بوابة دمشق بين الطموح التنموي والتحدي المائي.. هل نُعيد التفكير في الموقع؟

د. أحمد حج أسعد

في لحظةٍ فارقة تقف فيها دمشق على أعتاب استعادة مكانتها الرمزية والتاريخية، يُمثّل مشروع “بوابة دمشق” مبادرة استثمارية وتنموية طموحة، تهدف إلى إعادة تقديم العاصمة بصورة جديدة تنأى عن إرث العقود الماضية من القمع والعنف، سواء على الصعيد الداخلي أو من خلال سياسات التوسع الإقليمي.

ويسعى المشروع إلى تحويل دمشق من مركز سلطوي منغلق إلى فضاء ثقافي منفتح، ووجهة اقتصادية وسياحية حيوية تفتح آفاقًا جديدة للتنمية والانفتاح.

غير أن هذا الطموح، على وجاهته، لا يخلو من مفارقة جوهرية: فهو يقوم في مدينة تُعدّ من بين أكثر المناطق عجزًا مائيًا على المستوى الوطني، ما يطرح سؤالًا لا بد من مواجهته بجرأة ومسؤولية: هل من الحكمة أن نُراهن على مشروع ضخم في مدينة تختنق بالعطش؟ وهل تكفي الرمزية والموقع لتبرير إطلاق مشروع قد يفاقم الأزمات البيئية والعمرانية بدل أن يُسهم في حلّها؟

من هنا، ينطلق هذا المقال من تساؤل قد يبدو صادمًا لكنه ضروري: ماذا لو كانت بوابة دمشق… في غير دمشق؟

في سوريا الجديدة، تتسارع المشاريع الكبرى في إطار ما يُعرف بجهود إعادة الإعمار، بين من يسعى إلى ترميم ما تهدّم، ومن يطمح إلى إعادة تشكيل الرمزية الحضرية للمدن. ومن بين أهم المشاريع التي أثارت انتباه الرأي العام مؤخرًا، يبرز مشروع “بوابة دمشق لإنشاء مدينة إعلامية وفنية” بوصفه مبادرة تنموية ضخمة، تحمل في طياتها بُعدًا ثقافيًا وسياحيًا واقتصاديًا، وتسعى إلى إعادة تقديم العاصمة السورية في صورة مغايرة؛ لا كعاصمة للسلطة الأمنية وتصدير القمع، بل كعاصمة للثقافة، والانفتاح، والتنمية.

غير أن هذا الطموح المتجدد يصطدم بواقع بالغ الحساسية: فقر المياه في دمشق. والسؤال المشروع هنا: هل يمكن لمدينة تعاني من عجز مائي مزمن، يزداد تفاقمًا عامًا بعد عام، أن تحتمل مشروعًا بهذا الحجم قد يضاعف من استهلاكها للموارد الشحيحة؟ وهل يُعقل أن يُبنى حلم تنموي بهذه الضخامة دون أن تُؤخذ خريطة الموارد الطبيعية، وعلى رأسها المياه، بعين الاعتبار؟

هذا التدفق السكاني يتطلب بنية تحتية متكاملة تشمل السكن، والمياه، والطاقة، والصرف الصحي، وهي مجالات تشهد أصلًا اختناقات مزمنة في دمشق وريفها، وعلى رأسها أزمة المياه.

من العاصمة الأمنية إلى العاصمة الثقافية؟

لطالما ارتبطت صورة دمشق، لا سيما خلال العقود الخمسة الماضية، بمركزية القرار الأمني، وبالهيمنة على البلاد سياسيًا ومجتمعيًا، بل امتدت تلك الهيمنة إلى الإقليم من خلال دعم شبكات أمنية عابرة للحدود. وتحوّلت المدينة، للأسف، في الذاكرة الشعبية العربية والسورية، إلى رمز للجهاز الأمني ومعتقلاته، وعلى رأسها سجن صيدنايا سيئ السمعة.

لذلك، يأتي مشروع “بوابة دمشق” كمحاولة لإعادة رسم هذه الصورة، وفتح أفق جديد للعاصمة السورية، بوصفها مدينة قادرة على استعادة دورها التاريخي كمركز إشعاع ثقافي، ومقصد سياحي، وفضاء حضري نابض بالحياة. ويمثل المشروع خطوة نوعية ضمن جهود إعادة الإعمار، من خلال توفير آلاف فرص العمل، واستقطاب استثمارات داخلية وخارجية، وتحريك عجلة الاقتصاد المنهك.

تشير التقديرات الأولية إلى أن المشروع سيوفّر نحو 4,000 فرصة عمل دائمة، و9,000 فرصة موسمية. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن متوسط عدد أفراد الأسرة في سوريا يبلغ خمسة أشخاص، فإن المشروع قد يستقطب ما يزيد على 75,000 شخص، ما بين عمّال دائمين وموسميين وأُسرهم.

هذا التدفق السكاني يتطلب بنية تحتية متكاملة تشمل السكن، والمياه، والطاقة، والصرف الصحي، وهي مجالات تشهد أصلًا اختناقات مزمنة في دمشق وريفها، وعلى رأسها أزمة المياه.

إذا ما افترضنا استهلاكًا يوميًا بمقدار 100 ليتر للفرد من العاملين في المشروع وأسرهم، فإن المشروع سيؤدي إلى طلب إضافي يتجاوز 7,500 متر مكعب من المياه يوميًا، دون احتساب الاستهلاك العالي المتوقع للسياح، أو استخدام المياه في المساحات الخضراء، والمسابح، والمرافق الخدمية. نحن أمام استنزاف متوقّع للموارد في منطقة تُصنّف أصلًا ضمن مناطق الفقر المائي الحاد.

أزمة المياه في دمشق: التحدي الغائب في الحسابات

دمشق اليوم تواجه عوزًا مائيًا شديدًا. فنبع الفيجة، المصدر الرئيسي لمياه الشرب في المدينة، يعاني من تراجع كبير في معدلات التدفق، ونهر بردى بالكاد يصل إلى تخوم المدينة، بعد أن استُنزف ماؤه بسبب عشوائية التوسع العمراني، وسوء إدارة الموارد لعقود سابقة، بالإضافة إلى التغير المناخي وتزايد تواتر سنوات الجفاف. وفي السنوات الأخيرة، أصبح التقنين المائي واقعًا يوميًا يعيشه سكان العاصمة، لا سيما في أشهر الصيف. فهل من الحكمة، إذًا، أن نُضيف إلى هذه المدينة الظمأى مشروعًا ضخمًا سيضاعف الطلب على المياه؟

في ظل هذه المعطيات، يُصبح من الطبيعي طرح تساؤلات جوهرية حول مدى ملاءمة إقامة مشروع تنموي بهذا الحجم في منطقة تعاني من فقر مائي هيكلي. إذ إن تشييد مدينة متوسطة الحجم كـ”بوابة دمشق” على أطراف تجمعات سكنية تؤوي أكثر من أربعة ملايين نسمة، في منطقة مصنّفة تحت خط الفقر المائي، يُمثّل تحديًا بنيويًا يمسّ أمن المياه في العاصمة ومحيطها. كما يثير تساؤلات حول مدى التوافق بين أهداف التنمية ومحدودية الموارد، فضلًا عن مشروعية طرح بدائل مكانية أكثر اتساقًا مع اعتبارات العدالة المائية والاستدامة.

تتشابك الجغرافيا مع السياسة، والمركز مع الهامش، والماء مع البقاء، فإن مشروعًا كـ”بوابة دمشق” يجب أن يُناقش في إطار رؤية أوسع تُعيد توزيع التنمية وفق مواردها الطبيعية.

هل يمكن أن تكون البوابة في مكان آخر؟

تمثل البنية التحتية القائمة من مطارات، وفنادق، وشبكات مواصلات ميزة لاختيار الموقع بالقرب من المدينة الإعلامية “بوابة دمشق”، لكن التحدي الوجودي المتمثل بالعوز المائي لدمشق ومحيطها يدعونا إلى التفكير في اختيار مكان آخر؛ فليس من المبرر مراكمة مشاريع إضافية في منطقة محدودة الموارد. لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح هو: هل تبرّر هذه “الجاهزية الجزئية” المجازفة بمورد حيوي بحجم المياه؟ وهل ينبغي للمركز دائمًا أن يحتكر فرص التنمية، بينما تعاني المناطق الأخرى من التهميش والإقصاء؟

سوريا بلد صغير نسبيًا، والمسافات بين المدن والمحافظات محدودة. كما أن هناك العديد من المناطق التي تجمع بين وفرة نسبية في المياه، وبنية تحتية قابلة للتطوير، وموقع استراتيجي يؤهلها لاستضافة مشاريع مماثلة. بل إن نقل “بوابة دمشق” إلى إحدى هذه المناطق قد يكون خطوة ضرورية نحو إعادة توزيع التنمية، وضخ الاستثمارات في المناطق التي بقيت مهمّشة لعقود، وتفتح آفاقًا لسكانها بدل دفعهم نحو مزيد من الهجرة الداخلية باتجاه العاصمة. يمثل التفكير في نقل مشروع “بوابة دمشق” إلى منطقة أخرى تتميّز بوجود وفرة مائية اختيارًا حقيقيًا لرؤية التنمية المستدامة ولسياسة إعادة إعمار فعّالة.

بالإضافة إلى ذلك، يدعونا الواقع المائي في دمشق إلى إعادة النظر في العلاقة بين “المركز” و”الهامش”، وبين “المورد” و”الطلب”. ويُصبح من الضروري التخلّي عن التفكير النمطي الذي يعتبر دمشق الخيار الوحيد، والتوجّه نحو إقامة المشاريع التنموية في “الأطراف”، آخذين بعين الاعتبار الموارد، والحاجات، والإمكانات. نحن بحاجة إلى خريطة مائية تنموية تُبنى عليها أولويات الإعمار، وتُؤخذ كمرجعية لتحديد مواقع المشاريع الكبرى، بما يضمن عدالة توزيع الموارد، واستدامة التنمية، وتخفيف حدة المركزية التي أثقلت كاهل العاصمة لعقود.

لنأخذ على سبيل المثال المنطقة الواقعة ضمن نصف قطر يبلغ 70 كيلومترًا من مطار حلب الدولي؛ إذ تزخر هذه المنطقة بعدد من المواقع الواعدة، بما في ذلك تلك الواقعة عند تقاطع الطريقين الدوليين M4 وM5، والتي تتميّز ومحيطها بتنوّع طبوغرافي وبيئي، ووفرة في الأراضي، فضلًا عن وجود مواقع أثرية وموارد مائية قابلة للاستجرار من مصادر قريبة. كما يُضاف إلى ذلك سهولة الوصول منها إلى كلّ من الساحل السوري والعاصمة دمشق. إن اختيار موقع كهذا لإقامة مشروع “بوابة دمشق” من شأنه أن يحقّق الأهداف التنموية والسياحية المرجوّة، مع تعزيز فرص استدامة الموارد وتوسيع الخريطة الاقتصادية الوطنية بشكل أكثر توازنًا وإنصافًا.

نحو تخطيط مائي عادل للتنمية

إنّ ما يكشفه هذا الطرح هو الحاجة إلى إدماج البُعد المائي والبيئي في التخطيط التنموي. فلا يكفي أن يُنظر إلى جدوى المشاريع من منظور اقتصادي أو رمزي فقط، بل لا بد من تقدير أثرها البيئي والسكاني على المدى المتوسط والطويل. ويُصبح من الضروري وضع خريطة تنموية مائية تكون الأساس الذي تُبنى عليه قرارات من هذا النوع.

في السياق السوري، حيث تتشابك الجغرافيا مع السياسة، والمركز مع الهامش، والماء مع البقاء، فإن مشروعًا كـ”بوابة دمشق” يجب أن يُناقش في إطار رؤية أوسع تُعيد توزيع التنمية وفق مواردها الطبيعية. فالماء ليس عنصرًا ثانويًا في معادلة التنمية، بل هو الأساس الذي يُبنى عليه كل مشروع مستقبلي. وأي مشروع لا يراعي خريطة المياه هو مشروع غير مكتمل، وربما غير قابل للاستمرار، وخاصة في المناطق الجافة وشبه الجافة، حيث تشكّل المياه عاملًا محددًا.

ولعلّ من المفيد أن نتساءل: إذا كانت المياه لا تكفي دمشق وسكانها الحاليين، فكيف سنؤمنها لمدينة جديدة نُخطط لبنائها على أطرافها؟ وهل من المنطقي أن نختار “المكان الخطأ” لبناء “المشروع الصحيح”؟ أم أن الوقت قد حان لنفكر خارج الصندوق، ونرسم خريطة التنمية على أسس الواقع البيئي، لا على النمط التقليدي؟

التنمية، إذا لم تكن مستدامة، تتحوّل سريعًا من فرصة إلى عبء، ومن وعد إلى مأزق.

خاتمة

إن مشروع “بوابة دمشق”، بما يحمله من وعود اقتصادية ورمزيات ثقافية، يُشكّل من حيث المبدأ خطوة نوعية نحو تجاوز مآسي العقود السابقة وإطلاق ديناميات إعادة الإعمار. غير أن الإصرار على ربط هذا المشروع بالعاصمة، رغم هشاشتها البيئية ومحدودية مواردها المائية، يُثير تساؤلات عميقة حول معايير التخطيط التنموي في مرحلة ما بعد النزاع.

فالمكان، في سياق التنمية، ليس مجرد خلفية صامتة، بل هو عنصر فاعل يُحدّد إمكانات النجاح أو الفشل. وفي بلد يعاني من تفاوتات بيئية إقليمية صارخة، وندرة متفاقمة في الموارد، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في خريطة المشاريع الكبرى على أسس من العدالة البيئية، والتوازن الجغرافي، والاستدامة المائية.

لقد آن الأوان لأن يتقدّم منطق الموارد والاحتياجات على منطق الرمزية والمركزية. وإذا كانت “بوابة دمشق” تُجسّد أفقًا تنمويًا لسوريا الجديدة، فلتكن أيضًا بوابة لمنطق عقلاني وديناميكي في توزيع المشاريع، بعيدًا عن النمطية التقليدية. ولتُشكّل نقطة انطلاق لرسم خريطة وطنية جديدة تُعيد الاعتبار للمناطق المهمّشة، وتُخفّف عن العاصمة أعباءً لم تعد قادرة على تحمّلها.

فالتنمية، إذا لم تكن مستدامة، تتحوّل سريعًا من فرصة إلى عبء، ومن وعد إلى مأزق.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى