
تبدو تونس اليوم كأنها تُدفَع، خطوة بعد أخرى، نحو حافّةٍ لم يعد بعدها سوى سقوط يصعب توقّعه أو التحكّم في تداعياته، فالأحكام القضائية القاسية التي طاولت نحو 40 من المعارضين، بينهم سياسيون ومحامون وصحافيون وناشطون، لم تكن مجرّد فصل قضائي جديد في مشهد مرتبك، بل لحظة كاشفة لنظام بلغ أقصى درجات التيوقراطية الفردية، حيث يتركّز القرار في يد رجل واحد، وتنكمش السياسة إلى مجرد امتداد للغضب الرئاسي، ويتحوّل القضاء إلى ذراع تنظيمي لإدارة الخصومة بدل أن يكون حارساً لها. بهذه العبارات، يبدو المشهد التونسي قد وصل إلى أفق مسدود، حتى بات السؤال عن تغيير النظام مسألة وقتٍ لا أكثر، في ظل اتساع الأزمة وتعقّدها مع تزامن الانهيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تغذّيها وتسرع قوة دفعها.
الخطورة في الأحكام التي أعادت الحديث عن تونس في الإعلام الدولي ليست فقط في قسوتها، ولا في الغياب الفاضح لضمانات المحاكمة العادلة التي وثّقتها منظّمات دولية موثوقة، بل في ما تكشفه عن مركزية القضاء في هندسة السلطة الجديدة. صار واضحاً اليوم أن المحاكم تُستخدم أدوات سياسية، وأن القضاء يجري دفعه إلى موقع لا ينبغي له أن يكون فيه ليتحول إلى طرفٍ في الصراع، لا ضامناً له. والأدهى أنّ الاتهامات الفضفاضة مثل “التآمر على أمن الدولة” و”الإساءة إلى الرئيس” باتت سقفاً يجري توسيعه كلما ازداد ضيق السلطة بتصاعد الغضب في الشارع، في بلدٍ كان يُضرب به المثل في الأمل الديمقراطي قبل سنوات قليلة. لذلك، تبدو هذه العودة إلى منطق المحاكمات الصورية وأحكام عشرات من السنين علامة على مسار لم يعد يخفي طبيعته يجسده استئثار كامل بالسلطة، وتسييس فج للقضاء، وغياب شبه تام للوسيط السياسي.
يبدو المشهد التونسي قد وصل إلى أفق مسدود، حتى بات السؤال عن تغيير النظام مسألة وقتٍ لا أكثر
ولأن السياسة لا تُختزل في الأشخاص، تكشف العودة إلى لحظة وصول قيس سعيد إلى السلطة عام 2019 طبيعة الانزلاق، عندما جاء إلى الحكم متكئاً على شرعية “التصويت العقابي” ضد النخب التقليدية، ومتسلّحاً بخطاب شعبوي جارف ووعود واسعة وفضفاضة بمحاربة الفساد. وفي المقابل، لم يكن يملك برنامجاً اقتصادياً مفصّلاً أو رؤية مؤسّسية لإدارة الدولة، كان رأسماله السياسي شخصانياً، خطاباً شعبوياً يتغذّى على السخط الشعبي، وعلى فكرة “المخلص” القادم من خارج المنظومة السياسية التقليدية. غير أن اللحظة التي بدت تأسيسية في البداية سرعان ما تحوّلت إلى لحظة قطيعة مع أبسط قواعد الحكم الديمقراطي. فقرارات 25 يوليو (2021) التي جرى تسويقها تصحيحاً للمسار أسّست بنية استبدادية كاملة تستند إلى تركّز السلطة من دون ضوابط، وإعادة صياغة المجال السياسي من دون أي وسائط أو مؤسّسات ضبطية تجعل السلطة قابلة للمراقبة والمساءلة.
هكذا نشأ شكل من الحكم يقوم على سلطة فردية تنفيذية غير مقيّدة، بلا برلمان فاعل، بلا محكمة دستورية، بلا أحزاب قادرة على التفاوض او المعارضة، وبقضاء تزداد تبعيّته يوماً بعد يوم، وبخطاب رسمي يوزّع التخوين على المعارضين، قبل أن تنطق المحاكم بأحكامها القاسية والجاهزة. لا يُنتج منطق الحكم هذا إلا التوتر، لأن العلاقة تصبح ثنائية مباشرة بين رئيس متسلط وشارع غاضب، من دون أي قنوات تفاوض أو فضاءات سياسية قادرة على امتصاص الصدمات. في مثل هذه الأنظمة، يصبح كل خلافٍ “مؤامرة”، وكل رأي “تهديداً”، وكل فعل احتجاجي “محاولة لقلب النظام”. بهذا المعنى، لم تعد الأزمة التونسية أزمة قرارات فردية سيئة، بل أزمة نظام يستهلك شرعيته بسرعةٍ أكبر مما يستطيع تجديدها.
بموازاة ذلك، تدهورت المؤشّرات الاقتصادية بشكل غير مسبوق، فالوعود التي أُطلقت قبل خمس سنوات أُجهضت سريعاً أمام عجز النظام عن إنتاج سياسات اقتصادية قابلة للتنفيذ، وارتفع مستوى التضخّم، وقارب الدين العام مستوياتٍ خطرة، مع تراجع في الاستثمارات، وانهيار القدرة الشرائية، وبطالة خانقة بين الشباب، وتعثر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، فالنظام الذي وعد بالإنقاذ بات عاجزاً عن وقف نزيف الاقتصاد، ما يجعل الاحتقان الاجتماعي اليوم ليس مجرّد ردة فعل عفوية، بل تعبيراً عن انسداد بنيوي في قدرة النظام على تحويل الخطاب إلى سياسات وإنجازات. وفي لحظة كهذه، يصبح الشارع المؤسّسة الوحيدة التي لا يستطيع حلّها أو تطويعها فيلجأ إلى قمعها.
حلقة مفرغة لا يخرج منها سوى نظام ينهار من الداخل أو انتفاضة جديدة لا يمكن التنبؤ بنتائجها
لكن الإنصاف يقتضي القول إن الأزمة لم تنشأ من فراغ، وأن تحميل رئيس، رفع عنه القلم، وحده كل المسؤولية سيكون قراءة مبتسرة، فالعقد الذي تلا الثورة فشل في تقديم نموذج حوكمة مستقر. أحزاب تبادلت الاتهامات بدل صياغة الإصلاحات، وبرلمان تحوّل إلى ساحة للصراعات السياسية، والمجتمع المدني تعرّض للاستنزاف مع توالي الأزمات. تراكمات عقد كامل مهّدت الطريق لصعود خطاب شعبوي وجد في السخط الشعبي بيئة خصبة، وفي انهيار الثقة في طبقة سياسية مقسّمة، وفي مؤسّسات منتخبة معطلة، فرصة لإعادة هندسة نظام استبدادي بائس في حلة جديدة، وبواجهة ديمقراطية شكلية.
وبدل أن يؤدّي ما حدث بعد 2021 إلى إصلاح المسار السياسي المأزوم، كما وعد بذلك الرئيس سعيد، كانت النتيجة هي انقلابه على آخر ما تبقى من مكتسبات الثورة بالقضاء على التعدّدية، وحرية التعبير، والتمثيل البرلماني، والنقاش العام، واستقلال القضاء، فبدل إصلاح الفوضى المؤسّسية، جرى هدم المؤسّسات وتقويضها من الداخل. وبدل تعديل النظام السياسي، جرى تفريغه من محتواه، فيما فقدت الأحزاب، أو ما تبقى منها، قدرتها على التأثير، وتراجع دور المنظمات والاتحادات، وبقي الشارع وحده ينوب عن المجال السياسي بأسره، مرّة بالغضب، ومرّة بالصمت، لكنه صمتٌ لا يشبه القبول بقدر ما يشبه ما قبل الانفجار.
على الصعيد الدولي، لم تعد تونس تُقرأ “نموذج الانتقال الديمقراطي العربي”، بل “نظاماً غير قابل للتوقع”، تتزايد مخاطر الانهيار فيه بسبب اختلال التوازن بين السلطة والمؤسّسات. وحتى الدول الأوروبية التي فضّلت الصمت طويلاً حفاظاً على تعاونها مع تونس في ملفّات الهجرة، وجدت نفسها مضطرّة لإبداء القلق، لكن قلق الخارج لا يكفي لوقف الانحدار حين يكون الداخل أكثر هشاشة.
إذا لم تُفتح نافذة إصلاح سياسي حقيقي، يضع الإنسان قبل السلطة، فسيكتب شعب تونس، مجدّداً، تاريخه في الشوارع
اليوم، ومع عودة الاحتجاجات إلى الشارع بعد سنوات من الانتظار، تبدو تونس أمام معادلة خطرة: كلما شدّدت السلطة قبضتها، ارتفع منسوب الغضب، وكلما توسّع الغضب، ازداد النظام تصلباً. إنها حلقة مفرغة لا يخرج منها سوى نظام ينهار من الداخل أو انتفاضة جديدة لا يمكن التنبؤ بنتائجها، فما يحدث الآن ليس خلافاً بين الرئيس ومعارضيه، بل أزمة نظام كامل فقد شروط استمراريته: لا مؤسسات، لا وسائط، لا ثقة، ولا شرعية ولا إنجاز.
خروج تونس من أزمتها يمرّ عبر استعادة الدولة من ضيق سلطة الفرد إلى سعة المؤسسات، ومن منطق الانتقام إلى منطق التفاوض، ومن الشعبوية إلى سياسات عامة قابلة للتنفيذ، ومن حكم الأجهزة الأمنية إلى حكم المؤسسات. الخطر الأكبر الذي يواجه تونس أن يتحوّل الانسداد الحالي إلى حالة دائمة، وأن يفقد التونسيون إيمانهم بأن التغيير ممكن عبر السياسة والمؤسّسات. حين يحدث ذلك، تصبح كل الخيارات المطروحة على الطاولة مقلقة: الفوضى، القمع، أو الانفجار.
تونس التي كانت ذات يوم رمزاً للأمل العربي حينما فجّرت ثورة الحرية قبل أكثر من عقد، تعود اليوم إلى الشارع لأن النظام السياسي استنفد كل طاقته، ولم يعد يملك ما يقدّمه سوى القمع والأحكام القاسية. تستحقّ هذه البلاد أكثر من واقعها المأساوي الحالي، وشعبها، الذي قدّم أثمن الدروس في الحرية قبل 12 عاماً، يستحق نظاماً يعكس شجاعته، لا خوفه، وإذا لم تُفتح نافذة إصلاح سياسي حقيقي، يضع الإنسان قبل السلطة، فسيكتب شعب تونس، مجدّداً، تاريخه في الشوارع بدلاً من أن يكتبه داخل مؤسّساته. بات أفق هذا النظام ضيّقاً إلى حدّ أن السؤال لم يعد: هل يتغيّر؟ بل: من سيكتب لحظة التغيير… الشارع أم السلطة؟ وما الثمن الذي ستدفعه تونس حتى تستعيد نفسها؟
المصدر: العربي الجديد






