
عاد خلدون إلى دمشق مُحطَّماً بعدما علم بمصير زوجة أحمد وعذابات أحمد التي كانت فوق قدرة تحمل البشر، في كوابيسه كانت تأتيه لقطات من سعادة أحمد وهو يجلس في حفل الزفاف قرب زوجته سُمَيَّة، وبعدها تخترق الحلم كرصاصة قاتلة صورة السجان؛ وقد أخرج الجنين الذي لا يتجاوز حجمه نصف كف بشرية من رحم سُمَيَّة وأخذ يلوح به، وكأنه ورقة كلينكس مخضبة بالدماء في وجه أحمد. كان ذلك الكابوس لا يفارقه حتى إنه قصد أحد المشايخ الذين يُجلُّهم، وقد كان منبوذاً طيلة أيام الثورة وممنوعاً من الخطابة على المنابر قبل الثورة بزمن طويل، كان هذا الشيخ ابن عم أحمد؛ لذا لم يستطع أن يخبره بشيء يدل على أن كوابيسه تتعلق بمأساة أحمد، وخاصة بعدما حدثه أبو مالك بامتعاض أحمد من نشر عذاباته التي يمكن تخمينها دون تشريحها. أخبر خلدون الشيخ زياد بتلك الكوابيس التي لا تفارقه وكأنه أصيب بمس من الجن، فهو لا يستطيع النوم منذ عودته من دفن صديقه خالد، أراد منه أن يقرأ عليه بعض القرآن عسى أن يكون سبباً لفك كوابيسه وهواجسه التي لا تهدأ، سأله الشيخ زياد عن تلك الكوابيس فشرح له الصورة دون تحديد الأشخاص، فمعرفة الشيخ زياد بمأساة ابن عمه أحمد لن تقدم أو تأخر، فقط ستضيف معاناة أخرى على ذلك الكائن الحساس المرهف الذي لم يستطع يوماً أن يُنافق أو يُداهن، مثل العدد الكبير من شيوخ السلطان الذي أغْرَقَ بهمُ النظامُ الشعبَ المنكوب.
عندما روى له الكابوس، فطنة الشيخ أدركت -إنَّ وَرَاءَ الأكَمةِ مَا وَرَاءَهَا- ولكنه التزم بقوله تعالى في سورة المائدة الآية 101: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)، فهو لطالما كان وقَّافاً عند تعليمات دينه يتجنب النفاق والبراغماتية التي كانت حصيلة السفاح المُحرم بين الدين والسلطة، لكن الشيخ زياد بعد أن أرقاه ببعض الآيات من القران الكريم، طلب منه طلباً غريباً، قال له: إني أعرفك منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، وأنت لم تتزوج إلى الآن، وقد اقتربتَ من العقد الخامس، فلربما تلك إشارة ربانية أن عليك أن تسكن إلى نصف روحك الآخر، والحمد لله مع سقوط النظام، تحقق شيء مما حلمت به رفقة ابن عمي أحمد، ولا يكتمل دين الرجل إلا بالتعفف بالزوجة الصالحة، ورغم كبر سنك لكن العديد من النساء يتمنين رجلاً بمعنى الكلمة مثل أخلاقك وشهامتك، ولا أظن أن المرأة المقتولة والجنين إلا رسالة من الله تدفعك للبحث عن شريكة صالحة. بالطبع أَسَرَّهَا خلدون فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا للشيخ زياد، فهو غير مقتنع بتفسيره، فالشخص مجهول الهوية الذي أخبر عنه زياد ما هو إلا أقرب الناس إلى قلب الشيخ “ابن عمه أحمد” والمرأة التي نُزِعَ الجنين من أحشائها لم تكن إلا زوجة أحمد التي سُلخت بعد نحرها أمام ناظري شقيق روحها. لكنَّ كلامَ الشيخ زياد دلَّه على ضرورة أن يفعل شيئاً لامرأة مكلومة مازالت على قيد الحياة بعد سنوات تعذيب واغتصاب، وأن يجعل هذا العمل صدقة جارية على روح صديقه أحمد و زوجته سُمَيَّة، وبالفعل بدأ خلدون رحلة البحث المضنية عن شخصية ما يُحيي فيها الأمل ويكفكف عنها شيئاً من عذابات سَقَرَ الدنيا الذي أذاقه الأسدان لشعب بكامله، دلَّه بعضُ معارفه، على امرأة تدعى المكاء (أم سالم) نسبة إلى طائر المكاء الذي يُغرّد في الصحراء ويملك صوتاً عذباً يحيي به وحشة الصحراء، ويقال: إن تسمية هذا الطائر بـ (أم سالم) يعود نسبة لامرأة عجوز كبيرة السن، تدعو على من يضايقها، ودعوتها لا تخيب؛ لذلك سميت بهذه التسمية، تلك المرأة التي يعرفها الجميع بهذا الاسم “المكاء (أم سالم)” كانت من أواخر المعتقلين المحررين من سجن صيدنايا، دخلت إلى السجن صبيةً عذراءَ في السابعةَ عشرةَ من عمرها مع بدايات الثورة، وخرجت مع دخول الثوار لزنزانتها المنفردة ومعها ثلاثة أطفال، لا يعرف من هم آباؤهم. المكاء (أم سالم) عاشت لعشر سنوات في زنزانة انفرادية، كان صوتها العذب يُطرب الزنازين ويبعث الأمل في قلوبهم المنكسرة، وهي تغني في الليل أغنية واحدة لا غير، أغنية قديمة من التراث الشعبي غنتها نجاح سلام عام 1948 مطلعها “حول يا غنام حول، بات الليلة هين قلي يا غنام بالله شايف حبي وين؟”، كان صوتها العذب يزعج السجانين؛ ربما لأنه يبعث الأمل في قلوب المعذبين ويغطي على صراخ المتألمين، في البدايات كانوا يخرجونها من زنزانتها ويضربونها بشدة، كلما صدحت بهذه الأغنية من زنزانتها الموحشة، لكن إصرارها في كل ليلة على الغناء جعل اليأس يتسلسل إلى نفوسهم فتركوها بعد حفلات تعذيب يومية لمدة ثلاثة أشهر تقريباً، فانتصرت عليهم وحطمت إرادتهم في إسكاتها. ربما شكل هذا بصيص أمل للسجناء والمعذبين، أطلق عليها هذا اللقب شخص يدعى محمود كان يحمل شهادة دكتوراه في الحياة البرية من السوربون قبل أن يصبح أسير نزوات السلطة التي تقرب الأشخاص وتبعدهم بحسب الولاء وفي كثير من الأحيان تبعاً للنزوات العبثية.
العجيب أن تلك الأغنية لم تكتمل يوماً، بل كانتِ المكاء تكتفي بالمطلع فقط وتكرر إعادته دون توقف لساعات، ورغم أن ذاك في الأحوال العادية يعتبر تعذيباً للمستمعين، لكنه في السجن كان شيئاً آخر، فالكثير من الأشياء لها معانٍ مختلفة خارج القضبان وداخلها. بِكرُها كانت قد أسمته خالداً على اسم والدها، ولكن مع انتشار اسمها بين السجناء وهم يمدحون شجاعتها على الاستمرار رغم التعذيب المستمر أسمته سالماً، بدا للجميع أن معركة كسر إرادة السجانين أصبحت دون اتفاق سابق معركة جميع من وصل لهم صوتها، كانوا يحبون عذوبته ويطلقون الصيحات التشجيعية لثورتها المُفصلة على قدر إمكاناتها، الله يحيي أم سالم (المكاء). كان الضباط والسجانون يتعاقبون على اغتصابها، ويطلبون منها الغناء تهكماً وهم يحاولون جاهدين اغتصاب شموخها قبل جسدها، كانت معركة كسر إرادة بين السجانين و وحشيتهم التي لا تعرف حدود، وبين صلابة موقف أم سالم التي لم تكن تملك إلا صوتها وجملتين ترددهما كلَّ يوم دون كلل أو ملل.
حالات الاغتصاب التي لا تعد ولا تحصى أسفرت عن ثلاثة أطفال وجنين ميت كانت حصيلة اغتصابها الأول من المحقق أمجد، الذي عندما علم بحملها أمر السجانة بركل بطنها حتى أجهضت. بالنسبة لمن يسمعون بقصتها بعد خروجها يدركون أن الأمر أغرب من الخيال، فكيف يمكن لبشري أن يصب على بشري آخر كلَّ تلك الأعمال الوحشية، دون أن يرف له جفن، هل هي بهيمية القطيع؟ ربما !! وهل من مبررات لهذه التصرفات التي تسبق تلك الفظائع أم أنها تأتي بعدها؟ أسئلة كثيرة دارت في ذهن خلدون عندما علم بقصة المكاء، بالتأكيد لم تنشر قصتُها على الإعلام، ورفضت إغراءات المال للظهور على الشاشات وعلى قنوات مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، فبعد خروجها من المعتقل، ذهبت إلى منزل أهلها الذي يقع في قرية على أطراف أرياف حوران، واعتزلت البشر، واعتزلها أهلُها عندما عادت لهم تجر معها ثلاثة أولاد مجهولي النسب، قسوة الجهل في مجتمعاتنا أحياناً تكون أشد وطأة من سياط السجانين، ونظرات الاستهجان التي تملأ عيون المجتمعات التي ترفع الشرف شعاراً لا تطبيقاً تكون أقسى من حبل المشنقة، وهو يخنق أنفاسك، معاناة أم سالم خارج المعتقل كانت أشدَّ من معانتها داخل المعتقل، ففي داخل زنازين الطاغية كانت تملك الأمل في الخروج إلى الحرية كي تغرد حرة في صحراء وطنها، لكنها خارج الزنازين أصبحت بلا أمل وعيون مختلطة تحيط بها من كل جانب، عيون شك، عيون استعلاء، عيون لوم، عيون شفقة، والأشد وطأةً عيون العار من إخوتها ووالديها. اتصلت بإحدى الناجيات اللواتي سِرْن سوية لكيلومترات حفاة بعد تحريرهن، تريد منها المساعدة، قالت لها جملة دفعتها لمساعدتها تحت أي بند. قالت لها: والله يا أختاه أحن للعودة إلى تلك الزنزانة الانفرادية التي لا تتجاوز متراً بمترين محشورة مع أطفالي الثلاثة! شكلت تلك العبارة صدمة لصديقةِ أجمل مسيرةٍ مشتها الاثنتان في حياتهما رغم أن صقيع زفت الشارع كان لا يطاق والرؤية معدومة في ظلمة الليل البهيم الأليل، لكن هواء الحرية كان له طعم لا يمكن لأعظم الشعراء وصفه. منذ أن صرخت المكاء بصمت تلك العبارة أصبحت صديقتها، التي لم تتجاوز صداقتهما معاً نصف يوم، تبحث بشكل مستمر عن مكان يُؤوي صرخات من أحيت الأمل يوماً لكل من وصل إلى سمعه صوتها العذب.
الصدفة هي من قادت خلدون إلى سماع قصة المكاء، اتصل بالصديقة التي شعرت بالمكاء أكثر من مجتمعها الصغير الذي وقف الشرف العُرفي سداً بينهم وبين فلذة كبدهم، أخبرها أنه على استعداد أن يقدم لها منزلاً ويغطي نفقاتها اليومية، هي وأولادها.
الغريب أن أهلها لم يعارضوا رحيلها، بل شكل لهم رحيلها، راحة مؤقتة من حشرية المجتمع وعيون المتطفلين، أرادوا أن يَئِدُوا قصتها مع أطفالها الثلاثة. خلدون استقبل المكاء، وقدم لها منزلاً متواضعاً كان يمتلكه، ووعدها بتغطية كافة مصاريفها، هي وأولادها الثلاثة: سالم، حنان وأمل. أخبرها أن عمله هذا لوجه الله ولا يريد منها جزاء ولا شكوراً، وليقنعها بصدق نواياه، في مجتمع اعتاد الشك في التصرفات الإنسانية، أخبرها أنه يعتبر عمله وقف لصديقه الشهيد أحمد وزوجته سمية التي استشهدت هي وجنينها في السجن. هنا وببراءة سألته: وهل جنينها كان نتيجة اغتصاب؟ بداية استغرب خلدون من سؤالها، لكن فطنته أدركت، أنها تظن أن كلَّ امرأة حامل في سجون الأسد ما هي إلا حصيلة سِفَاحِ من جلادي النظام، التمس خلدون العذر للمكاء، وأجابها: لا، ثم صَمَتَ صمت القبور وتجمد لثوانٍ وكأنه أصيب بنوبة صرع عابرة، بعدها وبلا شعور امتلأت مقلتاه بالدمع، فاستدار بسرعة قبل أن تغادر الدمعةُ مقلتيه الغريقتين.
المكاء التي أدركت أشد مشاعر الألم، تدرك أرق المشاعر الإنسانية، فالتطرف بالشعور من الأعراض الجانبية للناجين من زنازين الموت البطيء، وقد شعرت بما عبر غِبَّاً في دماغ خلدون! صممت لدى زيارته في الشهر التالي أن تسأله عن قصة صديقه أحمد، فالمكاء منعزلة عن البشر ما عدا صديقتها عفت، وبحيائها استحت أن تُخجِله بالسؤال، فطلبت من صديقتها الاستفسار عن دوافع جابر عثرات الكرام بالنسخة السورية.
وبالفعل سألت عفت خلدوناً عبر الهاتف، لم يستطع إغراقها بكل ما فاضت به مشاعره وأفكاره واكتفى بنثر الأجوبة التي تسد رمق النهم للمعرفة العابرة.