تقدّم حوران في سورية، مرة أخرى، نموذجاً عن نضالها السلمي، في إعلان منها ربما لبدء مفاعيل ثورة ثانية، تعيد فيها أجمل ذكريات ومشاهد ثورة 2011. وهي في هذا تصحّح خيار السلاح والفصائل وتشتيت قوى العمل الشعبي المتماسك، وفي الوقت نفسه، تقدّم خياراً جديداً لمناطق المعارضة غير التسليم بالانفصال والتبعية لأجندات الدول المتصارعة على سورية. وهي، منذ إعلان رفض إجراء الانتخابات الرئاسية في مناطقها ومحاصرتها النظام إعلاميا في 26 مايو/ أيار الماضي، بدّدت صورة سيطرة النظام السوري على مناطق التسوية، للمرة الثانية بعد أحداث عام 2020 التي أجبرت موسكو على تعزيز الاتفاق مرة أخرى مع الأهالي، ومنع توسّع الفرقة الرابعة آنذاك من بسط نفوذها على بلدات الريف الشرقي. وهدفت موسكو من التسوية التي عقدتها بعد جولاتٍ ماراثونية مع الجانبين، الأميركي والأردني، في يوليو/ تموز من عام 2018، مع الفصائل المسلحة، ولجنة مدنية من الأهالي، في إطار إخراج تدريجي لمناطق خفض التصعيد من معادلة هيمنة مسار أستانة الثلاثي على المناطق (روسيا- تركيا- إيران)، وبسط سيطرتها منفردةً عليها، واحدة تلو الأخرى.
ويمكن القول إنّ محافظة درعا (جنوب دمشق) بدأت تشكل معالم عمل سياسي جديد، منذ عام 2018، فهي، من جهةٍ، تأتمن على مناطقها من القصف الروسي، ومن جهة أخرى تفسّر مفهوم التسوية الأهلية بأنها لا تعني خطوةً إلى ما قبل ثورة الكرامة 2011، وإنما هي تعديلٌ لمسار المقاومة المسلحة التي فرضت عليها، سواء ذات الطابع المحلي غير المنظم، أو من بعض الفصائل ذات الأجندات الخارجية.
وإذا كانت درعا اتخذت من المظاهرات والالتفاف الشعبي حولها، وتأكيد سلميّتها، وسيلة للتعبير عن استمرار ثورتها ضد حكم النظام السوري ووسائله الأمنية، فإن النظام، من جهته، عاد إلى ممارسة الأساليب نفسها التي فجّرت الثورة في كلّ أنحاء سورية، واستخدم حصار المدينة بهدف تجويعها وتركيعها في قراءة خاطئة، مرة أخرى، لإمكانات الشعب السوري ومدى إيمانه بمبادئ ثورته، وتقديره تضحيات السوريين خلال الأعوام العشرة التي مرّت عليه.
صحيحٌ أنّ التسوية التي تعيش عامها الثالث هذه الأيام، لم تحظ بقبول سوري واسع، لأنها، حسب المعترضين عليها، منحت النظام فرصة الاستفراد بمناطق أخرى، وهي لم تُنجز كامل بنودها في أي وقت، أي لم يخرج كامل المعتقلين، ولم يتم التعامل مع موضوع الخدمة الإلزامية حسب الاتفاق. وكذلك بالنسبة لعودة الموظفين المفصولين إلى أعمالهم، واستعادة المحافظة الخدمات، ولم تخلُ حياة الناس في تلك المناطق من عمليات القنص والاغتيالات والاعتقالات، لكنّها منحت السكان على الأقل فرصة العيش تحت سقفٍ غير مشتعل، وأوقفت موت الناس تحت دمار بيوتهم، كما كان يحدُث، ويحدث الآن في إدلب التي تخضع، هي الأخرى، لاتفاق مناطق خفض التصعيد “المتهالك”.
لم ينفع النظام استخدامه سلاح الحصار ضد مدينة درعا سابقاً في عام 2011، على الرغم من أنّ جيشه بكامل قوته عدداً وعتاداَ كان يحاصرها جغرافياً، ويرهبها معنوياً، وحينها، لم تكن روسيا في سورية. أما وقد أصبحت اليوم صاحبة اليد العليا في سورية، وهي الضامن لعملية التسوية، وتبذل كلّ ما في وسعها لتقديم نفسها للعالم عامل استقرار في سورية، فإنّ متابعة النظام في طرق إرهاب الناس، وتحفيزهم للانقلاب على الهدنة، سيجعل منه طرفاً في نزع شرعية اتفاقات موسكو بشأن سورية، ما يهدّد فعلياً مصداقيتها في الحديث عن حلول قادمة من موسكو إلى طاولة الحوار مع واشنطن التي تعقد في جنيف في الأيام المقبلة.
الحديث عن حوار يجمع الجانبين، الأميركي والروسي، ويؤسّس لمرحلة جديدة من التعاون المشترك لحل الصراع في سورية، وتعزيز وقف إطلاق النار الهشّ، والمفترض أن ينعقد قبل اجتماع مجلس الأمن للتصويت على تمديد القرار الأممي الخاص بالمساعدات الذي تنتهي مدته في العاشر من يوليو/تموز الجاري، وقبل اجتماع ثلاثي مسار أستانة، وإعادة إحيائه لاستخدامه في قيادة عملية اللجنة الدستورية من جديد، لا يمكن أن يتجاهل ما يحدث على مستوى حقوق الإنسان من انتهاكات، ومنها حصار المدن وتجويع الأهالي عبر إغلاق المعابر، ناهيك عن الاعتقالات والاغتيالات، ما يعني أن على موسكو التحرّك لحفظ ماء وجهها وحبر اتفاقاتها في درعا.
استمرار تصاعد عمليات التضييق على درعا، وسط صمت موسكو المريب، إما لأنّ موسكو تريد أن تواجه النظام بمحدودية إمكاناته وقدراته على إنجاز فرصة دوره في الحلّ السلمي أو الاحتفاظ بها، وتريده أن يتعثّر، مرة أخرى، مع داعمه الإيراني أمامها، لتنهي دورهما مستقبلاً في مناطق سيطرتها، أو أنّها تريد، من خلال ترك الأمور تتفاقم، أن تجعل من درعا مرة أخرى مجالاً للتفاوض مع الجانب الأميركي الذي سلّمها في مفاوضات عمّان 2018 ملف حوران. وفي الحالتين، تكشف روسيا بهذا الصمت عورات النظام أكثر وأكثر، مع فقدانه القدرة أمام أهم فرصة محلية لتثبيت موقعه طرفاً في حلّ سياسي مستدام في سورية.
صمدت درعا في الحصار الأول، وصامت حتى عن حليب الأطفال، وهي عندما اتخذت قرارها الحرّ بممارسة حريتها في رفض المشاركة في إعادة تعويم بشار الأسد من خلال انتخابات واهية للمرة الرابعة على التوالي، فإنها وضعت نصب أعينها كلّ سيناريوهات العقاب المحتمل، ما يعني أن رهان النظام على ترهيب أهالي حوران، ومقايضة الخبز بالحرية، خاسر وجبان. ويؤكد ذلك رفض لجنة المصالحة، حسب تأكيد للمحامي عدنان المسالمة، إجراء أيّ حوار مع النظام، ما استدعى موسكو إلى أن تفتح باب تبادل الرسائل وقنوات التواصل من جديد.
المصدر: العربي الجديد