يتفرد الإنسان العربي بسمات إنسانية – اجتماعية متميزة نتجت عن تفاعلات تكوينه التاريخي ببعديه: الحضاري والديني. عمق حضاري متنوع جدًا يمتد في طول الأرض العربية وعرضها منذ ستة آلاف سنة. حضارات كثيرة نشأت على هذه الأرض، عميقة الجذور متشعبة العطاء والإنتاج الفكري والقانوني والتشريعي والعمراني واللغوي أيضًا.
تمازجت خلالها كل شعوب هذه البلاد وتفاعلت وتبادلت وأعطت تراثا إنسانيا عظيما لا يزال باديا في كل مكان وكل أرض عربية. حضارات كانت لغاتها متقاربة متفاعلة. وأهلها ينتجون فكرهم وحضارتهم وهم يمارسون حياتهم اليومية الطبيعية دون قهر وفق ما تمليه عليهم عقائدهم او تطلعاتهم او تصوراتهم عن الحياة.
فكانت هذه البلاد العربية أخصب ارض الله علما وثقافة وحضارة طوال ثلاثة آلاف سنة. تعطل هذا الانتاج الحضاري والتفاعل السكاني بالاحتلال الأجنبي المثلث الأطراف: الروماني والبيزنطي والفارسي. إلى أن جاء الإسلام فحرر البلاد كلها ووحدها.
كانت اللغة العربية خلاصة خلاصات اللغات الحضارية التي أنتجتها شعوب تلك البلاد أثناء نموها الحضاري؛ وصفوتها الجامعة المتطورة عنها جميعا والمحتضنة لها.
أضيف إلى هذا العمق الحضاري؛ بعد آخر كان مكملا له ومعبرا عنه وترك أثره العميق أيضا في بنية إنسان هذه الأرض.. البعد الديني حيث جميع رسالات الهداية السماوية نزلت فيها. جميع الأنبياء والرسل من أبنائها. جميع جنود الدعوات الدينية ورسلها وحماتها كانوا من أبناء هذه الأرض أيضا.
أضاف هذا البعد الديني بكل ما فيه من منطلقات إيمانية وقيم أخلاقية وخصوبة إنسانية روحانية؛ أضاف إلى بنية الإنسان العربي التكوينية ذلك الجانب القيمي الذي شكل أحد أعمدة شخصيته.
لم يكن كل ذلك البناء إضافة؛ بل كان أساسا في التكوين وفي التطور النفسي والعقلي والاجتماعي.. والذي سيكون له الدور بالغ الأثر في ظهور وبناء حضارة عربية إسلامية – وليست مسلمة – أنقذت العالم آنذاك ممن كان متغولًا في سطوته المادية ونزعاته اللا إنسانية.
هكذا تجسدت قيم الشهامة والمروءة والغيرية والشجاعة والفروسية وحب الخير والكرم وسعة الأفق وغزارة الثقافة وتفتح الذهن؛ في إنسان هذه الأرض لتكون صفات خاصة بالإنسان العربي.
من تجربتنا الشخصية وبعد تفاعل معرفي طويل مع معظم شعوب الأرض؛ يمكننا القول بكل موضوعية وراحة ضمير ودون أي تعصب عرقي او قومي؛ أن الأنسان العربي هو الأوسع أفقًا والأصدق أخلاقا مما يجعله الأقدر – وبجدارة – على مساعدة الآخرين وعلى التعامل الإنساني معهم، والأكثر عطاء وتضحية وتغليبا للمروءة على مصلحته الخاصة. وربما الأذكى والأوسع ذهنا وتفتحا. وليس بين شعوب الأرض مثل ذلك إلا قليلا من أفراد استثنائيين.
كانت تلك شخصيته التاريخية، فهل الإنسان العربي اليوم كذلك ؟؟سؤال يحتاج إلى أبحاث طويلة متعمقة لتشخيص واقع الإنسان العربي حاضرًا ومدى اقترابه أو ابتعاده عن تلك الشخصية التاريخية. وإن كان قد حدث تعرج أو تموج أو خلل هنا أو هناك؛ فما هي أسبابه؟؟
أسباب كثيرة منها داخلي ذاتي أو موضوعي ومنها خارجي؛ خطفت كثيرا من الأضواء عن تلك الشخصية محاولة طمسها او قتلها او تشويهها..
في هذه الاطلالة السريعة نكتفي بالإشارة إلى جانب واحد كان له الدور السلبي الكبير جدا في مجمل ذلك التشويه ولا يزال. وهو دور اتفاق سايكس بيكو الإقليمي الذي أنشأته وتحميه إلى الآن قوى الاحتلال الأجنبي للأرض العربية.. مصيبة الإنسان العربي أنه يعيش تحت وطأة ظروف حياتية قاهرة، في ظل أنظمة وظيفية وقوانين جائرة بحقه. في أغلب بلاده؛ ليست حقوقه محفوظة. ولا كرامته مصانة. حريته مفقودة. يغالب قهر القوانين ومن يفرضها؛ ليحصل على أبسط حقوقه البديهية.. هذا إن استطاع.. لا يأمن على حياته ولا على مستقبله ومستقبل من يقعون في نطاق مسؤولياته. أهله وابناؤه مثلا.. التعليم باهظ الثمن. الطبابة مرهقة مضنية. البطالة مرتفعة.. العقول غير مرغوبة. التفكير ممنوع. النقد غير مباح…السجن من أمامه والقهر من خلفه. وليس له إلا الخنوع أو الركوع او الاغتراب بلا رجوع.. وكأنه مطلوب أن يكون دولة قائمة بذاتها. كل مسؤوليات الدولة عليه أن يتحملها هو بذاته والويل إن قصر في فهم رسالة الدولة الإقليمية أو حاول التفكير في تحديها. مجرد التفكير ولو همسا او حتى بغير صوت أو صدى؛ سيكون مصيره السجن والقتل بالتعذيب أو الاغتيال..
كل هذا مجسد في سلطة الدولة الإقليمية وقهرها المذل.. يكفيه قهرا أن إمكانيات أمته ليست في خدمته او أنها موظفة لتطوير حياته وتحسين مستوى معيشته بل يأكلها صدأ التجزئة وما تحمله من تحديات هامشية تستهلك الجهد والعقل والموارد. لا بل إنها تستخدم في كثير منها لقهره وقهر تطلعاته التحررية التقدمية التوحيدية..
هذا الإنسان العربي ما إن يفلت من هيمنة الدولة الإقليمية مسافرا إلى دولة أجنبية يسود فيها القانون؛ لا يلبث أن يبدأ بالتميز والعطاء وانجلاء أبعاد شخصيته ألأصيلة رغم ما سوف تحمله من رواسب القهر والاستبداد والحرمان..وفي بلاد العالم المتقدمة حيث تعمل الدولة لخدمة الإنسان المواطن ؛ وحيث إمكانيات الأمة موظفة بعناية لتحسين معيشة أبنائها وتطوير مستوياتهم العلمية والتعليمية والصحية والترفيهية ؛ يعيش الإنسان الغربي مطمئنا إلى غده وتقاعده ومستقبله وشيخوخته. فضلا أنه لم يعد يتحمل مسؤولية أبنائه منذ أن أصبحوا راشدين…ومع ذلك فهو عصي عن التضحية بعيد عن العطاء لا تعني المروءة له شيئا او بالأحرى ليس لها وجود في مفردات عقله وتفكيره وجدول أعمال مفاهيمه الإنسانية والأخلاقية..
كذلك ما يسمى الشهامة والنخوة والكرم؛ فليست في قاموس أحد منهم.. فأي ظلم رباعي الأبعاد واقع على دماغ إنساننا العربي وهو لا يزال يعمل ويفكر ويجاهد ويغالب الحياة بكل تعقيداتها عليه؟؟ وحين نتحدث عن مشكلات إنساننا، نوجه إليه اللوم والتقريع دونما حديث عن آثار حكم الدولة الإقليمية وتسلطها القهري عليه وعلى سلوكه وتكوينه النفسي وتوجهاته الفكرية..
فهل من الموضوعية أن نتغافل عن آثار التسلط والتجزئة والقهر والحرمان وأصوات السياط وقرقعة السجون وعتمة الزنازين في بنية الإنسان واستواء سلوكه وشخصيته؛ مسلطين الضوء والبحث والتركيز على مواطن الضعف والخلل التفصيلية محملين الإنسان ذاته مسؤولية عنها كاملة متهمين إياه بالجهل والتخلف والعصيان على التطور والتغيير والتقدم…؟؟
بعد انتهاء الحرب العالمية (الأوروبية) الثانية عمت فرنسا مؤتمرات وأبحاث ودراسات عن آثار الاحتلال الألماني لفرنسا وهو لم يدم أكثر من أربع سنوات.. آثاره على الإنسان وبالتالي كيف السبيل إلى تنقية تلك الآثار من نفوس الفرنسيين حتى أولئك الذين رضخوا للاحتلال وتعاونوا معه.. وكذا الحال في ألمانيا ذاتها وكانت الدراسات تتمحور حول كيفية تنقية آثار الحكم النازي من سلوك الشعب الألماني ومن تفكيره وثقافته وشخصيته.. وبعد سقوط جدار برلين وعودة ألمانيا موحدة؛ ظهرت دراسات وأبحاث كثيرة تمحورت حول كيفية تنقية الإنسان الألماني من شوائب الانفصال الذي دام أقل من ٤٥ سنة..
أما عندنا فإننا نحمي ظروف القهر والحرمان والانقسام ونغذيها ونذهب لتعقيم الإنسان نفسه وليس تنقيته من الشوائب ومن آثار التسلط والاستبداد التي تحكمه وتتحكم بمصيره منذ عقود طويلة..
قليلة بل نادرة تلك الدراسات العربية التي تبحث في آثار التجزئة والنظام الإقليمي المتسلط في بنية الإنسان العربي وعقله ونفسيته وسلوكه.. وعلى الرغم من كل ذلك؛ فإن تضحيات عظيمة قدمها الإنسان العربي في معارك وجودية بالغة الخطر ولا يزال يقدم المزيد. في مواجهة عدوان خارجي مستمر متكامل مع عدوان داخلي متواطئ.. عدوان شرس لاقتلاعه من أرضه وتدمير وجوده وهو لا يزال صامدا يواجه ويضحي ويتحمل ما لم يتحمله إنسان آخر..
أليس في هذا ما يسترعي الانتباه؟؟
خلاصة القول إن تكوينا تاريخيا بالغ الخصوبة والثراء كان وراء انبلاج تلك الشخصية العربية متعددة الأبعاد الغنية بالقيم المتشبثة بالأرض وبالجذور والهوية والانتماء.. ولعل هذا ما يفسر تلك المقدرة العبقرية الفذة للإنسان العربي على الصمود والصبر والإصرار على التحدي ودفع الأثمان الباهظة طلبا للحرية والوحدة والحياة الحرة الكريمة. ولربما كانت هذه الميزات سببا في مهاجمته من قبل أطراف كثيرة طامعة أو حاقدة. وقبل أن يتهم بعض هؤلاء حديثنا بالشوفينية او التعصب القومي فإننا نؤكد رفضنا لكل هذه الأنماط من التعصب وإصرارنا على التعاون بين الشعوب والأمم كافة كسبيل وحيد لخدمة الإنسانية والإنسان.. في ذات الوقت الذي نفاخر فيه بهويتنا وتاريخنا وخلفيتنا الحضارية الواسعة..فهل ننتقل إلى البحث العلمي- الموضوعي في كشف آثار الاستبداد والتجزئة والاحتلال الأجنبي المديد لبلادنا وآثار السلطة الإقليمية الوظيفية المرتهنة ؛ على بنية الإنسان العربي وسلوكه ومظاهر ضعفه ؛ لإزالتها ومعالجتها بدلا من إتهام ذلك الإنسان بالجهل والتخلف وعدم الأهلية ؟؟ متى يتم ذلك الذي بدونه لن نستطيع تجاوز تلك الآثار لبدء معالجة نتائجها في سلوك الفرد والجماعة.. متى يكف ” الحداثيون ” عن مطالبة الإنسان العربي بالحداثة وهو بعد لم يتحرر وأرضه لما تزل محتلة وموارده مغتصبة وهو لا يزال مقهورا؟؟ وهل يمكن للحداثة أن تتم في مثل هكذا ظروف؟ كيف؟؟ على دعاة الحداثة أن يخبروا عن مشروعهم كيف يتم ليس في المجرد المطلق النظري؛ بل في إطار الواقع العربي الراهن؟؟ وأي مضمون للحداثة يقصدون! فقط ننبههم إلى أن التشخيص السليم هو المدخل الوحيد لأي علاج صحيح…وهل يمكنهم خوض معركة تحرير الأرض والإنسان معنا لنخوض معًا معارك الحداثة وإزالة آثار أنظمة التسلط والتجزئة والعدوان؟؟
التعصب القومي او الديني ضرورة طالما أنه لا يتعدى المصلحة المؤكدة في التعاون، وبدونه سنضيع ونتلاشى في محيطنا الواسع الذي تحكمه قوى موصوفة فكريا ودينيا وقوميا.
كل اللي بقدر علق عليه بهذا المقال ، إنه راءع وتشخيص صاءب ١٠٠ / ١٠٠ % لشعوبنا العربية والإسلامية كما وصفته من التاريخ الماضي إلى الحاضر.
ناءمل ان يتغير حالنا بالقرب وقت وتستيقظ شعوبنا العربية من نومهم العميق والتخلص من الكبت والظلم والاءتهاض.
الله يسلم تمك يا دكتور عبدالناصر.
مقال رائع يطر آشكالية الانسان العربي بين سياسة القهر والإذلال والتلاشي وسياسة التحرر والإبداع والإنطلاق .