
بعد الطبيب سعيد أدرك خلدون شيئاً لم يفكر به من قبل وهو تحول السجان إلى سجين والسجين إلى سجان، أو تحول الجلاد إلى ضحية والضحية إلى جلاد! كان دائماً يتذكر أخا صديقه الذي كان يدعى حسن، عندما خرج في بداية التسعينات من سجن تدمر الذي أمضى فيه ستة عشر عاماً؛ فقط لأنه كان ملتزم دينياً. كان يُحسُّ هو وأحمد عندما يجلسان معه، أن أخا صديقهم يتصارع مع إيمانه بالله. تحدث إحدى أعمق اللحظات عندما يشهد حسن إعدام طفل صغير شنق مع رجلين آخرين. الطفل، الذي لا يزال على قيد الحياة بعد الشنق، يكافح في لحظاته الأخيرة، ويتساءل حسن: كيف يمكن لله أن يسمح بحدوث مثل هذه القسوة؟! تصبح أفكار حسن حول الإيمان والعدالة وصمت الله موضوعاً مركزياً في عمق تفكير خلدون.
لحظة حاسمة في رحلة خلدون الروحية، تحدث عندما يساعد في أعمال الإغاثة في شمال سوريا، ويرى أن جزءاً لا بأس به من المستضعفين الذين هُجروا وكبكبوا في خيام التعذيب لا تنطبق عليهم سمات المستضعف، فبعضهم جبار متكبر على الحلقات الأضعف-رغم ظروفه القاسية، وكأن مقولة الكواكبي التي قرأها مرة وحفرت في ذهنه: أن من صفات المستبَدِ به أن يتطبع بصفات المستبِد، حقيقة واقعة تنطبق على جزء كبير من ضحايا الهولوكوست السوري.
لقد حفظ خلدون خاتمة كتاب طبائع الاستبداد عن ظهر قلب هو وصديق دربه أحمد، بل حتى إنه لا يزال يتذكر رقم الصفحة 122، حين يختم الكواكبي الكتاب بقوله:” أن الله جلت حكمته قد جعل الأمم مسؤولة عن أعمال من تحكِّمُه عليها. وهذا حق. فإذا لم تحسن أمة سياسة نفسها أذلها الله لأمة أخرى تحكمها، كما تفعل الشرائع بإقامة القيم على القاصر أو السفيه، وهذه حكمة. ومتى بلغت أمة رشدها، وعرفت للحرية قدرها، استرجعت عزها، وهذا عدًل. وهكذا لا يظلم ربك أحداً، إنما هو الإنسان يظلم نفسه، كما لا يذل الله قط أمة عن قلة، إنما هو الجهل يسبب كلَّ علة.” كان خلدون ينقلها إلى حسن ويحاول إقناعه بها، لكن حسن يرد عليه بطريقة شكلت له عقدة مزمنة: هل تحاول أن تقنعني أم تحاول أن تقنع نفسك؟!
يعكس صراع حسن الداخلي مع الإيمان الأزمة الوجودية الأوسع التي واجهها العديد من الناجين من سجن تدمر. إن صورة معاناة الطفل ويأس حسن من صمت الله هي واحدة من أقوى الصور لفقدان البراءة والإيمان في مواجهة الشر الذي لا يمكن تصوره. فما ذنب الطفل بجريرة المجتمع الفاسد؟! كان أحمد يُذكِّر حسن بقصة الرضيع الذي نطق بقدرة الله طالباً من أمه ألا تستسلم في قصة أصحاب الأخدود، لكن جرح حسن العميق جعله متقلباً بين التصديق والرفض. كان يحاول دائماً أن يشرح لهم عمق جرحه، كان يتذكر خلدون صدى كلماته وبعض جمله التي مازالت تدور في رأسه دون توقف باحثة عن تفسير فردي قبل التفسير الجماعي الذي سطره الكواكبي، حسن كانت تتساقط منه بعض العبارات التي حفرت في عقل خلدون تاركة ندبات فكرية لا تمحى. لم يذكرها حسن لأحمد وخلدون دفعة واحدة، بل كانت تسقط منه في لحظات العجز، كانت بمثابة حفلات تعذيب متكررة لضمائر خلدون وأحمد، وربما شكلت سَقْطُ الزَّنْدِ في ثورتهم على نفسهم ومحيطهم.
أخذ خلدون دون أن يشعر يردد عبارات حسن، وهو يصف حاله في السجن:
“كان السجن مكاناً بعيداً عن أي فكرة أو حلم… كنت أبحث عن نفسي في هذا الجحيم، وعرفت أنني لست الوحيد الذي أُذل في هذا المكان، ولكننا جميعاً نعيش في ظلال الوجع والمهانة.”
“كنت في السجن أرى الحياة تتناثر من حولي مثل قطع زجاج متكسرة… ورغم أنني كنت في أسوأ لحظاتي، كانت في داخلي شعلة صغيرة للغاية من الأمل لا تشتعل إلا عندما أتذكر أني ما زلت حيّا.”
“أنت لا تعرف كم هو صعب أن تشاهد الحياة تمر أمامك وأنت جالس خلف القضبان، بينما كلُّ شيء يمكن أن يتحقق إذا خرجت إلى العالم الخارجي، لكنه يبقى مجرد حلم.”
“في السجن يصبح الوقت عبئاً، وتختفي الحدود بين الليل والنهار، بين النوم واليقظة. كلُّ شيء يتداخل حتى تختفي نفسك وسط الفوضى.”
“الظلم في السجون ليس فقط في التعذيب الجسدي، بل في قتل أيِّ أمل أو فكرة للحرية. كل يوم هو يوم جديد من التدمير النفسي.”
“في السجن يتعلم الإنسان أن يعيش مع نفسه، ويكتشف أنه لا يمكن أن يهرب من ذاته، حتى لو هرب من جدران السجن.”
“في السجن، لا شيء ينقذك سوى الذاكرة، وتلك اللحظات التي تحتفظ بها في قلبك. كلُّ شيء يتغير، ولكن الذكريات تبقى، حتى لو كان السجن هو كلَّ ما تعرفه الآن.”
“في السجن، يكتشف الإنسان أنه لا يوجد شيء أكثر قسوة من أن تُسلب منك حريتك، لا لأنه مجرد قيد، ولكن لأنه يسلبك حقك في الحياة كما تحب أن تعيشها.”
كما كان حسن يصارع لاستعادة سكونه الداخلي كانت مشاهداته عن مأساة سجنه تعيده إلى الدوامة السابقة من بحثه عن المعنى الحقيقي الذي يكمن خلف مأساته .
مرة ذكر لخلدون كيف أصيب ذاك المهندس الخلوق الذي كان يعامله كابنه أو أخيه الصغير بغنغرينة في قدمه، وعلى الرغم من جهود حسن لرعايته، فإن المهندس كانت حالته في تدهور مستمر رغم توسلات حسن للسجانين لإسعافه، ويصاب حسن بالدمار عندما يموت ذاك المهندس. وتتفاقم الخسارة والانكسار بسبب الظروف الوحشية للسجن بعد المجزرة التي قادها رفعت الأسد ودخول سيل الدماء إلى مهجعهم عبر البوابة وذاك الشعور بوقوف الموت خلف ذلك الباب الحديدي الذي تمنوا لأول مرة ألا يفتح. الشعور العميق بالذنب والعزلة يستمر لدى حسن لأيام ثم لأسابيع بعدها لأشهر وأخيراً لسنوات عندما يختبر الوحدة في السجن رغم تكدس المهجع بالأجساد فاقدة الهوية.
كان حسن يحدثهم عن فقدانه لإنسانيته قطعة خلف قطعة وهو يودع كلَّ يوم بعض الأوجه التي ألفها حين يُقادون إلى حبل المشنقة، كان يتمنى أن يتوقف العذاب بأن يصدمه السجان بقراءة اسمه حتى ينهي معاناته. إنه تأملٌ مؤثر في التكلفة البشرية لفقدان المألوف خاصة إذا كان يحمل جزءاً من خزان المشاعر، والضريبة العاطفية التي فرضها على الناجين وهم يودعون جزءاً من ذكرياتهم مع كلِّ رفيق يفارقهم. قال حسن: كنا أحياناً نواسي ذكرياتنا التي ودعناها واقتطعها النظام من أرواحنا قطعة بعد قطعة، بأن من يساق إلى المشنقة، سيجد السعادة بتوديعه هذا الجحيم.
عندما يخضع حسن وزملاؤه السجناء لعملية “الاختيار”، حيث يتم اختيارهم إما لإرسالهم إلى حبل المشنقة أو حفلات التعذيب التي تنتهي بالموت البطيء. هذه لحظة من الخوف الشديد وعدم اليقين، تشبه لعبة الروليت الروسي، إنها لعبة مجنونة لتمزيق كيانك من الداخل قبل الخارج.
تعكس عملية الاختيار، التي هي جزء روتيني من الحياة في تدمرَ وكلِّ مسالخ آل الأسد، الطبيعة التعسفية والمرعبة للوحشية الفاشية المتأصلة في طبيعة النظام الذي استدعى خبراء الأرض ليمدوه بالابتكارات لتحطيم من يقف على النقيض منه. تعرض السجناء، بما في ذلك حسن، لأهواء الضباط وهلوسات السجانين وثاراتهم العبثية التي تستند إلى خرافة صناعة العدو لا لشيء إلا لتبرير جريمتهم تجاه أنفسهم ومحيطهم. كانت الحياة والموت غالباً ما يتم تحديدهما بالصدفة. تسلط هذه اللحظة الضوء على الرعب المستمر وعدم الاستقرار الذي واجهه السجناء، حيث لم يعرفوا أبداً متى قد تُنتزع حياتهم ومن يمدهم بالحياة!
حسن كان حساساً في نقل القسوة اليومية والمعاملة اللاإنسانية التي تعرض لها السجناء. كان يأسر أحمد وخلدون حين يشرح لهم ما يعجز أعظم الأدباء والشعراء أن يتخيلوه. ومن أكثر الأمثلة المروعة –التي لا تمحى من ذهن خلدون -عندما كان يحدثهم عن وحشية وسادية الحراس، بما في ذلك الضرب الوحشي والإهانة المستمرة التي ربما تفوق في تحقيقها لاحقاً الأسد الابن ليسجل تفوقه الأعظم على والده. أعمال العنف العشوائية التي واجهها السجناء، مثل الضرب لأبسط الهفوات، ولاحقاً في فترة الثورة التي توفي حسن قبل أن يشهدها: انتهاكات الأعراض وابتزاز ركوع النفس البشرية أمام الوالدين والأخوة والأحبة، شيء فاق الخيال، وتفوق على وصف حسن الأكثر بلاغة من كل ما كتب في وصف سجن تدمر وأقبية الاستخبارات.
الأفعال القاسية ليست جسدية فحسب، بل نفسية أيضاً. إن الإساءة المستمرة تجرد السجناء من كرامتهم وإنسانيتهم، مما يجعلهم يشعرون بعدم القيمة والعجز والأصعب من الاثنين العدمية والفراغ في المستقبل المُتخيل. هذا الجزء بالذات من ذكريات خلدون عن شهادة حسن تشير إلى العبء العاطفي والنفسي لما صنعه جزءٌ من المجتمع بجزئِه الآخر، الذي استمر لفترة طويلة بعد المعاناة الجسدية.
عندما حرر الثوار المساجين أخيراً، دخل الناجون وأحباؤهم في حالة من الصدمة وعدم التصديق. في البداية، لم يكونوا متأكدين مما إذا كان تحريرهم حقيقياً؛ لأنهم ضعفاء للغاية ومصدومون لدرجة أنهم لم يتمكنوا من فهم معنى الحرية. يروي أحدهم المشاعر المعقدة للتحرير – الراحة الممزوجة بإحساس بالفراغ: “التحرير هو لحظة أمل ولحظة إدراك لكل من ذاق الجحيم الأسدي. لقد انتهى الرعب الجسدي للسجون والزبانية الساديين، لكن الضرر النفسي لا يزال وسيظل قائماً. “هذه المفارقة في التحرير هي موضوع متكرر في أدب السجون مع اختلاف الثقافات والحالات، مما يسلط الضوء على خيبة الأمل التي غالباً ما شعر بها الناجون بعد تحريرهم. إن الشعور بالفراغ الذي يشعر به الناجي عند التحرير يؤكد على الخسارة العميقة للبراءة والإنسانية التي حدثت أثناء فترة اعتقاله.
الظلام الشامل الذي استولى على روح حسن فترة اعتقاله. تلك الليلة الأكثر ظلمة، حرفياً ومجازياً، هي عندما اختبر موت صديقه المهندس الذي شعر بحنانه وتكمَّشَ به لآخر لحظة والشعور باليأس الذي يصاحب ذلك. في هذه اللحظة، يبدو العالم خالياً من المعنى، وتحطم إيمان حسن بالإنسانية وتزعزع إلى حين إيمانه بعدالة الخالق.
الظلام العاطفي والروحي الذي تحمَّله حسن كان أشد وطأة من ظلمة وصقيع الزنزانة في ليالي تدمر الشتوية. إنه يرمز إلى الصدمة والمعاناة والخسارة التي عانى منها أشخاص مثل حسن أثناء اعتقال أرواحهم الذي استمر بعد خروجهم إلى لحظة موتهم. يمتد موضوع الظلام هذا في جميع هواجس خلدون التي لم تطفئها شهادات من لهث وراءهم لإدراك الحقيقة الصرفة؛ عن لماذا وكيف وتحت أي مبرر صنع هؤلاء السفاحون مأساتهم ومأساتنا؟! مما يجعل “الظلام ” استعارة مناسبة لليأس المستمر واليأس الذي يحدد تجربة الناجي من الاعتقال.
إن فقدان حسن للإيمان في مرحلة معينة من حياته داخل زنازين تدمر ليس مجرد أزمة شخصية، بل هو انعكاس أوسع للدمار الروحي الذي تسبب فيه نظام الأسد. يسلط صراعه الضوء على التأثير العميق للفظائع على فهم الناجين للأخلاق والعدالة وطبيعة الوجود. إن فقدان الإيمان هذا مفجع؛ لأنه يمثل تدمير جوهر ما أبقاه مستمراً قبل السجن وبعده.
الجروح النفسية والروحية العميقة التي خلفتها الهولوكوست السورية، تتحدانا للتفكير في قدرة الروح الإنسانية على الصمود في مواجهة معاناة لا يمكن تصورها.