
أما بعد كل ما جرى، وما يجري، وما سيجري، بعد غزّة، ولبنان، وسورية، واليمن، واليوم إيران، يمكن الكلام والاستفاضة في العداء لإسرائيل على اعتبار أنها كيان فاشي عنصري لا يمكن التعايش معه، وأن تقديم أي تنازل في أي مكان، أو في أي ملف وقضية، سيدرّ خلفه مزيداً من التنازلات. تبدأ الأمور بقضمة، وتنتهي بالتهام. وليس هذا الكلام جديداً، هو كلام يمكن مراقبة مفاعيله منذ سنوات. يمكن مراقبة ما أقدمت إسرائيل عليه في ما خصّ فلسطين تاريخيّاً، والجولان، وجنوب لبنان، والدولة الفلسطينية كخيار حلّ الدولتين، وبقية الحلول التي كانت مطروحة على مدى السنوات اللاحقة، وقد باتت حالياً في غياهب النسيان، أو أقله الاستبعاد. هناك من يمتلك كل شروط القوة، والتغطية، والدعم، ويقترف ما يريده، ويفعل ما يشاء، ويخطّط ويقرر وينفذ من دون حسيب أو رقيب، وبما يتفق أو يختلف مع القوانين والشرائع الدولية كافة. هكذا هي الهزيمة، هذا طعمها، هذا مذاقها، وهذه نتائجها.
والمشكلة الأكبر أننا لسنا في مجرّد حالة هزيمة، بل شروط الهزيمة هي التي تسيطر على مجمل الخيارات، من كل حدب وصوب. هناك هزيمة ماحقة لا يكفي الإقرار بها لمجرّد الاعتراف بالهزيمة فحسب، بل لسبر أغوار شروط الواقع المهزومة بدورها، والقول، بكل راحة ضمير، إن المعادلة تقول إن أي مسارٍ هو في صالح إسرائيل في الحالة التي نعيشها. وكأن الخيارات بأكملها تلاشت، ونحن اليوم أمام خيارٍ واحد فقط، وهو اختيار نوع الموت، ونوعي الهيمنة والغطرسة وشكلهما، ليس إلا.
لا تريد إسرائيل القتل والتدمير فحسب، بل تريد إلغاء كل إمكانية للعودة
والسيئ في الأمر ليس أننا أمام معادلة من هذا النوع فحسب، بل أننا أمام معادلة لا نكتبها ولا مسلك لنا خارجها، إذ توصلنا كل الدروب إلى مطحنة الحلول الأخرى، إلى القضاء على أي إمكان، إلى القضاء على الممكن نفسه، فقد استطاعت إسرائيل اليوم أن تحوّل ضعفها لقوّة أكبر من أي يوم مضى، وفي المقابل نحن، العرب، في أتعس حالاتنا من بين كل الحالات التي مرّت في تاريخ هذه المنطقة. تجربة أولى من شروط المعادلة التي لا تحقّق إلا الخسائر، ولا تؤكد إلا على نتيجة واحدة بالخط العريض: الهزيمة.
تقوم إسرائيل اليوم بما تقوم به، تغير، تدمّر، تقتل، تقضم، تتوغّل، تنسحب، تهدّد، تزمجر، تمارس كل شروط الابتزاز السياسي على المستوى الدولي، ولا أحد يستطيع رفع الصوت، لا أحد يرفع الصوت حقاً باستثناء قلة قليلة من الدول التي ما زالت تمتلك بعض قرارها. نحن اليوم أمام مشهد يتخطّى السينما الهوليوودية في أكثر أفلامها رعباً. أمام مشهدٍ لا مثيل له في التاريخ البشري، لكنه يختلف عن كل المشاهد السابقة في حقيقة ساطعة واحدة، أننا لسنا مجرّد مشاهدين. نحن المشاهدون، ونحن الضحايا والأموات، نحن الشهود على موتنا، ونحن خلاصة رواية البؤس هذه التي لن تنتهي إلا بالتهجير، أو بتكويم الجثث بعضها فوق بعض في مقابر جماعية في باطن الأرض، بعد أن كنا نعيش في مقابر فوق سطحها.
نحن اليوم أمام شروط هزيمة يرافقها عجز في صالح العدو
على سبيل المثال، ما تقوم به إسرائيل في لبنان هو إلغاء الإمكان نفسه، إطاحة كل شروط الحياة، خصوصاً في المناطق الشيعية. هي لا تريد القتل والتدمير فحسب، بل تريد إلغاء كل إمكانية للعودة. تحاول، ويبدو أنها تنجح في ذلك، المراهنة على عوامل الوقت والإصرار والصبر، تراهن على الترانسفير من المناطق الشيعية في لبنان بأن تجعلها غير قابلة للعيش، تعبيداً لطريق سكّانها إلى خارجها، سواء خارج الدولة نفسها، أو، وهو الاحتمال الأكثر خطورة، الهجرة إلى مناطق لبنانية جديدة مختلطة قد تؤسّس من خلالها لكل شروط التنافر والاقتتال الداخلي. هذا ما قد تطمح إسرائيل إليه، وما قد يزيد طين شروط الهزيمة بلة جديدة. بلة تجعلها أكثر حيوية كهزيمة، تؤسّس لشروطها وتؤكد عليها اليوم وفي المستقبل، بحيث لا تنتج إلا الهزيمة نفسها، فالهزيمة هي الخيار الوحيد، والذي لا خيار آخر غيره.
نحن اليوم أمام شروط هزيمة يرافقها عجز في صالح العدو أيضاً، كيفما نظرنا إليه ومن أي خلفية. كل الشروط هي شروط الهزيمة، كل البدائل هي بدائل الهزيمة، كل الطرقات مغلقة، كل الأمكنة محاصرة، وكل الأفكار محصورة بين فكرتين لا ثالثة لهما: الموت أو الاضمحلال.
هل يمكن الخروج من المأزق ومن معادلة الموت أو الاضمحلال هذه؟ لا يبدو أن هناك أي إمكانية اليوم، بل على العكس، هناك ما يؤكّد على أننا خارج خيارات الاختيار نفسه، خارج معادلة الإرادة، وخارج كل إمكانات الإمكان.
المصدر: العربي الجديد