ثورة ظفار في رواية عُمانية

محمود الرحبي

سبق المصري صنع الله إبراهيم، في روايته “وردة” (1993)، الجميع في تخيّل ثورة ظفار، التي حدثت بين 1965و1975، بيد أن نقاشاً طاول تلك الرواية ومُنِعت في عُمان من التداول. بعدها جاءت روايات متفرّقة تتناول هذه الفترة، وإن لم تركّز عليها تاريخياًَ. وأخيراً صدرت رواية “البيرق…هبوب الريح” (دار ناشرون وموزّعون، عمّان، 2025)، للعُمانية شريفة التوبي، لتأتي كاملةً في شأن هذا التاريخ المجهول، في 600 صفحة.
تبدأ الرواية سردها بتأمّل النواة الأولى لتشكّل فكر الثورة، التي جاءت على خلفية انهزام إمامة عُمان في الخمسينيّات، كما يتضح ذلك من خلال الشخصية الرئيسة، التي أرسلت من السعودية إلى القاهرة بهدف التعلّم. أُرسِل الشاب حمود بن سيف إلى مصر من طريق حركة الإمامة، التي لجأت قياداتها بعد هزيمتها في الجبل الأخضر إلى السعودية. وفي القاهرة، يتعرّف الصبي ذو التكوين الديني إلى كتب مختلفة، ويدخل حفلةً لأمّ كلثوم في نادي الضبّاط. النسمات الجديدة للحياة والفكر تدفعه إلى أن يمتلئ حماسةً لتحرير بلده، التي كانت تحت إدارة إنكليزية عسكرية مباشرة، وهذا ما سيجده القارئ مفصّلاً في الرواية، فالمحقق والضابط والسجّان بريطانيون.
يحرّك فضاء الرواية شخصيتان، وكلّ ما يرتبط بهما من معطيات محيطهما الخاص والعام، الملتصق أنطولوجياً بهما، حمود بن سيف ومبارك بن مرهون. تبدأ حياة الأول وزمنه في الرواية من القاهرة، فتهبّ عليه رياح التغيير لتلقي به في واحد من التيّارات القومية التي كانت سائدةً في مصر الستينيّات. هناك، يلتقي بالرفقاء، الذين شكّلوا نواة ما عرفت لاحقاً بالجبهة الشعبية لتحرير ظفار، لينتقل بعدها من مصر إلى البحرين، ثمّ إلى العراق للتدريب، ثمّ إلى صلالة للقتال العملي. وفي ضفاف هذه الرحلة المكثّفة، يلتقي مجموعةً من “رفاق السلاح”، وكان من ضمنهم الفتاة “طفول”، التي شكّلت أيقونةً للتحرّر في أدبيات اليسار العُماني، ولكنّها تظهر هذه المرّة من طبقة مسحوقة، يعمل والدها بالسخرة مع شيخ من شيوخ ظفار، الأمر الذي يجعلها تهرُب من طوقها الضاغط إلى سهوب الجنوب الخضراء، غزالةً تنشد الحريةَ، وقد وجدت بين الرفاق ساحة واسعة لأحلامها. بينما تظهر طفول في أعمال سردية أخرى في حالات مختلفة طبيعةً، أي أيقونةً يمكن التعامل معها من أكثر من زاوية، ولأن التعامل هنا مع رواية متخيّلة تستند إلى التاريخي من دون أن توثّقه حرفياً، فإن هذا الأمر يتيح للكاتبة أن تلعب لعبتها الروائية كما تشاء، شريطة إقناع القارئ، وتعيين حدود هذه اللعبة، وإحداثياتها، تعييناً واقعياً ملموساً، وهذا ما وفّقت فيه الرواية، إلى الدرجة التي يمكن معها طرح السؤال الساذج: هل هذه الرواية حقيقية؟ ويمكن أن يأتي هذا السؤال حتى من سائلٍّ مطّلعٍ وقارئٍ للكتب والروايات.
ظهرت شخصية حمود بن سيف جادّةً ملتزمةً مهتمّةً بالقراءة ومعرفة الجديد، وحالمةً ومصرّةً على تحقيق حلمها بأيّ ثمن، ومشدودةً بإصرار إلى مبادئها. وفي المقابل، تظهر شخصية مبارك بن مرهون، منذ البداية، مستهترةً ذات ميل شهواني إلى المتعة السريعة. ولذلك أوجدت الرواية مبرّراً لسلوكها اللاحق المتمثّل في الوشاية وتسقّط الأخبار. بينما ظلّت شخصية حمود (بدافع من طبيعته وعمره الصغير أيضاً) حالمةً متشبّثةً بموقفها حتى نهاية الرواية، وغير مستعدّة للتنازل، وحتى للهروب، إلى أن أُعدِم رمياً بالرصاص.
إلى جانب شخصيات ثانوية أخرى، واقعية حتى في تخيّلها، منزوعة نحو التغيير والحلم بحياة أفضل للجميع كما عند حمود، مصائر تتصارع في حلبة الحياة الضيّقة والمرصودة اجتماعياً وسياسياً من دون سكون. وكثرة الصفحات في هذه الرواية يبرّرها الموضوع التاريخي المفعم بتفاصيل واسعة وممتدّة يصعب تجاوزها أو المرور عليها. كما شكلت الرواية نقلةً مهمّةً في إطار التفكير في ما ظلّ مسكوتاً عنه طويلاً. فالكتابة سابقاً عن هذا الجزء من التاريخ العماني، كثيراً ما يطاوله المنع، كما حدث مع روايات الراحل أحمد الزبيدي، وخاصّة روايته “أحوال القبائل عشية الانقلاب الإنكليزي في صلالة”.

المصدر:  العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى