
مع عودة الحديث عن إعادة هيكلة الدولة السورية في ظل الإعلان الدستوري الجديد، برزت قضية العدالة الانتقالية بوصفها من أعقد الاستحقاقات التي لا يمكن القفز فوقها أو تأجيلها. فالمطالب الشعبية المتزايدة، خصوصاً من أهالي المعتقلين والمخفيين قسراً وضحايا المجازر الجديدة، تعكس حالة من الترقب والقلق إزاء شكل العدالة الممكنة في المرحلة القادمة، وجدّية السلطة الجديدة في مقاربة هذا الملف الحساس.
خلال السنوات الماضية، توالت الشهادات والاعترافات، سواء من شخصيات أمنية أو قضائية كانت جزءاً من النظام السابق. وقد أعادت هذه الوقائع تسليط الضوء على الحاجة إلى عدالة لا تقتصر على العقاب والمحاسبة، بل تمتد لتشمل جبر الضرر، والإصلاح المؤسسي، والمصالحة المجتمعية، بما يحقق توازناً حقيقياً بين استحقاقات السلم الأهلي ومتطلبات المساءلة.
وأدلى قائد مليشيا “صقور الصحراء”، محمد جابر، باعترافات مثيرة مؤخراً، حول دوره المباشر في دعم عمليات استهداف الأمن العام في الساحل السوري، من فلول نظام بشار الأسد، مبرراً أن الهدف وقف الانتهاكات ضد أبناء الطائفة العلوية في الساحل، في إطار عدالة ذاتية حسب زعمه، وذلك عبر قناة المشهد. وفي سياق متصل آخر، أثارت مصافحة وزير العدل مظهر الويس للقاضي عمار بلال جدلاً واسعاً، كونه رئيس النيابة العامة في محكمة الإرهاب سابقاً، وهو من القضاة المتهمين بارتكاب انتهاكات خلال فترة حكم نظام بشار الأسد.
وهذه الحوادث دفعت باتجاه المسارعة من أجل تحقيق العدالة الانتقالية، ومن أولى الخطوات في تحقيق العدالة الانتقالية، إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية، وفق ما أوضحه المحامي غزوان قرنفل لـ”العربي الجديد”، تتبع لمجلس الوزراء أو لوزارة العدل، بجناحين؛ الأول من رجال القانون والشخصيات ذات الوزن في المجتمع، مع مراعاة التنوع، إلى جانب شخصيات من المجتمع المدني وروابط الضحايا.
ولفت قرنفل إلى ضرورة توفر ميزانية مستقلة لهذه الهيئة، وأن يكون لها مسارات عمل محددة، توازن ما بين السلم الأهلي وموجبات العدالة، وتركز على الجرائم الكبرى التي ستكون محور المساءلة للضالعين في الجرائم. ودعا قرنفل إلى إنشاء محكمة تختص بالنظر في القضايا المطروحة، دون إشغال القضاء العادي في عملها، كما طالب بخريطة طريق لإصلاح المؤسسات، خاصة العسكرية والأمنية، وإصلاح القوانين الناظمة لعملها، مع التأكد من التدقيق العادل والشفاف في سجلات الموظفين فيها والمنتسبين إليها، لضمان عدم وجود مرتكبي جرائم أو انتهاكات كبرى ضمن كوادرها.
وشدد قرنفل على ضرورة تشكيل لجان مجتمعية وحقوقية، مرافقة لعمل المحكمة، تُدعى لجان الحقيقة والمصالحة، تُعنى بسماع اعترافات مرتكبي الجرائم والانتهاكات، وتوثيق تعبيرهم عن الندم والاعتذار من المجتمع ككل، إضافة لإمكانية إخضاعهم لبرامج إعادة تأهيل نفسي واجتماعي لإعادة إدماجهم في المجتمع.
ومن الخطوات المهمة لتحقيق العدالة إنشاء لجنة لدراسة التعويضات كماً ونوعاً، التي يتعين تقديمها للمتضررين من ذوي الضحايا أو الناجين، تُسهم في جبر الضرر عنهم، وفق ما أوضح قرنفل. وركّز على أهمية الخبرة العميقة والحيادية في تشكيل الهيئة القضائية، وقال إنه يمكن تحقيق الفائدة من خلاصات التجارب الدولية المماثلة، كون الهدف إنصاف الضحايا وتحقيق العدالة وليس الانتقام.
واعتبر قرنفل أن تكريس العدالة أولى وأهم في حفظ السلم الأهلي، دون التفريط بحقوق الناجين أو ذوي الضحايا، بالإضافة إلى تكريس قيمة وثقافة المساءلة بدلاً عن ثقافة الإفلات من العقاب في المجتمع. وتلعب الهيئات والمنظمات دوراً حيوياً في هذه العملية، من خلال الخبرات المرجعية للهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، والدعم الحقوقي والمالي لها، شرط توفر الحيادية والشفافية، لتكون عملية شمولية بعيدة عن الانتقائية والتجييش، وفق قرنفل.
وفي ظل الانقسامات التي تعانيها سورية، قال قرنفل إنه “يجب أن يدرك المتضررون أنه لا طاقة للمجتمع بمحاسبة كل من ارتكب جرماً بسيطاً أو انتهاكاً”، مضيفاً: “المساءلة القضائية لن تطاول الجميع، إنما القادة والرموز المنغمسين بالدم وارتكاب كبريات الجرائم كالكيماوي والقتل تحت التعذيب والاغتصاب والقصف بالبراميل”.
وليس المتهم هدفاً بذاته، وفق ما أشار قرنفل، إنما بسبب ما ارتكبه من جرائم خطرة، وأن ما ينتظره محاكمات عادلة. وأضاف: “لجان السلم الأهلي يمكن أن تضطلع بدور في التخفيف من تلك الانقسامات، وكذلك أن المساءلة تشمل المرتكبين من كل الأطراف وليس من طرف واحد”.
التزامات سياسية
وألزم الإعلان الدستوري الحكومة السورية بتهيئة الأرضية لتحقيق العدالة الانتقالية، من خلال المادتين 48 و49، لكنه افتقر إلى وضوح التفصيل التنفيذي والضمانات المؤسسية، كما أشار المحامي سامر الضيعي، المدير التنفيذي لرابطة المحامين السوريين الأحرار، في حديثه مع “العربي الجديد”، إذ لم يحدد الإعلان اختصاصات الهيئة وصلاحياتها، ولا خطوات إلغاء القوانين الاستثنائية وإبطال الأحكام الجائرة. كما لم يُشر إلى حقوق الضحايا في جبر الضرر، وغاب عنه النص الصريح المتعلق بإصلاح المؤسسات الأمنية والقضائية، التي تشكل أحد الأركان الأساسية للعدالة الانتقالية.
و”قد يحمل تجريم تمجيد نظام الأسد خطر التوظيف السياسي، رغم مشروعيته الأخلاقية والسياسية”، كما أوضح الضيعي، ما لم يُقيّد بضوابط تحمي حرية التعبير، وتفصل بين الإنكار المتعمد والتحريض على العنف، والتعبير عن الرأي في إطار البحث العلمي والنقد المشروع. وشدد على أن المادتين تشكلان إعلان نوايا قوياً، لكنها بحاجة إلى تشريعات تنفيذية تكاملهما، تفصّل الإجراءات، وتبني المؤسسات، وتحمي الحقوق.
ويتطلب تحقيق العدالة مسارات متكاملة إلى جانب المحاسبة، كما أكد ضيعي، تشمل مسار جبر الضرر، وقد يلزم هذا المسار إنشاء صندوق وطني لتعويض الضحايا، تُخصص له نسبة من الموارد العامة والمساعدات الدولية وأصول النظام السابق المجمدة. كما يشمل الاعتراف الرمزي، لقوته الترميمية العالية، من خلال إصدار الدولة اعتذاراً رسمياً للضحايا، واعتماد يوم وطني للذكرى، وبناء نصب تذكارية وشواهد للأحداث الكبرى، وإدماج سردية الضحايا في المناهج التعليمية والمناسبات الوطنية.
ومن الخطوات المهمة المطلوبة، وفقاً لضيعي، التأهيل النفسي والاجتماعي، نظراً لأن غالبية الناجين يعانون اضطرابات نفسية مزمنة. ومن جانب آخر، يُعد الإصلاح المؤسساتي شكلًا من أشكال جبر الضرر الجماعي، من خلال تطهير الأجهزة الأمنية من الجلادين، وبناء جهاز شرطة احترافي، وإصلاح القضاء، بما يضمن عدم تكرار الجرائم التي مورست في السابق.
وتتطلب المرحلة الراهنة خطوات عملية عاجلة من الحكومة السورية، كما أشار ضيعي، في مقدمتها تحويل النصوص إلى سياسات عملية. وتشمل الخطوات إصدار قانون العدالة الانتقالية يُعرّف بالجرائم والانتهاكات، وإنشاء هيئة مستقلة مع تحديد صلاحياتها وآليات عملها، وحماية الأرشيف الوطني، وتنظيم شهادات الضحايا.
ولفت الضيعي إلى أن تشكيل “الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية” ينبغي أن يضم ممثلين عن الضحايا، ومنظمات حقوقية، وقضاة مستقلين، وأكاديميين، وأن تتمتع بصلاحيات مستقلة في التحقيق، ورفع التوصيات، واقتراح السياسات، وألا تخضع لمجلس الوزراء، بل لرقابة مجلس تشريعي انتقالي.
ومن الخطوات التي دعا لها الضيعي، إطلاق برنامج توثيق وطني شامل، تتشارك المنظمات السورية والدولية في إدارته، يتبنى ميثاق شرف لحماية الشهود والضحايا، يؤسس لإنشاء أرشيف انتهاكات شفاف وموحد. إلى جانب دعوته إصلاح القضاء وتحصينه، وتشريع قانون جديد للسلطة القضائية يُعيد هيكلة المجلس الأعلى للقضاء، ويؤسس قضاءً دستورياً مستقلًا يمنع أي تبعية للسلطة التنفيذية.
وتستدعي الخطوات السابقة، وفق الضيعي، البدء بمسار المصالحة المجتمعية، من خلال تنظيم جلسات حوار مجتمعي على مستوى القرى والمدن، بإشراف خبراء مختصين، بهدف تقارب وجهات النظر، وكسر حلقات الثأر، وبناء ذاكرة جماعية متنوعة الأصوات.
نماذج دولية ملهمة
وتطرق ضيعي إلى نماذج قد تكون ملهمة في الحالة السورية، منها نموذج لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا، واعتمد الاستماع العلني لشهادات الضحايا والجناة، وركز على الاعتراف بالحقيقة لا العقاب، مبيناً أنّه مناسب لسورية، خصيصاً في المناطق ذات الانقسامات الطائفية والعرقية مثل حمص والساحل والشمال الشرقي.
أما النموذج الثاني، فهو هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب، التي تبنت مقاربة جبر الضرر، كما بيّن ضيعي، دون التركيز على المحاكمات، وقدمت توصيات لإصلاحات أمنية ودستورية وبناء سردية وطنية موحدة. ولفت إلى أن هذه التجربة ملهمة لمناطق النزوح والتهميش في سورية مثل ريف دمشق والقصير.
ومن النماذج الملهمة أيضاً التي تحدث عنها الضيعي، نموذج المحاسبة القضائية في الأرجنتين، الذي قدم خطوات فعّالة لمحاسبة القادة العسكريين. وأشار الضيعي إلى أن السوريين يمكن أن يستلهموا من هذا النموذج في ملفات محكمة الإرهاب، والمجازر الكبرى، ومحاسبة قادة الأجهزة الأمنية. كما تحدث عن نموذج العدالة التصالحية مع الجماعات المسلحة في كولومبيا، حيث أُنشئت محكمة خاصة لمعالجة الجرائم الجسيمة من خلال التفاوض مع الفصائل المسلحة. وهذه التجربة قد تكون مفيدة لسورية في التعامل مع الفصائل المسلحة في الشمال والجنوب، مع ضمان المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.
وبالعودة إلى المادتين 48 و49 في الإعلان الدستوري، أكد الضيعي أنها بداية إيجابية، مشدداً على أن الوصول إلى عدالة حقيقية يتطلب بناء منظومة قانونية ومؤسساتية شاملة، ترتكز على الضحايا وتستند إلى سردية وطنية تشاركية، لا مجرد استنساخ لتجارب خارجية.
وأوضح الضيعي أن المادة 49 تستثني جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة من مبدأ عدم رجعية القوانين، وهو استثناء مشروع قانونياً، مدعوم بالمادة 15/2 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وبالقانون الدولي العرفي منذ محاكمات نورمبرغ. وأكد أن نجاح تطبيق هذا الاستثناء يتطلب سنّ قانون وطني واضح لتعريف الجرائم الدولية، وضمان محاكمات عادلة، ومنع استغلال النصوص لأغراض سياسية، وإشراف هيئة مستقلة بالتعاون مع منظمات حقوقية دولية.
ويبقى تحقيق العدالة الانتقالية مرهوناً بإرادة سياسية قوية من الحكومة السورية، وإجراءات تنفيذية واضحة، تتضمن إقرار قوانين تنظم هذه العملية، بشكل يضمن الشفافية ويحقق مصلحة السوريين، بعيداً عن التوظيف السياسي لها.
المصدر: العربي الجديد