
العلاقة بين اللغة والمجتمع أساسية، فاللغة ليست نظاماً للتواصل فقط، بل حمّالة هوية وثقافة ومُخْتَلِفِ الديناميكيات الاجتماعية المتعلقة بالمجموعة البشرية. وهي، بأكثر المعاني وضوحاً، العنصر المركزي في الهوية الثقافية، ومن خلالها تنتقل التقاليد والقيم والمعارف من جيل إلى جيل، بوصفها إشاراتٍ تواصلية، تحقّق قدراً من التفاهم يصبح علامة، من الناحية الوظيفية، على تفاعل بين الأفراد والجماعات على مستويات متنوّعة من أوضاعهم المعاشية بعامة. ثم يمكن للغة أنْ تصبح أداتهم المباشرة في كل ما يرجع لترقيتهم ورقيهم وتطور حيواتهم داخل المجتمعات، لأننا لا نتفاهم ونتواصل فقط، بل وكذلك ننخرط، عن طريق اللغة، في علاقات مختلفة تأخذ صفاتها من مجالات استعمال تلك اللغة لأنها أيضاً نظام للعلامات اللغوية الحاملة للمعنى، ولذلك تستطيع أن تحقق الفهم بين الأشخاص الذين يستعملونها عن طريق الكلام.
بناء عليه، أود الإشارة إلى الموضوع الجوهري الذي يشغل بال المهتم بقضايا البلاد الشائكة والمُحَدِّدَة لكثير من أشكال التطور في الوجود الإنساني، وعلى صعيد الأبنية المتحكّمة في السلوك وفي التحولات العامة التي تطرأ عليهما إجمالاً. ولهذه الغاية، أجدني في مسيس الحاجة للانتقال من الخاص، الذي هو المجال اللغوي، إلى العام الذي هو المجال المجتمعي، لأنَّ في الانتقال مشروعاً آخر لبحث العلاقة بين اللغة والمجتمع في مجال محدّد يتميّز بما ليس لغيره. والمقصود بهذا أن المشكل اللغوي، تعريفاً وإشكالات، مُعَقّد ويثير من حوله عدة قضايا فكرية ولسنية لها أبعاد اجتماعية وسياسية، ومنها ما هو إيديولوجي يرتبط بالتنوع “الإثني” على نحو ما، وبقضايا الصراع الذي يتمنطق بالهوية ويجعلها مُحَدِّداً للخصوصية الذاتية المرتبطة بالتاريخ وَبِالمَهْدِ إطاراً جغرافياً أيضاً.
ومن أبرز تعقيدات الوضع اللسني في المغرب، على سبيل المثال، أن لغاته متعدّدة متعايشة في مجاله، بحيث يستطيع مستعمل اللغة، ولو بدرجات غير متساوية، استعمال عددٍ منها لحاجة تواصله مع غيره: إذ نجد، في جانبٍ، العربية المعيارية “standard”، المسمّاة أيضاً بالعربية الكلاسيكية، واللغة الأمازيغية بالتنوع الذي هي عليه أيضاً، ثم العربية الدارجة بمختلف لهجاتها. وفي جانبٍ آخر، هناك اللغات الأجنبية، وفي مقدّمتها الفرنسية والإسبانية، ويجب أن نضيف إليها اليوم الإنجليزية بحكم الانتشار الذي تحقّقه، وحضورها أيضاً في التعليم بدرجة معينة.
ولو شئت تشخيص هذا الوضع من الناحية الاجتماعية لرأيت فيه شكلاً واضحاً لِمَا يمكن تسميته، ضمن التعدّد، الانقسام الاجتماعي: الذي قد يكون حادّاً فيعكس سلطة الطبقة الاجتماعية، أو الجهوية المهيمنة، أو المَجَالية المحدِّدة لخصائص كثيرة، وقد يكون لينا فلا يظهر إلا من خلال التمايزات التي تفرضها الجغرافيا، وقد تذوب بشتى الدوافع والتأثيرات في النسيج اللغوي الذي له السيطرة، بحكم وجود قواعد ناظمة له في المعاملات والاحتياجات والكتابة، وفي غير ذلك تبعاً لمقتضيات السياسة اللغوية المُنتهجة من النظام السياسي الحاكم.
الواقع أنه في هذا المستوى بالذات حيثما يكمن التعبير الأشمل عن حقيقة الوجود الاجتماعي للأفراد وللجماعات، أي في الترابط الحاصل بين اللغة، بوصفها أداة تواصل ونظام تعبير، والمجتمع باعتباره الإطار العام الحاضن، بالنظر إلى نسيجه وطبيعة النظام السياسي (السلطة) والاقتصادي (السوق) الموجودين فيه بوجود الدولة والشرائع والاختيارات التي ترسمها، أو تحدّدها للتطور. ومفهوم الترابط الحاصل يبرُز حصرياً من خلال التأثير الحاصل بينهما بآليات مختلفة، ووسائط متعدّدة. تكفي الإشارة إلى واحدة منها، لكي يتضح التأثير المتبادل، وفي مستوى منه درجة من التداخل الذي يفرضه الاجتماع والرغبة المؤكدة في تحقيق المصالح المفكر فيها، وغير المفكّر فيها، بينهما.
ناتج هذا التخريج، الذي أبسطه هنا، أنه يَعرض أمامنا المشكل الجوهري الذي أعتبره من حاصل تفاعل اللغة مع المجتمع، وأعني به مفهوم “التماسك الاجتماعي”، الذي يُوَلّد في الذهن، وفي الواقع الاجتماعي كذلك، سؤالاً محيّراً هذا مفاده: ما الذي يترتّب عن ارتباط اللغة وتداخلها مع المجتمع، وبصورة خاصة مع السلطة التي تنظم العلاقة بين الأفراد داخل المجتمع؟ وهل يتحقق بذلك ما يمكن افتراضه من تكامل، انطلاقاً من السياسة اللغوية التي تفرضها الدولة على المجتمع برمّته، بناء على المصالح والاختيارات التي تحددها ظرفياً أو استراتيجياً؟
اللغة الرسمية للدولة هي التي تعكس هيمنتها الأيديولوجية إلى جانب أشكال أخرى من الهيمنة المُتَنَفِّذة
أنظر إلى مفهوم “التماسك الاجتماعي” على أنه (مشروع الديموقراطية) الذي في مبناه أنه يضمن الحد الأدنى للتعايش السلمي، وللممارسة الممكنة على ضوء القوانين المسنونة التي لا تتعارض مع روح الحرية، أي بدون إكراه ولا تحكم. والمشروع الديموقراطي، بناء عليه، هو حركةُ انتقال نظام اجتماعي وسياسي معيّن، تتطور بموجبه، في اتجاه النقيض، ما يمكن تسميته والتكهن به كذلك على أنّه شكلٌ من أشكل الديموقراطية المُهَيْكَلة على أسس مقبولة، مبدأها فصل السلطات، والحرّيات العامة، والتوزيع العادل للثروة الوطنية، أي المستوى الذي تقل فيه، إذا شئنا، خطورة السقوط، أو العودة، إلى أنظمة تحكمية استبدادية.
يمكن القول، في هذا المستوى، إن اللغة المشتركة هي التي تعزّز الشعور بالانتماء والوحدة بين أفراد المجتمع، ولكنها أيضاً، وخصوصاً مع تعدّد اللغات، يمكن أن تكون مصدراً للتوتّر أو للانقسام إذا لم يتم إدارتها بشكل متوافق عليه، وإذا لم تُحَدَّد المصالح المرتبطة بها، وهي مصالح فئوية وجغرافية ومجالية أيضاً، تحديداً يراعي ما يمكن اعتبارها “المصلحة العامة” التي تدعو إليها المبادئ الأخلاقية العامة، أو الأديان والسُنَن الحميدة، أو العقائد الإيديولوجية جميعاً بدرجاتٍ مختلفةٍ من الإكراه القانوني الذي في معناه الجبر والإلزام أيضاً.
يضاف إلى ذلك أن اللغة يمكن أن تكون أداة للسلطة وأسلوباً للسيطرة. وغير خافٍ أن اللغة الرسمية للدولة هي التي تعكس هيمنتها الأيديولوجية إلى جانب أشكال أخرى من الهيمنة المُتَنَفِّذة، كما أن اللغة قد تعكس أيضاً هيمنة مجموعةٍ معيّنة، سياسية أو مالية أو “نضالية”، ويمكن أيضاً أن تُمَكِّنَ الفئات المهمّشة من تعزيز حضورها (الأمازيغية في المغرب، وفي دول مغاربية أخرى) من خلال النضال السياسي المُطَالِب بالحقوق الثقافية والاعتراف بالهوية الإثنية. من دون أن ننسى، بطبيعة الحال، تحوّل اللغة داخل المجتمع إلى واحدةٍ من أدوات التلاعب (manipulation) الممكنة بالعقول أو بالأحوال. ويمكن للغة، في علاقة بالمجتمع المدني وبحكم طبيعته والاختيار المرسوم لتوجهه ودوره، أن تصبح أداته في التعبير عن المطالب المُشَخِّصَه لسلطته المضادة، متى ما توفرت له الاستقلالية الفعلية، بشكل عام.
