وحال يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة واستقلال أرض الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن مباشرة مهامها الدستورية” (المادة 113)، ويبرم و يلغي المعاهدات و الاتفاقيات الدولية بموجب المادة 104، كما يمنح الأوسمة سنداً للمادة 106، ويمكنه بحسب المادة 112 أن يستفتي الشعب في القضايا الهامة، وتخوله المادة 105 استصدار العفو الخاص. وتتجاوز هذه الصلاحيات ما يتمتع به رؤساء الجمهوريات في أغلب الأنظمة الرئاسية الحديثة.

وعلى صعيد السلطة التشريعية، تخوّل المادة 111 من دستور عام 1973 رئيس الجمهورية صلاحيات تشريعية واسعة سواء أثناء انعقاد دورات مجلس الشعب أو خارجها أو حتى في المدة الفاصلة بين ولايتي مجلسين. كما يملك الحق بالاعتراض على القوانين التي يقرها مجلس الشعب بحسب المادة 98 من الدستور، ويمكنه بحسب المادة 110 إعداد مشاريع القوانين و إحالتها إلى مجلس الشعب الذي يمكن لرئيس الجمهورية حلّه بمقتضى المادة 107 من الدستور. كما لرئيس الجمهورية إلغاء أي تعديل للدستور “يمكن أن يقره مجلس الشعب بأكثرية 3/4″، وذلك بحسب المادة 149 من الدستور. وفي مجال السلطة القضائية، فإنّ رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى وذلك بموجب المادة 132 من دستور عام 1973، وبالتالي تعرّض مبدأ استقلالية القضاء وحصانة القضاة للانتهاك حيث أتاحت هذه المادة لرئيس الجمهورية التدخل في تعيين القضاة وعزلهم. كما أن المادة 139، نصّت على إنشاء المحكمة الدستورية العليا التي من صلاحياتها البت في دستورية القوانين، ولكنّ ذلك لا يتم إلا من خلال تحريكها من طرف رئيس الجمهورية نفسه أو بطلب من ربع أعضاء مجلس الشعب (المادة 145). وبحسب المادة 91، لا يجوز محاسبة رئيس الجمهورية عن جميع تصرفاته في إطار ممارسة صلاحياته إلا في حالة الخيانة العظمى التي تختصّ بالنظر بها المحكمة الدستورية العليا، مع أنّ “رئيس الجمهورية” هو الذي يعيّن جميع أعضاء هذه المحكمة بمرسوم (المادة 139)، وذك بانتهاك لمبدأ فصل السلطات.

وهكذا كان لرئيس الجمهورية سلطات مطلقة ومهيمنة بحسب دستور عام 1973 وما انبثق عنه من ترسانة تشريعات، لاسيما المرتبطة بحالة الطوارئ، وذلك في ظلّ غياب التشريعات المناسبة للتعددية الحزبية ولتداول السلطة، وقمع كافة أشكال المعارضة السياسية والمجتمع المدني. وقد استمر العمل نظرياً بدستور عام 1973 وحتى بحالة الطوارئ إلى حين اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011 التي اضطرت النظام إلى رفع حالة الطوارئ واعتماد دستور عام 2012.

دستور عام 2012: الاستمرار بنظام الحكم الرئاسي وعدم فصل السلطات

فضلاً عن رفع حالة الطوارئ وإلغاء محكمة أمن الدولة واستبدالهما بقانون ومحكمة خاصة “بمكافحة الإرهاب”، اعتمدَ الأسد دستور عام 2012 في محاولةً منه لامتصاص غضب الشارع والإلتفاف على الانتقال السياسي الذي طالبت به الانتفاضة الشعبية ضدّ نظامه في آذار/مارس 2011. صحيح أنّ هذا الدستور الجديد قد ألغى المادة الثامنة المتعلقة بسطوة حزب البعث العربي الاشتراكي، بالإضافة إلى تضمينه إمكانية تعدد المرشحين لمنصب الرئاسة (المادة 85) وعلى العديد من الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين، غير أنّه يحوي أبرز عيوب الدستور السابق. فقد حافظَ الدستور الجديد على النظام الرئاسي وعدم فصله للسلطات، على الرغم من المطالبات بالانتقال إلى نظام برلماني أو شبه رئاسي وتقييد صلاحيات الرئيس.

فاستمرّ تركيز صلاحيات واسعة تشريعية وتنفيذية وقضائية بيد رئيس الجمهورية. ونصّت مادته 105 على أنّ “رئيس الجمهورية هو القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة ويصدر جميع القرارات والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة، وله التفويض ببعضها”، وذلك بنصّ شبه مماثل للدستور السابق. كما يُعيّن الرئيس الموظفين المدنيين والعسكريين وينهي خدماتهم وفقاً للقانون (المادة 106)، ويُبرم المعاهدات والاتفاقيات الدولية (المادة 107)، ويمنح العفو الخاص (المادة 108) وله الحق بمنح الأوسمة (المادة 109) وحلّ مجلس الشعب (المادة 111) وإعداد مشاريع القوانين وتولي سلطة التشريع (المادتين 112-113)، ويرأس كذلك مجلس القضاء الأعلى (المادة 133). واستمرت حصانة رئيس الجمهورية المطلقة، فتضمن المادة 117 عدم مسؤوليته عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى، وفي هذه الحالة لابدّ من أن يتم اتهامه بقرار من مجلس الشعب بتصويت علني وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس بجلسة خاصة سرية، وذلك بناء على اقتراح ثلث أعضاء المجلس على الأقل، وتجري محاكمته أمام المحكمة الدستورية العليا. ولم يغفل رئيس الجمهورية إمكانية هكذا اتهام في حال حدوث تغييرات سياسية، الأمر الذي دفعهُ إلى ضمان ولاء جميع قضاة المحكمة الدستورية العليا، فيسميهم جميعاً بمرسوم رئاسي (المادة 141) ويدلون بالقسم أمامه (المادة 145)، كما يمكن له حلّ مجلس الشعب الذي يصدر قرار الاتهام، كما ذكرنا أعلاه.

وأمّا المادة 103 الخاصة بحالة الطوارئ والمادة 114 المتعلقة بصلاحية رئيس الجمهورية باتخاذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها الظروف لمواجهة الخطر الجسيم، فقد جاءتا مماثلتين تقريباً لنصوص المواد 101 و 113 من الدستور السابق والمٌشار إليهما أعلاه. ويكمن الاختلاف، الشكلي وليس الجوهري، بأنّ المادة 103 الجديدة قد أشارت إلى لزوم عرض حالة الطوارئ، بعد إعلانها من طرف رئيس الجمهورية بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسته وبأكثرية ثلثي أعضائه، على مجلس الشعب في أول اجتماع له. كحال الدستور السابق، أغفلَ دستور عام 2012 تحديد شروط تطبيق حالة الطوارئ والإجراءات السريعة المُشار إليها، وذلك بخلاف دساتير العديد من الدول، كجنوب أفريقيا، التي تضمنت استفاضة في هذا المجال.

آفاق الإصلاح الدستوري والانتقال الديمقراطي في سورية : نحو تغيير شكل الحكم وتعزيز مبدأ فصل السلطات

يؤكّد الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، في كتابه روح القوانين الصادر عام 1748، على جوهرية الفصل بين السلطات في أنظمة الحكم المختلفة، وبأنّ السلطة توقف تعسف السلطة. وهكذا تأصّل تدريجياً هذا المبدأ في دساتير الدول المعاصرة، بل ويمثّل تطبيقه مقياساً لمدى ديمقراطية الدول. فلابدّ من إدراج مبدأ فصل السلطات وإعماله في كافة نصوص الدستور السوري والقوانين المنبثقة عنه بما فيها تلك الناظمة لعمل المحكمة الدستورية. ومهما كانت طبيعة نظام الحكم، يتوجب عدم إعطاء رئيس الجمهورية أية صلاحيات قضائية وتشريعية، إنما حصرها في مجال السلطة التنفيذية.

يمكن تقاسم السلطة على مستوى الرئاسة من خلال ثلاث أنواع رئيسية لأنظمة الحكم. يتمثل أولّها بالنظام الرئاسي الذي يمارس فيه رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء السلطة التنفيذية، في حين تقع السلطة التشريعية تحت وصاية البرلمان. يمكن القول بأنّ هكذا نظام قد يسهم في استقرار البلد أمنياً وتوحيده، لا سيما في سياق الصراعات والانقسامات الشديدة وغياب الأمن، لكنّ نجاحه يعتمد على وجود رئيس منتخب ديمقراطياً ويحمل أجندة وطنية ويرغب في السير باتجاه التغيير الديمقراطي. مع هذا قد يؤدي النظام الرئاسي في سياق ما بعد الصراع إلى ظهور شكل جديد من الديكتاتورية. كما قد يعتمد الرئيس على طائفته الدينية أو جماعته العرقية بشكل يؤدي إلى استمرار الاحتقان الديني والأثني وتهميش الجماعات الأخرى المنتمية إلى غير طائفته أو جماعته. ونعتقد بأنّه يجب تجنّب النظام الرئاسي في الحالة السورية، لاسيما في ظلّ الانقسامات الدينية والعرقية التي تشهدها سورية، من ناحية، ومعاناة الشعب السوري من نظام الحكم الرئاسي الديكتاتوري القائم على ثقافة الشخصنة وتقديس الحاكم، من ناحية أخرى.

يتمثّل الخيار الثاني باعتماد نظام حكم شبه رئاسي حيث تُقسّم السلطات فيه بين الرئيس المنتخب والحكومة التي تعيّن رئيس الوزراء. وقد يحدث أن يأتي رئيس الجمهورية وورئيس الوزراء من حزبين سياسيين مختلفين. ومن أهم مزايا هكذا نظام منعه تركيز السلطات بيد رئيس الجمهورية، كما يُتيح المشاركة السياسية وتداول السلطة. غير أنّ أبرز عيوبه تظهر بحال هيمنة الحزب السياسي للرئيس على غالبية مقاعد البرلمان – وهو ما يحدث في الغالب في الدول الديمقراطية القوية – وبالتالي تطغى السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية وقد تحول البلاد إلى حكم الحزب الواحد. هناك أخيراً نظام الحكم البرلماني الذي لايكون فيه لرئيس الجمهورية غير صلاحيات هامشية أو شكلية كالحق في إبداء آراء استشارية. في مثل هذا النظام، سيقلّ الخلاف على منصب الرئاسة حيث سيتولى البرلمان السلطة الرئيسية في البلاد من خلال تشكيل الحكومة ومحاسبتها. تتعزز الميزة الرئيسية لهذا النظام في بلد، مثل سورية، يخرج من النزاعات ويحتاج إلى إصلاح عميق، لأنه سيؤدي إلى سلاسة في عملية إعادة هيكلة ترسانة التشريعات السورية. كما أنه يتجنب تركيز السلطات بيد شخص واحد أو حزب سياسي واحد، وهو أمر ضروري في بلد مثل سورية يضم العديد من الطوائف الدينية والأثنية. مع ذلك، قد يهيمن على البرلمان تيار سياسي واحد أو حتى جماعة دينية أو عرقية معينة، مما قد يؤدي إلى تهميش الجماعات الأخرى وبزوع شكل جديدة من أشكال الاستبداد والهيمنة البرلمانية في ظلّ ضعف المعارضة. بالتأكيد هناك خياات أخرى لشكل الحكم مثل إنشاء مجلس رئاسي اتحادي يضم ممثلين عن التيارات السياسية والشرائح الشعبية السورية، كما هو حال النظام الفدرالي السويسري.

إنّ دمقرطة شكل الحكم وضبط صلاحيات رئيس الجمهورية في الدستور هو شرط لازم، ولكنه غير كافٍ لتحقيق عملية الانتقال الديمقراطي. فيشكّل تحديد شروط ترشّح رئيس الجمهورية للرئاسة وطريقة انتخابه أمراً جوهرياً في سورية. ونعتقد بأنّه لابدّ من تضمين الدستور السوري المقبل نصوصاً بهذا الإطار أبرزها تحديد ولايتين كحدّ أقصى لمن يشغل منصب الرئاسة، وأن لا يكون المرشح ممن شغلَ هذا المنصب لمدة تزيد عن الأربعة عشر عاما. وفي إطار مشابه، جاء في المادة 72 من دستور سورية لعام 1950، بأنّ “مدة رئاسة الجمهورية خمس سنوات كاملة تبدأ منذ انتخاب الرئيس. ولا يجوز تجديدها إلا بعد مرور خمس سنوات كاملة على انتهاء رئاسته”. وأخيراً تنبع شرعية الدستور من كونه عقد اجتماعي يتمّ وضعه من طرف مواطني الدولة المعنيّة بواسطة ممثّليهم الشرعيين المنتخبين مباشرة أو المعيّنين ديمقراطياً. وستبقى النصوص الدستورية عديمة القيمة بدون تطبيقها على أرض الواقع، الأمر الذي لن يحدث في ظلّ استمرار النظام السياسي السوري في الحكم وغياب ضمانات لوجود معارضة سياسية ومؤسسات ديمقراطية وطنية قادرة على ردع تعسّف السلطة التنفيذية وتغوّلها في الاستبداد.

المصدر: بروكار برس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى