العولمة والعروبة

معقل زهور عدي

في وعي الشعوب لهويتها ثمة حالتان، وعي كامن لا يجد له تعبيرًا صريحًا في الثقافة السائدة يستمد وجوده من التاريخ واللغة والدين والأدب والشعر والموسيقى ومختلف العوامل الاجتماعية الأخرى المرتبطة بما سبق والتي نشأت وتوطدت عبر مئات السنين كالأساطير والتقاليد والعادات الاجتماعية ..الخ ، ووعي محدث يرتبط بالدولة والحكم والسياسة والاقتصاد في لحظة تاريخية محددة ، وينشأ أحيانًا شكل من أشكال الصراع بين الحالتين ، فالوعي المحدث يتطلع إلى مد جذوره في المجتمع على حساب الوعي الكامن ، ويعتمد مدى انتصاره على ما يتحقق للشعب من انجازات في ظل تلك اللحظة التاريخية ، ولا يعني ذلك انتهاء الوعي الكامن بل نزوله نحو الأسفل مفسح المجال أمام الوعي الجديد.

وفكرة الرابطة العربية لم تكن حديثة الوجود حين التقطتها النخب الثقافية العربية في مطلع القرن العشرين بتحفيز من عصر القوميات الأوربية الذي ازدهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوربة، وما نحن متأكدون منه أن تلك الرابطة كانت موجودة مع فجر الاسلام على الأقل ، فخطاب القرآن الكريم واضح في تذكير العرب أن القرآن والاسلام تكريم لهم ورفعة لمكانتهم ” لقد أنزلنا اليكم كتابًا فيه ذكركم أفلا تعقلون ” وجاء في تفسير الألوسي: (والمعنى : لقد أنزلنا إليكم معشر العرب عن طريق رسولنا محمد كتابًا عظيم الشأن ،فيه شرفكم ، وعلو منزلتكم ) ، وقد كان توجيه عمر بن عبد العزيز لولاة الأقطار أن لا يستخدموا ( عيونًا لهم ) سوى من العرب، والمستشرق الألماني يوليوس فيلهاوزن قد ألف كتابه المشهور عن الدولة العربية باعتبارها تبدأ مع بداية الاسلام حتى نهاية الدولة الأموية، والحقيقة أن الرابطة العربية لم تتلاش بعد الأمويين ، وفي العصر العباسي برز صراع ثقافي بين ( العروبة ) وبين ما سمي ب ( الشعوبية ) ويمكن العثور على آثار ذلك الصراع في الأدب العربي ، كما في كتابات الجاحظ الذي كان أحد أبرز المدافعين عن ( العروبة ) في عصره . ويقول في كتاب الحيوان “إن عامة من ارتاب في الإسلام، إنما جاءه هذا من طريق الشعوبية، فإن من أبغض شيئًا أبغض أهله، وأن أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة ( يقصد جزيرة العرب )، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام إذا كانت العرب هي التي جاءت به وكانوا السلف والقدوة) والمفارقة أنه بينما نشهد بداية اضمحلال سلطة العرب السياسية في الدولة العباسية نشهد في ذات الوقت تحول اللغة العربية إلى لغة عالمية بما في ذلك الأدب والشعر، ورغم عراقة اللغة الفارسية، نجد أن الفلاسفة والعلماء والأدباء الفرس أمثال  الفارابي وابن سينا وأبي الحسن السرخسي كانوا يكتبون بالعربية . ومع اتساع استخدام اللغة العربية، وارتباط ذلك بالإسلام، فقد انتقلت شعوب بكاملها من لغتها الأصلية الى اللغة العربية، وأوضح مثال على ذلك هو مصر، حيث كانت اللغة القبطية لغة سائدة حتى كان المصريون يسمون بالأقباط، كما انحسرت السريانية في سورية الى حدود ضيقة، وتحولت شعوب شمال أفريقيا أيضًا لاستخدام العربية مع انتشار الاسلام.

وإذا كان الاسلام قد كفل للغة العربية الانتشار، كما كفل لها البقاء في مواجهة تحول لهجاتها الى لغات مستقلة كما حصل للغة السامية حين انقسمت إلى العربية والعبرية والآرامية والأمهرية، فقد كفلت اللغة العربية عملية الاندماج الثقافي للشعوب العربية عبر الأدب والشعر وسائر أصناف المعرفة والفنون. ودخلت في صميم الحياة اليومية والعادات والتقاليد مترافقة مع الاسلام، وجرت تلك العملية التاريخية عبر مئات السنين.

هكذا تشكل وعي العروبة الكامن من الداخل كما تتكون الطبقات الأرضية بفعل العوامل الجيولوجية عبر آلاف السنين، أما أفكار القومية العربية التي انبعثت في بداية القرن العشرين على يد النخب العربية فلم تكن سوى محاولة لرفع ذلك الوعي الكامن نحو السطح واستثماره في مشاريع سياسية، سوى أن تلك النخب فشلت في تلك المشاريع فشلًا ذريعًا أعاد للوراء فكرة الرابطة العربية بدلًا ممن أن يدفعها نحو الأمام.

وإذا قفزنا قليلاً نحو الواقع نجد أن فكرة الرابطة العربية تواجه اليوم الرابطة القطرية التي صنعتها السياسات الدولية واكتسبت وعيها وفضاءها الثقافي عبر واقع سياسي – اقتصادي امتد إلى حوالي مئة عام آخذين بالاعتبار أن بداية تكون ذلك الواقع يترافق مع انهيار الدولة العثمانية ورسم حدود الدول حسب إرادة الدول الأوربية المهيمنة، والمثال الحي هنا هو اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا على تقاسم بلاد الشام والعراق والتي بقيت سرًا حتى فضحتها الثورة البلشفية. لكن علينا أن نتذكر أن الحدود والدول الأخرى نشأت أيضًا وفق إرادة ومصالح الدول الاستعمارية الغربية.

كما تواجه الرابطة العربية عملية العولمة التي تجري بصورة متسارعة على نطاق العالم.

دعونا نضع جانبًا ذلك الصراع التنافسي بين الرابطة العربية والروابط القطرية الحديثة والذي يبدو حتى اليوم لصالح الرابطة القطرية باعتبارها واقعًا سياسيًا – اقتصاديًا راسخًا يزيد من رسوخه ارتباطه الوثيق بالنظام العالمي الراهن ولنحاول حصر التفكير بعلاقة الرابطة العربية بالعولمة.

ما نشاهده اليوم أن العولمة قد كفت عن دمج الكيانات السياسية الأصغر بكيانات أكبر منها، فمشروع الاتحاد الأوربي يترنح باتجاه السقوط بدلًا عن أن يتعمق ويتبلور بصورة نهائية، وقد شاهدنا قبل ذلك تفكك الاتحاد السوفييتي، ويوغوسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا، ونشاهد تفكك اوكرانيا، ونمو النزعات الاستقلالية ضمن بريطانيا واسبانيا.

وفي حين تظهر الولايات المتحدة كدولة عظمى واقفة خارج تلك المفاعيل للعولمة، فإننا نلاحظ نمو نزعة انعزالية داخلها تبعدها عن كندا وعن أميركا اللاتينية، بدلا من السير نحو دمج تلك الدول المتجاورة والتي تمتلك تداخلاً بشريًا وثقافيًا إلى حد ما.

ما تفعله العولمة هو أنها تفتت الكيانات القابلة للتفتيت إلى كيانات أصغر ربما ليسهل ابتلاعها وطحنها في  مطحنتها العالمية على الطريق نحو خلق نظام اقتصادي عالمي لا تعيقه الحدود .

وحين تصل موجتها تلك للدول العربية فهي تجد دولًا هشة البنيان، باقتصاديات ضعيفة، ومؤسسات تفتقر للرسوخ والتماسك، بالتالي فإن فعلها بتلك الدول أكثر فعالية وسرعة وأعمق تأثيرًا.

ولعل أصعب ما يواجه فعل العولمة في سعيها للتفكيك والالحاق هو الثقافة العربية عميقة الجذور، من هنا تنشأ المواجهة بين الرابطة العربية والعولمة.

وشيئًا فشيئًا يتكشف ذلك الصراع عن مواجهة ذات طابع حضاري، فهناك من جهة العولمة التي لا تعني شيئًا سوى دمج سائر المجتمعات البشرية على تنوع ثقافاتها بالحضارة الغربية في نسختها الأكثر انحطاطًا، فليس أمرًا خافيًا أن الحضارة الغربية تعيش مأزقًا تاريخيًا، وأنها قد استنفذت كل الانجازات الفكرية – الانسانية الكبرى، ولم يتبق لها سوى الانجازات التقنية التي تخطو بخطى سريعة لكن الى أين؟

من هنا فان الثقافة العربية والرابطة العربية تعود شيئًا فشيئًا للواجهة كضرورة موضوعية ليس لمواجهة العولمة وكسرها ولكن لإعادة توجيهها نحو عولمة إنسانية تفتح الطريق نحو بقاء الانسانية وصعودها بدلًا من السير في نفق مظلم نحو نهايات غير محمودة.

وبمقياس تاريخ الأمم وليس بمقياس تشكل الدول والامبراطوريات وانهيارها، فان الرابطة العربية أقوى وأعمق من كل الروابط القطرية الحديثة، تلك الروابط التي تتهالك أمام أعيننا أمام هيمنة العولمة دون أن تستطيع إظهار مقاومة ذات قيمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى