الحدود اللبنانية – السورية: معركة بين التهريب والسيادة

محمد فواز

لطالما كانت الحدود اللبنانية السورية مسرحًا لتجاذبات إقليمية ودولية، إلى جانب تفاعلاتها المحلية. فمنذ تأسيس الدولتين، لم تكن هذه الحدود مقنعة لأهالي البقاع والشمال اللبناني، الذين رأوا فيها خطًا مصطنعًا يفصل بينهم وبين امتدادهم الاجتماعي والتاريخي داخل سوريا. كذلك، لم تكن هذه الحدود مرضية للسلطة السورية لعقود، ولا لأصحاب القرار في لبنان. فقد اعتبر نظام الأسد أن عنجر اللبنانية، على سبيل المثال، ليست سوى إحدى عواصمه الرئيسة، وتحولت في بعض الفترات إلى المركز الفعلي لاتخاذ القرارات السياسية والأمنية في لبنان، بينما بقيت بيروت مجرد واجهة لبلد كان يُحكم فعليًا من دمشق، سواء عبر الإدارة المباشرة للنظام السوري أو من خلال أذرعه المتغلغلة في الجسم اللبناني.

مع انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، لم يتم الاعتراف الفعلي بهذه الحدود، بل انعكس النفوذ السوري في الاتجاه المعاكس، حيث بات لبنان المحكوم من حزب الله، يرفض عمليا الاعتراف بحدود بين البلدين، لا سياسيًا ولا عسكريًا ولا حتى اقتصاديًا، بل أصبحت هذه الحدود رمزًا لاتصال محور إيران في المنطقة، وشريانًا رئيسيًا لنقل المقاتلين والعتاد، فضلًا عن كونها معبرًا أساسيًا لعمليات التهريب بمختلف أنواعها، ما جعلها في صلب التوازنات الإقليمية.

اليوم، وبعد سقوط النظام السوري، وتدهور وضع حزب الله في لبنان عسكريا وسياسيًا واقتصاديًا، تبرز هذه الحدود مجددًا إلى الواجهة، محاولةً إعادة تعريف نفسها وسط تعقيدات دولية وإقليمية ومحلية متشابكة، إلى جانب مقاومة شديدة من المحور المهزوم. في هذا السياق، تسعى القيادة السورية الجديدة إلى إعادة ضبط هذه الحدود، وتطهيرها من النفوذ غير الرسمي الذي فرضه حزب الله، إلى جانب منع عمليات التهريب التي تهدد استقرارها الداخلي وتضعف علاقاتها الخارجية.

بالمقابل، يرفض حزب الله، كما بيئته التي عزز فيها هذا النمط الاجتماعي والاقتصادي القائم على فائض القوة والتهريب، الاعتراف بالواقع الجديد. لذلك، كان من المتوقع أن يتحرك حزب الله على هذه الحدود بأشكال وأهداف متعددة. فالحزب اليوم يسعى إلى رفض العزلة الجغرافية التي يواجهها للمرة الأولى في تاريخه، كما يسعى إلى التماهي مع هذه البيئة المتململة من الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري الجديد، فيصعّد بالاشتراك معها من باب التنفيس عنها ومحاولة الحفاظ على زمامها. كما يسعى حزب الله إلى التشويش على القيادة السورية الجديدة وعرقلة مسار تحسين العلاقة بين سوريا ولبنان وبينها وبين الإقليم وصورتها فيه. ويحاول حزب الله أيضًا استرجاع سردية محاربة الإرهاب، التي استخدمها منذ عقد من الزمن لرصّ صفه الداخلي، ولإبقاء شرعية سلاحه، وجعلها نقطة تلاقٍ مع الجيش والمجتمع اللبناني.

المراقب بهدوء يدرك أن هذه السردية والمحاولات من الصعب اليوم أن تفلح خارج بيئة حزب الله، بسبب الدروس المستفادة من السنوات الماضية والواقع الجديد.

الرئيس عون، الموجود اليوم في قصر بعبدا، يختلف عن سابقه، فهو يأتي بغطاء توليفة دولية عربية تريد رأس حزب الله. التوليفة نفسها ليست ببعيدة عن القيادة الجديدة في سوريا، وهو ما يظهر عند المنعطفات.

فصحيح أن سوريا اليوم لم يُترجم الدعم لها عمليًا بشكل كبير، إلا أن المؤشرات الأخيرة توحي بالإيجابية، وعلى رأسها الاتفاق مع قسد، الذي لم يكن ليتم لولا الدفع الأميركي، وهو الذي جاء بعد معارك الساحل التي لم تكن إيران بعيدة عنها. إضافة إلى ذلك، فإن المؤشرات الأوروبية لا تخفي اهتمامها بوحدة سوريا لمصالحها التجارية، وقطعًا للطريق أمام “الساحل الروسي” المقابل لها، وهو ما يعني عمليًا دعمًا أوروبيًا للقيادة السورية الجديدة. وهو توجه يظهر اختلاف الأجندات العملية بين الأوروبيين والأميركيين والإسرائيليين. فالأوروبيون، الذين يظهرون تأييدا للوحدة السورية، يحاولون الحصول على نفوذ في منطقة حيوية في وقت يستمر فيه تراجعهم عالميًا، بينما تضغط إسرائيل باتجاه التقسيم الطائفي وقطع خط الوصل بين الخليج العربي وتركيا وأوروبا واحتكار المتوسط بموانئها. فيما تقف الولايات المتحدة في منزلة بين المنزلتين؛ ففي الخريطة الكبرى، فإن صراع الولايات المتحدة مع الصين هو الأساس، مما يجعلها أكثر انفتاحًا للتقارب مع روسيا، عكس الأوروبيين الذين يرون في الروس العدو الأول. كما أن مركزية المصلحة الإسرائيلية لدى الولايات المتحدة لا غبار عليها، ولكن أميركا نفسها لا تعتبر أن تفتيت المنطقة يخدم مصالحها أو مصالح إسرائيل، كون ذلك يحافظ على الاضطراب في المنطقة ويترك ثغرات يمكن أن تُستغل للعمل ضد مصالحها، في حين تفضل الولايات المتحدة هدوءًا مضبوطًا من قبلها. لكن ما تجمع عليه كل هذه القوى هو منع إيران من عودة مشروعها الإقليمي، وعلى رأسها منعها من العودة إلى سوريا أو استعادة خط الترابط بين ما كان يُطلق عليه “ساحاتها”، وهو ما تدركه إيران وتحاول استكشاف وسائل الالتفاف عليه.

هذا الصراع الدولي والإقليمي نرى أحد فصوله على الحدود الدولية، مع تأكيدنا على بُعده الداخلي الذي ذكرناه. فالصورة الكلية وتوقيت محاولة الانقلاب في الساحل، مع تجدد الاشتباكات على الحدود اللبنانية السورية وارتفاع حدتها عما سبق، يؤكدان أنها ليست اشتباكات مفاجئة، بل هي محاولات بمستويات مختلفة، بدءًا من المستوى الإيراني وصولًا إلى حزب الله والمجتمع، لاستعادة شيء من مشهد غابر، من المصلحة الفردية إلى المصلحة الدولية، أي محاولة لمحاربة عقارب الساعة. صحيح أن هذه المحاولات ضعيفة في احتمالية استعادة مشهد سابق، نظرًا للتغيرات الجذرية في المشهد الإقليمي كما في لبنان وسوريا الرسميين، إلا أن خطورتها تكمن في التأثير السلبي على الاستقرار اللبناني السوري المأمول، واستنزاف الطرفين في معارك جانبية مقارنة بالمشهد الأكبر.

عمليًا، من غير المتوقع أن تتوقف هذه الاشتباكات، بل من المتوقع أن نشهد ارتفاعًا وانخفاضًا في وتيرتها بحسب الظروف الإقليمية والدولية والمحلية. لذلك، سيكون صمام أمان تفادي الاستنزاف في هذه المعركة هو تعزيز التواصل الرسمي اللبناني السوري والتعاون لما فيه خير البلدين الشقيقين في انطلاقتهما الجديدة.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى