تنذر أجواء جبهة إدلب بمواجهة وشيكة، الإعداد لها لم يتوقف يوماً، فالميليشيات الإيرانية ونظيرتها الأسدية واصلت في الأشهر الماضية تعزيز وجودها، كذلك فعلت القوات التركية بتعزيز نقاطها العسكرية بالأسلحة والجنود. الجبهة بقيت طوال الفترة الماضية تتراوح بين الهدوء واشتباكات أو قصف محدود، لكن في الأيام الأخيرة تكاثرت عمليات القصف من قبل قوات الأسد مع محاولات التسلل لاحتلال مواقع جديدة، بينما كثف الطيران الروسي من تحليقه في الأجواء ما كان يوحي بأن عمليات استطلاعه تعدت حدود الروتين، ليقصف فعلاً أطراف مدينة بنش أمس في الصباح الباكر.
إرسال التعزيزات والتعزيزات المقابلة كان يشي طوال الوقت بهشاشة التفاهمات حول ما تبقى من إدلب وبهشاشة وقف إطلاق النار الأخير رغم صموده منذ خمسة أشهر، وربما يشي أيضاً بطبيعة العلاقة التي تربط بوتين وأردوغان، العلاقة التي ما أن يضبطها توافق للمصالح حتى يفجرها تضارب لها. إذا كان من أمل ضمن هذه الظروف فهو ألا يدفع أهالي إدلب ثمن التضارب، مع أمل ضئيل مرده إلى انشغالات الأطراف المعنية باشتعال الجبهة، فكل طرف من ثلاثي أستانة لديه من يكفي من الأزمات الكبرى التي لا تنفع جبهة إدلب في تصريفها أو الهروب منها.
والتركيز على ثلاثي أستانة يغفل دور واشنطن، المباشر أو غير المباشر، في التطورات السورية وحتى فيما يحدث بين الثلاثي نفسه. ففي الأيام الأخيرة أعطت واشنطن من الإشارات ما يكفي لترى موسكو شقاقاً أمريكياً-تركياً، يمكن استغلال الضعف التركي فيه وفتح جبهة إدلب لقضم ما يتيسر منها. الإشارة الأولى كانت مزدوجة وأتت لصالح موسكو مباشرة، فواشنطن التي كانت تدعم موقف أنقرة في ليبيا أوقفت دعمها عند الحدود التي وصلت إليها حكومة الوفاق، وهي لا تريد هزيمة كبرى أو نهاية لقوات حفتر المدعومة روسياً وإماراتياً وسعودياً ومصرياً، لأنها لا تريد إغضاب حلفائها الخليجيين، ولا يُستبعد عن السياسة الأمريكية تفضيلها حالة اللا حسم لصالح أي طرف كان، بما تتيحه لها هذه الحالة من تأثير طويل المدى على بقية اللاعبين.
بعد إيقاف تقدم حكومة الوفاق المدعومة تركياً والتصريحات الأمريكية الداعمة لوقف المعارك، أتى قبل أيام تصريح وزير الخارجية الأمريكي بأن إدارته ما تزال تدرس فرض عقوبات على تركيا بسبب شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية S400. وعلى الرغم من تسويف إدارة ترامب في فرض عقوبات على أنقرة تحت ضغط الديموقراطيين فإن مجرد التلويح بهذه الورقة يزيد من الضغوط على أردوغان، والعلاقة الشخصية الممتازة التي يُقال إنها تربط الأخير بترامب ربما لن تكون فعالة في الأشهر المتبقية حتى انتخابات الرئاسة الأمريكية.
في دلالة قد تكون الأقوى على الفتور بين أنقرة وواشنطن، أُعلن الأسبوع الماضي عن توقيع عقد لصيانة وتطوير وتكرير النفط بين شركة أمريكية والإدارة الذاتية الكردية في منطقة الجزيرة، وقد فُسّر التوقيع ومباركته من قبل المسؤولين كاعتراف أمريكي رسمي بالسلطة الكردية. قبل ذلك كان الطرفان قد اختلفا بصمت بسبب رعاية واشنطن الحوار الكردي-الكردي، وكما هو واضح فإن الإدارة الأمريكية بعد إقرار قانون قيصر صارت أكثر انتباهاً إلى منطقة نفوذها في سوريا، لأنها هي التي تضمن لها قدرة أعلى من الضغط الاقتصادي على بشار وحلفائه، وهناك في إدارة ترامب من يرى أنها أعطت الكثير لأنقرة، أما برنامج الديموقراطيين “إذا فاز بايدن بانتخابات الرئاسة” فهو أقرب إلى الأكراد مما تعلن عنه الإدارة الحالية. لعل مغادرة جيمس جيفري منصبه في نهاية هذا الشهر من الإشارات المهمة، فالمبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا كان يُنظر إليه كصديق لأنقرة ومدافع عن مصالحها في سوريا، وهو الرأي الذي تبناه أيضاً في كتابه مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون.
ما سبق كله قد يعني بالنسبة لموسكو أن أنقرة ليست في أفضل أحوالها، ولن تجد مساندة أمريكية في حال فتج جبهة إدلب الآن. صحيح أن واشنطن لم تقدّم أي دعم سابق فيما يخص مواجهة حلفاء الأسد في إدلب إلا أن موقفها كان هو الأقوى لها بعد التفاهم التركي-الروسي على وقف إطلاق النار، وبدا كأنها ستدعم بشدة بقاء الوضع على ما هو عليه مع تعهدها بتقديم عشرات الملايين من الدولارات كمساعدات إنسانية إضافية لتلك المنطقة، فضلاً عن تقييم الوضع العسكري فيها حيث قام بذلك ميدانياً وفد أمريكي برفقة تركية. بدورها علاقات تركيا الأوروبية أسوأ اليوم مما كانت عليه قبل أشهر وقد شهدت توتراً جديداً بسبب الملف الليبي، وقدرة أنقرة على التهديد بقضية اللاجئين تدنت جداً إذا لم تكن الآن في عتبة الصفر لشراسة إغلاق الحدود الأوروبية بسبب تفشي كورونا، وسياسة حماية الحدود سيكون لها في الظروف الحالية أنصار كثر يضافون إلى أنصارها التقليديين من اليمين الغربي المتطرف.
صحيح أن واشنطن لا تمسك بتفاصيل الشأن السوري، بل هي تخلت طواعية عن بعض مناطق نفوذها، تارة لموسكو في جبهة حوران، وتارة أخرى لأنقرة شرق الفرات، إلا أن هذا لا يلغي كون الكثير مما يحدث في سوريا يأتي معطوفاً على موقف واشنطن، أو على لامبالاتها التي يترجمها آخرون إلى وقائع على الأرض. ربما تكون المواجهة الروسية-التركية في انتظار لحظة اللامبالاة هذه، فالطرفان منخرطان في مواجهتين أخريين، في النزاع الليبي وفي النزاع بين أرمينيا وأذربيجان، وقد يلائم موسكو بشدة فتحُ جبهة هي الأقرب إلى العمق التركي وما تراه أنقرة لصيقاً بأمنها القومي. لقد كان لدى موسكو ذرائع أفضل قبل مدة لنقض التفاهم مع أنقرة حول وقف إطلاق النار، وأهمها تعثر تسيير دوريات مشتركة بين الطرفين قبل معالجة الأمر من قبل الجانب التركي، أي أن قرار المعركة غير مرتبط بتفاصيل ميدانية محلية بقدر ارتباطه بقراءة التغيرات التي تطرأ دولياً.
تشعل واشنطن جبهة إدلب إذا كانت مؤشرات التراجع على صعيد علاقتها بأنقرة صحيحة وصادقة، وبالمثل تستطيع منع اشتعالها من دون أن تتورط بدعم واضح ومكشوف لحليفها التقليدي. لكن، كما حدث مراراً، قد يفضّل الساسة في واشنطن تورط باقي الأطراف في الحرب قبل أن يقولوا كلمتهم.
المصدر: المدن