
بدأ في سوريا حراك سياسي واسع منذ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2025، بعد سقوط نظام الأسد، ولا شك في أن هذا أمر إيجابي عمومًا؛ فالبشر لا يستطيعون أن ينتجوا شيئًا من دون تنظيم أنفسهم، ولا سيَّما على المستوى السياسي. لكن هذا الحراك ما زال يعاني عيوبًا كثيرة، قسم كبير منها قديم متجدِّد، ولا سيَّما لجهة اتّصافه بثلاثية الفوضى والتسرّع والتكرار.
1- تحالفات هشة: طوال أربعة عشر عامًا، بُنيت تحالفات سياسية سورية عديدة، وعُقدت مؤتمرات كثيرة، لكن جميعها طُبخ بصورة سطحية، فكانت أقرب إلى الفقاعات الإعلامية، وبُني بعض هذه التحالفات أو المؤتمرات وفق إرادات إقليمية ودولية، فكانت تحالفاتٍ هشّة أو اعتباطية أو تابعة، سريعة التشكُّل والانحلال، وتفتقد إلى الحدِّ الأدنى من شروط بناء التحالفات وأسسها، وبعيدة جدًا عن الأداء السياسي العاقل والرزين والصبور والمثابر (وضوح الرؤية، البرنامج السياسي المتدرج والمتماسك، الخطاب السياسي العقلاني، الآليات المحدَّدة، الكوادر والأدوات الفاعلة، الخطة الواضحة والمتدرِّجة). يُلاحظ اليوم أن هذا المشهد يتكرر على الرغم من حدوث تغيير جوهري في الواقع السوري يتمثل بإسقاط نظام الأسد.
لم تستطع تلك المؤتمرات والتحالفات والهياكل السياسية السائدة، قديمًا وحديثًا، إلا ما ندر، أن تنتج حالة سياسية متماسكة تجيب عن المشكلات الحقيقية التي تخصُّ السوريين، وما زال دورها مقصورًا على رفع شعارات عامة بلا رؤية تفصيلية ولا خطة ولا برنامج عمل. كانت هذه التحالفات أقرب إلى “اللمَّات” التي تجمع قوى سياسية تسعى لأن تكون موجودة في كل تحالف سياسي، ما أفقد فكرة التحالف السياسي معناها وجديتها.
في اعتقادي، ليس من الحكمة إنتاج فقاعات جديدة في ظلِّ واقع سوري أقرب ما يكون إلى أرضٍ رمليةٍ قادرة اليوم على ابتلاع القوى والتحالفات والمبادرات وسواها، إضافة إلى أنَّنا في حاجة إلى بناء قواعد وتقاليد راسخة للعبة السياسية، والاتفاق على مبادئ عامة في الممارسة السياسية، أي تحديد المقدسات والمحرمات في العمل السياسي السوري، قبل الشروع في بناء الجبهات والتحالفات والائتلافات.
2- حراك سياسي متسرِّع: على الرغم من إيجابية هذا الحراك السياسي وضرورته إلَّا أنه كان متسرعًا لجهة السير في الإعلان عن تحالفات وجبهات سياسية، والإفصاح بسرعة عن تشكيلات معارضة للسلطة الجديدة في سورية. فهذه السلطة ما زالت غير مستقرة ولمّا تتضح معالمها بعد، ومن ثم من الطبيعي أن تكون المعارضة المتشكلة غير مستقرة هي الأخرى أيضًا؛ أي ما زال الوقت باكرًا لإعادة إنتاج مفهوم المعارضة في الواقع السوري الجديد على أسس مغايرة.
من المهم نقد السلطة القائمة ومتابعة قراراتها وخطابها وأدائها في هذه المرحلة الانتقالية المحفوفة بالقلق والمخاطر والفرص بعين ترى الإيجابيات والسلبيات في آنٍ معًا إلى أن تتبلور وتتضح معالمها وتوجهاتها بما يسمح بتكوين معارضة متماسكة على المستويين السياسي والتنظيمي. لكن الأهم هو بناء القوى والتشكيلات السياسية الجديدة بدلالة الوطنية السورية والمصالح الوطنية وحاجات الشعب السوري أولًا لا بدلالة أي سلطة قائمة.
3- اصطفافات سياسية جديدة: مع سقوط نظام الأسد، ستتلاشى تدريجًا قوى سياسية معينة، أكانت موالية أم معارضة للنظام السابق، لأسباب مختلفة، بعضها سياسي وبعضها الآخر أيديولوجي، وسنكون أمام اصطفافات سياسية جديدة، وربما تلتقي أقسام من معارضي النظام السابق مع أقسام من مواليه، وستنمو في الحصيلة قوى جديدة. قد يكون هذا مؤلمًا ومحرجًا لكنه من طبيعة سير الأمور عبر التاريخ، وينبغي لنا أن نحتمل آلامه ومخاضاته لأن “الكتلة الانتخابية السورية”، أي كتلة السوريين القابلة للانخراط في السياسة، أوسع كثيرًا من “الكتلة الثورية السورية” إن جاز التعبير.
لكن هذه الاصطفافات الجديدة لن تعيش ما لم تذهب كثير من قواها السياسية في طريق مراجعة الذات ونقدها وبناء تصورات جديدة وعقد مؤتمراتها بهدف انتخاب قيادات جديدة بدلًا من قياداتها المترهلة، ولا سيَّما تلك التي اتخذت مواقف بائسة من الثورة السورية، ووقفت على جانب الاستبداد.
كان قرار حلّ حزب البعث وأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، في اعتقادي، خاطئًا؛ من جهة لأن هذا الفعل قد يكون مقدمة لأفعال مماثلة تطال أحزابًا وقوى سياسية أخرى، ومن جهة ثانية لأنه قد يكون مقدمة لإنتاج مظلوميات سياسية جديدة في الواقع السوري، فالقوى التي طالها الحل أصبحت اليوم تنادي بالديمقراطية بعد أن كانت ملحقات بنظام مستبد، إلى جانب سعيها الحثيث للاندراج في تحالفات سياسية جديدة تحقق لها شيئًا من الحماية والمشروعية. مع ذلك، كان من الأفضل أن تُترك هذه “الأحزاب” لشأنها، لعلها تُعيد إنتاج نفسها في سوريا الجديدة وفق أفكار وآليات مغايرة، وبقيادات مختلفة، وهذا لمصلحة سوريا، أو ربما تسير، وهو الأرجح، في طريق الاضمحلال الذاتي والموت الطبيعي.
4- طريقة التفاعل مع مبادرة السلطة لعقد “مؤتمر حوار وطني”: هناك ثغرات عديدة في دعوة السلطة لعقد “مؤتمر حوار وطني” بدلًا من “مؤتمر وطني سوري”، ولا شك في أن أهمها هو كون الأول مؤتمرًا حواريًا من دون صلاحية اتّخاذ القرار على عكس الثاني الذي يشير إلى مشاركة سورية حقيقية في رسم مستقبل سوريا، فضلًا عن القصور في طريقة تشكيل اللجنة التحضيرية، وترك مسألة اختيار المشاركين في المؤتمر للهيئة التحضيرية تحت إشراف السلطة القائمة، ما يعني تحكم السلطة في المؤتمر من البداية إلى النهاية، وهذه كلها عيوب تفرغ المؤتمر من مضمونه وأهدافه.
لكن هذا لا يسوِّغ دعوة بعض القوى السياسية إلى عقد مؤتمر وطني موازٍ أو بديل من دون مشاركة السلطة القائمة، فهذه دعوة معدومة القيمة؛ لأن أي مؤتمر لا تشارك فيه السلطة القائمة لن يكون مؤتمرًا وطنيًا سوريًا، وستكون قراراته ومخرجاته معدومة الفاعلية.
5- بناء الحقل السياسي السوري: بعد نجاح الثورة السورية في تحقيق أوَّلِ أهدافها المتمثل بإسقاط نظام الأسد البائد، تبرز أهمية شديدة لبلورة حقلٍ سياسيٍّ وطنيٍّ ديمقراطيٍّ سوريٍّ؛ حقلٍ ذي مبادئ سياسية راسخة، ويلتزم مدونةَ سلوكٍ سياسية تُحدِّد تخوم حركة جميع قواه وتياراته وتضبط أداءها استنادًا إلى جملة من المعايير والضوابط الضرورية والجوهرية. إن بناء هذا الحقل السياسيِّ الوطنيِّ، على مستوى الرؤية والأداء السياسي على أقل تقدير، هو الذي يشكِّل احترامًا ووفاءً حقيقيّين لأرواح شهدائنا وتضحياتِ شعبنا، ويلاقي جديًّا الآمال المشروعة للسوريين في تطلّعهم إلى الحرية والمساواة والعدالة، وإلى الأمن والسلام، وإلى حياة إنسانية لائقة، وتنمية إنسانية شاملة ومستدامة، ومشاركة إيجابية في إنتاج المعارف والقيم والخيرات الإنسانية.
يحتاج الحقل السياسي السوري، إلى مجموعة من المحدِّدات والضوابط التي تنظِّم العمل السياسي وتراقب أداء العاملين في الحقل السياسي، وتكتسي هذه الضوابط والمعايير في اللحظة الراهنة صبغة أخلاقية بالضرورة بحكم المرحلة الانتقالية التي يمر فيها بلدنا، لكنَّ هذا لا يقلِّل من أهميتها؛ من أجل بناء تحالفات سياسية حقيقية ومتماسكة مستقبلًا، ومن أجل تحويل معانيها الأخلاقية إلى قوانين واضحة مع كلِّ خطوةٍ نسيرها باتجاه سورية الجديدة، ولا سيَّما ما يتعلق باستصدار قانون عصري ينظِّم عمل الأحزاب السياسية.
المصدر: نورث برس