غير أنني أودّ الإشارة أيضاً إلى مسألة خاصة تتعلق بتحويل اللغة إلى سياسة تدبير لبناء التاريخ الخاص، وجعله منطلقاً للتعبير الأيديولوجي عن الخصوصية ذات “الطبيعة الاستثنائية”، أو عن التفرد الذي لا يُدانى في رتبه ومجده، أو عن الوطنية الشوفينية الكارهة ما عداها، إلى غير ذلك من النزعات “العرقية” المختلفة التي قد تبرُز باسم التيار الفكري الذي تعمل به الأقليات في “فضح المظالم والكشف عن التمييز”، المعروف ب”الووركسيزم”.
مع تعدّد اللغات، يمكن أن تكون اللغة مصدراً للتوتّر أو للانقسام إذا لم يتم إدارتها بشكل متوافق عليه، وإذا لم تُحَدَّد المصالح المرتبطة بها
والذي يهم من هذا كله الوصول إلى التعبير عن رأي يربط اللغة بالاختيار الديموقراطي. ولو حاولت ذلك، في علاقة بالمجتمع المغربي وبالدولة التي تنظم مجالاته وتفعل في تطوّره على جميع المستويات، لَوَجَبَت الإشارة إلى ارتباط الاختيار الديموقراطي هذا، في حال وجوده ضرورة، بالطبيعة الخاصة للنظام السياسي السائد الذي هو عماد الدولة. والمقصود إذا بَلْوَرْتُه في سؤال قد يستفز العقل هو: كيف يمكن للنظام اللغوي أن يُكَرِّس، أو يُبَرِّر، أو يرسم، حسب الاهتمام ودرجة التقدير المرتبط باستراتيجيات مختلفة على صعيد المجتمع، (التعليم مثلاً)، جملة من الأوضاع القائمة بناء على المصالح المتوخاة، وحسب الاختيارات المعلنة في المجالات المرتبطة بالتطور المجتمعي والعلاقات الإنتاجية الموجودة فيه؟
ومع علمي أن الجواب يحتاج بحثاً وإعمال فكر، إلا أن من المفهوم أن “تنظيم التنوع اللغوي” في المغرب (يجري في إطار سياسة دولتية إرادوية بنص الدستور، تعطي الامتياز للغة العربية المعيارية، مع الاعتراف بالتنوع اللغوي والثقافي الذي قاد إلى ترسيم اللغة الأمازيغية في دستور 2011). وما يهمني، بعد هذا، هو الاحتجاج بفكرة مفادها: أن الدولة المغربية لا يمكن أن تعمل، نظرياً وبحكم الطبيعة الدينية، إلا في سبيل تكريس اللغة العربية المعيارية، ولو في أبسط مستوياتها التواصلية والعملية، بجميع الأدوار المرتبطة بها ولو كانت هامشية، أو في حمى تنافسية شديدة مع أدوار اللغات الأخرى واللهجات الموجودة في المجتمع وجوداً ثقافياً وهوياتياً. فينتج عن ذلك هذا السؤال الآخر: هل يتوافق عمل التكريس هذا مع المنظور الديموقراطي، أم أنه، من خلال ترسيم اللغة الأمازيغية، لا يعمل أيضاً إلا على استيعاب التوترات اللغوية وتمظهراتها الاجتماعية، وقد يكون في نفس الوقت لتكريس هويات لسنية مختلفة، وإضفاء نوع من الشرعية على وجودها في المجتمع، لمنع كل انقسام محتمل قد يضر ب”التماسك الاجتماعي” العمودي الذي محوره، كما هو المفهوم، العلاقات القائمة بين الأشخاص والدولة، ومستويات الثقة في مؤسساتها، بالإضافة إلى التفاعلات بين الأفراد والجماعات مع السلطة المهيمنة نفسها في إطار تلك الدولة؟
المصدر: العربي الجديد