سيف قيصر.. الخصم والحكم

بشار الحاج علي

منذ اللحظة التي أُقرَّ فيها قانون “قيصر”، لم يعد هذا القانون مجرد إطار تشريعي عابر، بل أصبح رمزًا واضحًا للهيمنة الأميركية على سوريا والمنطقة بأسرها. الهدف الرسمي الذي أعلنت عنه الإدارة الأميركية كان حماية حقوق الإنسان وفرض تغييرات سياسية داخل الدولة السورية، ولكن الواقع على الأرض كشف أن القانون تحوّل إلى أداة ضغط دائمة، تُستخدم ليس فقط لمعاقبة النظام السابق ولا حتى الحكومة السورية، بل لضمان أن أي دولة أو جهة ترغب في إقامة علاقات اقتصادية أو سياسية مستقلة مع سوريا تظل تحت السيطرة الأميركية.
أصبح القانون بذلك سلاحًا متعدد الاستخدامات، يمارس الضغوط السياسية والاقتصادية ويهيمن على كل خطوة استراتيجية لأي طرف يتعامل مع دمشق.
هذا التناقض يضع الحكومة السورية في موقف هش، يجعل أي تقدم ملموس عرضة للتقويم الانتقائي، ويؤكد أن العقوبات ليست مجرد أداة قانونية بل وسيلة مستمرة للضغط السياسي.
الأمر الأكثر تعقيدًا هو الشروط الجوهرية التي تربط أي تخفيف للعقوبات بتنفيذ دمشق لما يُسمى “الالتزامات المطلوبة”!
هذه الشروط تشمل مجالات متعددة، سياسية وأمنية واقتصادية، من بينها الإفراج عن سجناء محددين، والسماح بوجود مراقبة دولية على الأنشطة العسكرية والأمنية، وتقديم تسهيلات لإعادة الهيكلة الاقتصادية بما يخدم مصالح واشنطن في المنطقة. على الورق تبدو الشروط محددة وواضحة، لكنها في التطبيق العملي مفتوحة للتفسير الأميركي، حيث يمكن لأي خطوة تُنفذها دمشق أن تُقرأ على أنها غير كافية أو جزئية، بحسب مصالح الإدارة الأميركية المتغيرة أو التوازنات الداخلية في الكونغرس.
هذا التناقض يضع الحكومة السورية في موقف هش، يجعل أي تقدم ملموس عرضة للتقويم الانتقائي، ويؤكد أن العقوبات ليست مجرد أداة قانونية بل وسيلة مستمرة للضغط السياسي.
الجانب الأكثر صعوبة وعبثية في هذا القانون يكمن في آلية الرقابة نفسها. من يفرض العقوبات هو نفسه الذي يقرر مدى الالتزام بها!
فالكونغرس، ووزارة الخارجية، ووزارة الخزانة، ووزارة الدفاع، ووكالات الاستخبارات، وأجهزة رقابية متعددة، كلها تشارك في تقييم مدى التزام الحكومة السورية بالشروط المطلوبة. هذا التعدد ليس مجرد تعقيد إداري، بل يعكس استراتيجية متعمدة لتحويل القانون من أداة تقويم إلى أداة ضغط مستمرة. الخصم هنا يصبح الحكم، مما يلغي أي إمكانية لنزاهة التقييم، ويجعل أي خطوة إيجابية من دمشق خاضعة لإعادة تفسير مستمرة بحسب المصلحة الأميركية. وهذا يخلق ما يمكن تسميته بـ “عبثية العقوبات”: لا يوجد معيار مستقل لتقييم الجهد المبذول، ولا جهة خارجية محايدة يمكنها أن تضمن مصداقية عملية التحقق، وبالتالي يظل القانون أداة للهيمنة أكثر من كونه أداة للتفاوض أو للعدالة السياسية.
حتى إذا نفّذت دمشق جميع الشروط المطلوبة بالكامل، فإن ذلك لا يعني تلقائيًا حصولها على أي تخفيف ملموس للعقوبات. فالإدارة الأميركية تحتفظ بحق تفسير الخطوات المنفذة بأنها جزئية أو محدودة، وهو ما يسمح بفتح باب التفاوض وفق مصالحها الاستراتيجية وحدها!
هذه المرونة الأميركية تجعل أي وفاء بالشروط على الأرض عملية محفوفة بالمخاطر، حيث يمكن لأي تقدم اقتصادي أو سياسي أن يُقرأ على أنه غير كافٍ، ما يترك دمشق في حالة من عدم اليقين المستمر. وبذات الوقت يصبح القانون أداة ضغط دائمة، تحافظ على الهيمنة الأميركية، وتحول أي تحرك اقتصادي مستقل إلى لعبة سياسية خطرة تتطلب دائمًا التحقق من رضا واشنطن.
القرار النهائي حول مدى التزام الحكومة السورية بالشروط المطلوبة ليس بيد جهة واحدة، بل يتوزع على شبكة معقدة من المؤسسات الأميركية، تشمل الكونغرس الذي يمكنه ممارسة ضغوط سياسية داخلية لتحديد مدى التخفيف وفق الاعتبارات الحزبية والانتخابية، ووزارة الخارجية التي تركز على الأبعاد الدبلوماسية والتحالفات الإقليمية، ووزارة الخزانة التي تتحكم بالعقوبات الاقتصادية والمالية المباشرة وغير المباشرة، ووزارة الدفاع التي تقيّم أي نشاط عسكري محتمل وتأثيره على مصالح الولايات المتحدة، ووكالات الاستخبارات التي تقدم تقييمات دقيقة وشاملة، وأجهزة رقابية متعددة تقوم بتحليل المعلومات بشكل متقاطع.
يمكن القول إن قانون قيصر لم يعد مجرد قانون، بل أصبح نموذجًا لما يمكن أن يتحول إليه أي إطار تشريعي عندما يتحكم الخصم بالرقابة والتقييم بنفسه.
هذا التعدد، بدل أن يكون وسيلة للشفافية، يحول القانون إلى شبكة معقدة للتحكم بالعقوبات، ويجعل أي خطوة إيجابية من دمشق مرهونة بتوافق داخلي أميركي أكثر من كونها ردّ فعل على الالتزام بالشروط.
تجربة قانون قيصر — وهو يمثل أهم العقوبات الأميركية — تُظهر أن أي نظام رقابي داخلي من قبل صانع العقوبات يعكس تضاربًا جوهريًا. الخصم لا يمكن أن يكون الحكم، وإلا فقدت العملية أي مصداقية. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى آلية مراقبة مستقلة، دولية أو متعددة الأطراف، تكون قادرة على تقييم الالتزامات السورية بشكل موضوعي وشفاف، بعيدًا عن المصالح الأميركية المباشرة. بدون هذه الآلية ستظل العقوبات أداة ضغط مستمرة، تهيمن على سوريا وكل من يحاول بناء علاقات مستقلة، وتجعل أي خطوة إيجابية على الأرض خاضعة لتفسير سياسي انتقائي.
يمكن القول إن النظام الحالي للعقوبات الأميركية يحول أي تحرك دبلوماسي أو اقتصادي من قبل دمشق إلى عملية محفوفة بالمخاطر، حيث يُقرأ كل تقدم صغير أو أي خطوة إصلاحية على أنها ناقصة أو مشروطة بمصالح واشنطن الداخلية.
هذا الواقع يكشف جوهر عبثية القانون، ويؤكد أن العقوبات الأميركية ليست مجرد أداة لحماية الحقوق أو لتحقيق التغيير السياسي، بل هي سلاح سياسي متكامل يستخدم للسيطرة على المنطقة، وتحويل أي دولة أو جهة تسعى للتعاون مع سوريا إلى رهينة للمصالح الأميركية.
السؤال المحوري الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن لأي دولة الالتزام بشروط أميركية متغيرة باستمرار، من دون وجود جهة مستقلة تحكم على الالتزام بموضوعية؟
الإجابة تكشف حقيقة النظام الحالي للعقوبات، وتؤكد ضرورة تطوير آليات رقابة حقيقية تحفظ الحقوق الاقتصادية والسياسية لأي دولة، بعيدًا عن الابتزاز السياسي المستمر.
إن استمرار الوضع الحالي يعني أن العقوبات ستظل أداة ضغط دائم، وأن أي تقدم سياسي أو اقتصادي سيكون دائمًا رهينة للتقديرات الأميركية، ما يحوّل كل محاولة للتعاون الدولي إلى مسرح سياسي يتجدد فيه الابتزاز والهيمنة بلا توقف.
في النهاية، يمكن القول إن قانون قيصر لم يعد مجرد قانون، بل أصبح نموذجًا لما يمكن أن يتحول إليه أي إطار تشريعي عندما يتحكم الخصم بالرقابة والتقييم بنفسه.
هذه الدروس السياسية يجب أن تكون محور أي نقاش مستقبلي حول العقوبات الدولية، فهي توضح الحاجة الملحة لإنشاء آليات مراقبة مستقلة تضمن أن أي عقوبة أو إجراء دولي يتم تقييمه بعدالة وموضوعية، بعيدًا عن مصالح صانع العقوبات، بما يحفظ الحد الأدنى من العدالة الدولية ويمنع استخدام القانون كسلاح دائم ضد الدول والشعوب.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى