
لا أعرف إذا كنت اليوم ألامس من جديد مشاعر التصنيف المناطقي لي، وخصوصاً عند الحديث عن درعا، فعذراً من المنتقدين، إلا أن ما يدفعني من جديد للخوض في الكتابة عنها هو العبرة من المقاومة البطولية لأهلها، دفاعاً عن أرضهم ومنازلهم، ورداً على الانتهاكات المتكررة للجيش الإسرائيلي للمناطق السورية، تلك التي تسجل لهم كسابقة سورية تاريخية جديدة، بعد الأولى في تمردهم وثورتهم ضد نظام الأسد، وهذا ليس مديحاً في غير محله، أو طلباً من السوريين أن يحذو حذوهم، بل هو توصيف لواقعة، لم يجرؤ نظام الأسد يوماً على السماح بها، أو ترك الخيار فيها للشعب، ما يعني حقيقة أن السوريين باتوا يدركون تحررهم كشعب، من جهة، ومن أن رد العدوان مسؤولية كل فرد منا بما أمكن، وهي ما لم تكن تعبر عن قوة عسكرية قادرة على مواجهة الانفلات الإسرائيلي، فهي على الأقل تعبر عن تمسك الناس بانتماءاتهم إلى وطنهم، ورفضهم الهيمنة الإسرائيلية عليه.
نقر جمعياً بالتفوق الحربي الإسرائيلي، لكن هذا التفوق لن يقودها إلى السلام الذي يتطلع إليه شعبها، وهذا حقهم أن يعيشوا وسط بيئة دولية آمنة، والسلام الذي صار مطلباً لكثير من سوريين وعرب وكأنه وجبة “ديلفري” جاهزة، الحصول عليه أيضاً، يتطلب إحلاله في نفوس الشعوب المجاورة لا اقتلاعه منهم، وتشريدهم والاعتداء على ممتلكاتهم، فهو ليس اتفاقات حكومية تنهي مفاعيل الحرب المستعرة، هو تعايش شعبي، علاقات ندية في الإنسانية وحقوق الحياة، وحق الدفاع عنها، ربما تكون هذه هي الرسالة الثمينة من دم شهداء حوران، الذي سال على أرضها دفاعاً عن تلك الحقوق، فليست الأسلحة هي عامل استقواء من حملها ضد أعتى وأحدث أسلحة الدمار، لقد كان الحق، وهو حق، إن فهمنا، وفهمت معه الشعوب العربية رسالته، كما أنه يغلق من جديد تلك الأبواب التي فتحتها فكرة أن إسرائيل هي صاحبة القرار الفصل في المنطقة وعلى الجميع الخنوع لمطالبها والتعامل مع توسعها الاستعماري كأنه شأن داخلي لها.
التضامن الشعبي الذي حظيت به درعا “حوران” يعيدنا إلى الأيام الأولى للثورة، التي انتصرت بعد 14 عاما من تضحياتها، ربما لم تحقق كل أهدافها، لكنها بدأت من أهمها، وهو اسقاط التنظيم الأسدي الذي أنشأه وعمق هيمنته الأسدين (الأب والأبن)، ما يفترض أن تكون هذه المظاهرات والوقفات الاحتجاجية محفزة لاستعادة التضامن على كل المستويات الداخلية، من مواجهة الفوضى المفتعلة إلى توطيد الأمن والسلم الأهلي، فالمواجهة مع إسرائيل صحيح لا ينفع معها البندقية أمام تكنولوجيا السلاح الأكثر تطوراُ وخبرة في القتل والتدمير، لكن توحيد الرأي تجاه القضايا المصيرية كالسلام والحرب والحريات والدستور والعدالة الانتقالية، هو ضمانة القوة الخارجية النابعة من الشعب.
فالانقسام الحاصل مؤخراً، حول فكرة السلام مع اسرائيل، من قبل مجموعات شعبية، ولأسباب مختلفة، منهم من يرى الدمار المرعب الذي خلفته حربها على غزة قابل للتكرار ويريد تجنبه، ومنهم، من يسلم بأن بقاءها حليفة الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى تبعية القرار الغربي لها، يجعل الحرب محسومة لصالحها، فلا يدخلها خاسراً ومهزوماً، يعني بالمختصر التسليم بقدرة إسرائيل على “التشبيح” وفرض هيمنتها على المنطقة بشريعة الغاب والبلطجة، أي ما يمكن اعتباره كأننا نطلق النار على أنفسنا، لكن هذا المنطق الاستسلامي كأنه يحرض العدوان على الاستفراد بسوريا منطقة تلو الأخرى.
وهذا التصدي لها في درعا، ومساندته شعبياً، على بساطته، بنى لها أول الحواجز في طريق استمرارها في خدعة شعبها الإسرائيلي تحت شعارها: أن توسيع عدوانها على سوريا، وقبلها لبنان بعد غزة، يمكنه أن يوفر السلام المطلوب. وهنا لا يفترض أنني أناصر أو مع نشوب حرب بين السوريين والجيش الإسرائيلي، لكن أعول على أن جمع كلمة السوريين على موقف واحد من إسرائيل بات اليوم من ضمن القضايا المحلية، كما هو الحال في الجهة المقابلة، وهذا ليس قضية سياسية- خارجية تتعلق بموقف السلطة القائمة، أياً كان توجهها، بل يدخل في صميم عملية صيانة أمننا الداخلي قبل حمايته من العدو الخارجي.
ولا يقتضي هذا انتفاء أهمية التفكير الجدي والسعي لإحلال سلام حقيقي معها، على المستويين الحكومي والشعبي، على ألا تشوب هذا السلام فكرة تفوقها علينا، ولا خضوعنا لهيمنتها من باب الاستسلام العجزي الآني، بينما مناصرة الرغبة في السلام حالياً بواقع القوي والضعيف الحالي، يعني الاستغناء عن سيادة الدولة مقابل السلام المشروط بإرادة إسرائيل، ونزعاتها لإحاطة نفسها بحزام الأراضي المحروقة من كل جهة، وعلى حساب سيادة كل الدول لا يستثنى منها واحدة مع اختلاف توقيت الرغبة الاسرائيلية. فأهمية مقاومة الاعتداء لا تأتي من حسابات الربح والخسارة في حوران، بل من معنى الاستعداد للتضحية في سبيل حماية الأرض وقد فعلوها!
رحم الله الشهداء، فلا تزال القدرة على العطاء وتقديم الأرواح طلباً للحرية مستمرة، وهو ما يعني أن الوقت لايزال مبكراً على التفكير بتقديم التنازلات من دون مقابل، فإذا كان الأفراد على بساطة الإمكانيات فعلوها، وأحرجوا إسرائيل التي اعتادت على سياحة القتل من دون مقابل، والتدمير من دون إدانة، فكيف الحال حين يقيم العرب قدراتهم، ويعيدوا فتح دفتر حساباتهم واتفاقاتهم؟
المصدر: المدن