في عذوبة السهل الممتنع

محمود الرحبي

عرفنا أسلوب السهل الممتنع مع روايات الرعيل الأول، خاصّة توفيق الحكيم في رواياته ومسرحياته. ومن مميّزات هذا الأسلوب أن الزمن فيه خطّي سلس، كما أن الجُمل والعبارات تترقرق كالنبع متسلسلةً وهادئةً، واللغة جزلة متمكّنة تنمّ عن قراءة لمتون التراث الإنساني والعربي. وفي الوقت الحالي، مع كثرة الروايات وحمّى جوائز الرواية العربية، توارى هذا الأسلوب لصالح أساليبَ جديدةٍ مبتكرة، كما أن حجم الروايات صار كبيراً، وزمنها متنقّلاً وأحياناً معقّداً، ما يمكن أن يشعر القارئ بالملل عند قراءة العديد منها.
واحد من الكتّاب الذين يخلصون لأسلوب السهل الممتنع الروائي المغربي عبد الحميد البجوقي، في معظم رواياته التي تجوب في عالم المنافي والمهاجرين الأفارقة والعرب. وروايات البجوقي لا تتجاوز 190 صفحة، حتى التاريخية منها، كما هو الحال مع روايته الممتعة “عريس الموت” (دار الفاصلة، طنجة، 2023)، وهي عن فترة الحماية الإسبانية لشمال المغرب، وتركّز أكثر على حياة الهامش وصراعه الخفي مع المُستعمِر الذي يعيش هو الآخر أزمته في صعوبة ترويض السكّان الأصليين، والمغاربة الذين شاركوا في غفلة منهم في الحرب مع الرئيس الإسباني فرانشيسكو فرانكو، وقد رجّحوا انتصاره على الجمهوريين.
أغلب الروايات التي قرأتها للبجوقي ذات بعد واقعي توثيقي، تنطلق من الأرض الإسبانية لتعود عبر ارتدادات زمنية إلى المغرب ومحيطها. وكانت أحدث رواية صدرت له بعنوان “هسيس الغرباء”، صدرت هذا العام (2025) عن دار سليكي أخوين المغربية، وعدد صفحاتها 142، تسرد حياة خديجتَين مغربية وسودانية، والشابّين “أنطونيو” الإسباني و”أمير” السوداني.
“خديجة” المصابة بعلة عقلية تتعرّض لاغتصاب، فيسجنها والدها في ركن مظلم من المنزل تدخل إليه الشمس والطعام من الفتحة الضيّقة نفسها، كما سمح الأب بأن تدخل الأم لتنظّف المكان بين فترات متباعدة. والجنين الذي حبلت به ثمّ ولدته، بيع في الأراضي الإسبانية لصالح عائلة تعمل في شرطة الحدود. وبعد أن يكبر في بيت أبوين أشقرين لا يشبهانه، يعمل أيضاً في شرطة الحدود. وذات يوم، يقرّر ألفان من الأفارقة الذين تجمّعوا في غابات المغرب، الهروب جماعياً إلى إسبانيا، وقد اجتازوا الأسلاك الشائكة والمميتة، ومن ينجو منهم تتلقّفه شرطة الحدود بالهراوات وأحياناً بالرصاص. الشاب “أنطونيو”، بطل الرواية، يضرب “أمير” (القادم من جوبا بجنوب السودان) على رأسه بهراوة كادت أن تقتله، يُغمى على “أمير” في الحال، فتنتاب “أنطونيو” حالة من الندم الشديد، فيتّصل بالإسعاف. مع الوقت، تنشأ علاقة بينهما، وفي الوقت نفسه يتعرّف صحافي على قصّة “خديجة” المسجونة، لنكتشف أنها أم “أنطونيو” الحقيقية. تتفاعل الصحافة مع قصّتها، ويُطلَق سراحها، ولكنّها لا تلبث أن تُتوفَّى في المستشفى. و”أمير” السوداني لديه أمّ كذلك تحمل اسم “خديجة”، فتتطوّر الأحداث، ويرافق “أنطونيو” “أمير” لزيارة جوبا، وهناك يُقتل “أمير”. يعود أنطونيو إلى إسبانيا وبرفقته الأمّ “خديجة” السودانية، التي يعرف منها أن “أمير” المُتوفَّى لديه زوجة هاربة من أهلها وعندها طفل. فيعود “أنطونيو” إلى السودان للبحث عنها والعودة بها إلى إسبانيا، بعد أن يتزوّجها. وهكذا، بعد بحث وعناء يصير له أمّ سودانية تحمل اسم أمّه الحقيقية، وكذلك زوجة وطفل.
الرواية على قصرها مفعمة بالأحداث، وأيضاً بالوصف التوثيقي، إذ يستخدم الكاتب أسلوب الرحلة التي تتميّز بالدقّة الطوبوغرافية، مثل وصفه مدينة شفشاون، التي تعتبر غرناطة الصغيرة، إذ بناها الأندلسيون الهاربون من حروب التفتيش على الطريقة نفسها التي بنوا فيها غرناطة الأندلس. ومن جوف البيوت تخرج رائحة الياسمين كما كان عليه الحال في الأندلس، حين هجّر منها العرب والمسلمون عنوةً لأسباب دينية.
من أجواء الرواية، تقول “نيامال” (سودانية من جوبا) بسخرية مرّةٍ: “نعم حبيبي، نفاق الغرب. الغرب الذي يرفع شعارات الحرية والعدالة، هو نفسه الذي ينهب خيراتنا منذ قرون، ثمّ يتساءل لماذا نهرب من أوطاننا المحترقة؟ يبيعون لنا الوهم، ثمّ يحرسون أسوارهم بأسلحتهم، ويتركون أجسادنا طعاماً للأسماك. هل تعرف أكثر ما يوجعني؟ ليس أنهم لا يريدوننا، بل أنهم لا يريدون أن يروا مسؤوليتهم في كلّ هذا الخراب”.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى