دفاعاً عن عبد الناصر

أمين قمورية

ما جاء فى اللقاء بين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الليبي الراحل معمّر القذّافي في 4 آب 1970، صدم البعض بمضمونه والتوقيت والغاية من تسريبه الآن في ذروة الانكسار وتسويق التطبيع، لكنّه ليس جديداً ولا مفاجئاً.

من يدقّق في “أوراق عبد الناصر” التي نشرتها ابنته السيّدة هدى عبد الناصر قبل سنوات، فسيجد الكثير من المعاني والأفكار المشابهة في التسجيل. وأورد رفيق درب عبد الناصر محمد حسنين هيكل المضمون ذاته في كتبه عن تلك الفترة. اللافت أنّ قناة “ناصر تي في” المملوكة من عبد الحكيم جمال عبد الناصر هي التي نشرت نصّ الحديث الذي جرى بين الزعيمين الراحلين، في أعقاب قبول القاهرة مبادرة وزير الخارجية الأميركي الأسبق وليام روجرز في 22 حزيران 1970.

تنصّ المبادرة على وقف النار بين مصر وإسرائيل لمدّة 3 أشهر، وبدء البحث في تنفيذ تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 242 القاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلّتها في 5 حزيران 1967.

قبول مصر لمبادرة روجرز عرّض عبد الناصر لحملة انتقادات واسعة من حكومات عربية راديكالية بعثيّة في العراق وسوريا وعروبيّة في ليبيا والجزائر، وغالبيّة التنظيمات والفصائل الفلسطينية التي كانت تدعو إلى مواصلة الحرب لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر ردّاً على النكسة القاسية التي أصابت الجيوش العربية، لا سيما المصري منها. وكان ردّ عبد الناصر على المزايدين: “إذا كان حدّ عايز يناضل ما يناضل”.

تنصّ المبادرة على وقف النار بين مصر وإسرائيل لمدّة 3 أشهر، وبدء البحث في تنفيذ تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 242

بغداد دفعت أموالاً

سبق لمدير مكتب عبد الناصر سامي شرف أن نشر صورة لخطاب شديد اللهجة بعثه الزعيم المصري للرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر، في آب 1970، مفاده “أنّكم وسائر المنظّمات الفلسطينية تزايدون عليَّ وتنظّمون التظاهرات في بغداد ضدّي، إذا كنتم تريدون قتال إسرائيل فلماذا لا تقاتلونها انطلاقاً من الجبهة الشرقية؟”. وأضاف عبد الناصر في خطابه: “ليست بالشعارات تدور الحرب وتتمّ معارك التحرير، ولماذا لا توجّهون النار للعدوّ؟ بل إنّ بغداد دفعت أموالاً لأكثر من عاصمة عربية لتنظيم تظاهرات ضدّي”.

طبعاً هذه المواقف، إضافة إلى مضمون التسجيل، رأى فيها البعض موقفاً مغايراً للمواقف المعلنة لعبد الناصر عن ضرورة استمرار الحرب مع إسرائيل وطردها من الأراضي العربية و”تحرير فلسطين من النهر إلى البحر”، كما كان يتردّد في تلك الفترة. أبدى التسجيل الصوتي انفتاح عبد الناصر على الحلّ السلميّ مع إسرائيل، مُحذّراً من أنّ دخول مواجهة عسكرية جديدة قد يؤدّي إلى “نكبة جديدة” شبيهة بنكبة عام 1948.

خلال الحديث دعا عبد الناصر الدول العربية التي وصفها بأنّها “تزايد على مصر” إلى حشد قوّاتها ومحاربة إسرائيل ما دامت تعتبر أنّ السياسات المصرية آنذاك كانت انهزامية، قائلاً: “إذا كان حد عايز يكافح ليكافح… إذا كان حد عايز يناضل ليناضل”.

جاء النشر في وقت يواجه الفلسطينيون في غزّة والضفّة الغربية حرب إبادة ويعيشون أزمة كبيرة، جوهرها الخذلان وتركهم أيتاماً يواجهون مصيرهم البائس وحدهم في ظلّ مطالبات واسعة حتّى من أهل بيتهم بأن يلقوا السلاح وينصاعوا للإرادة الإسرائيلية.

عبد الناصر سيظلّ عبد الناصر، وسيظلّ يطبع أيّ قضيّة من قضايا العالم العربي بطابعه الخاصّ

هذا ما حدا إلى التساؤل: هل النشر في هذا التوقيت الاستثنائي في تاريخ الشرق الأوسط محاولة لتمرير سياسات وأفكار محدّدة؟ هل هو دعوة مبطّنة إلى القبول بالتطبيع ممهوراً بصكّ شرعيّةٍ يصدره عبد الناصر من القبر؟ هل الهدف إظهار أنّ الزعيم المصري كان بوجهين ولسانين، وجه المقاوم بلا حساب ووجه ولسان البراغماتي الذي يحسب لكلّ خطوة ألف حساب؟ أم صار عبد الناصر واقعيّاً بعد الهزيمة القاسية التي حلّت بمصر وجيشها وصار مدركاً لأهميّة توازن القوى بعد الانحياز الأميركي الكامل لإسرائيل؟

من زعيم حالم إلى رئيس براغماتيّ

في الواقع، كانت دروس النكسة وخسارة الحرب في اليمن قاسية وغيّرت عبد الناصر من زعيم حالم بالوحدة وبناء عالم عربي مثالي إلى رئيس براغماتي يتعامل مع الواقع بإدراك أعمق لحدوده. لكنّ التسجيل يدين أيضاً الراديكاليين منتقدي الزعيم المصري أكثر ممّا يدينه هو نفسه، ذلك أنّه تخلّى بعد النكسة عن الشعارات الرنّانة التي لا تحرّر أرضاً وانغمس في النضال الواقعي لبناء القوّة الوطنية والدولة القادرة لا القومية الحالمة. في حين بقي أولئك أسرى الشعارات التي لم تحرّر فلسطين وتسبّبت بالخراب لأوطانهم.

هكذا يعادل اجتزاء الحقيقة إنكارها، فمصر حينها كانت تستعدّ للحرب لا للاستسلام، ذلك أنّ قبول عبد الناصر بمبادرة روجرز التي كان يدرك حتمية فشلها لأنّ إسرائيل ترفض مبدأ الانسحاب، لم يكن تنازلاً بقدر ما كان مناورة سياسية لاستكمال بناء حائط الصواريخ وتحريكه إلى خطّ قناة السويس لوقف استهداف إسرائيل للعمق المصري خلال حرب الاستنزاف التي تلت النكسة، وتوفير الغطاء اللازم لأيّ عمل عسكري لاستعادة سيناء. وهذا ما حصل فعلاً في حرب أكتوبر 1973 عندما عبر الجيش المصري خطّ بارليف في عمل عسكري مذهل يحمل بصمات عبد الناصر، الذي أعاد بناء الجيش والاقتصاد بسرعة مذهلة قبل وفاته عام 1970. وقد فاق معدّل النموّ الاقتصادي عام 1969 ستّة في المئة.

لم يتخلَّ عبد الناصر بعد النكسة أبداً عن فلسطين ولا عن قضيّتها ولا بعد موافقته على مبادرة روجرز

خالد ثبّت طريق جمال

لم يتخلَّ عبد الناصر بعد النكسة أبداً عن فلسطين ولا عن قضيّتها ولا بعد موافقته على مبادرة روجرز، وإذا كان لم يتسنَّ له ذلك بالوقائع الملموسة، فإنّ بِكره خالد، وهو أكثر أبنائه شبهاً به وتمسّكاً بأفكاره، ما كان ليمضي حياته القصيرة بالمنفى ثمّ بالعزلة والمرض، بعد إدخاله قفص الاتّهام ومواجهة حكم الإعدام على خلفيّة المشاركة في تأسيس “تنظيم ثورة مصر” الناصري السرّي الذي عارض اتّفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، وتنظيم سلسلة هجمات ضدّ الإسرائيليين

عبد الناصر سيظلّ عبد الناصر، وسيظلّ يطبع أيّ قضيّة من قضايا العالم العربي بطابعه الخاصّ، لأنّ تأثيره الذي يعكس قوّة إرثه يتجاوز الزمان والمكان.

 

المصدر: اساس ميديا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى