بدأت في الثامن من شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 2024 مرحلة جديدة في سوريا عنوانها الأساسي انتصار إرادة الحرية وحق الشعب على إرادة الطغاة المدعم بالقمع الوحشي والدموي، وسيدخل المحررون المدن السورية رافعين علم الثورة دليلاً على نهاية عصر الإجرام، وسينتظرهم السوريون ويحتفلون بهم، ولن ينتهي يوم الثامن من كانون الأول قبل أن تمتلئ شوارع سوريا بالناس التي تتنفس هواء الحرية للمرة الأولى من دون خوف من اعتقال أو قتل أو قصف.
سينال الثوار أيضاً محبة واحترام مجتمعات كانت بالأمس القريب خائفة منهم، وترى فيهم مجموعة من المجرمين والإرهابيين، وسيتولد الاحترام والمحبة من السياسة التي نهجوها في التعامل ولغة الخطاب وطريقة إدارة المدن التي حرروها.
يسعى أحمد الشرع قائد عملية التحرير صاحب الشعبية الجارفة في هذه الأيام حسب تصريحاته إلى بناء دولة لجميع السوريين، ويعد بالعدالة والحرية لهم على اختلاف انتماءاتهم ومعتقداتهم ضمن دولة مدنية تعتمد على المؤسسات والقانون. لم يذكر الشرع ولا أي من الشخصيات والكيانات التي قدمت معه أو التي أنشأها حديثاً في أي وقت توضيحاً أكثر عن تلك الدولة المدنية التي يسعى إلى إرسائها سوى ما قاله في أكثر من لقاء بأنها دولة مدنية شرعية.
في المقابل ستبدأ أصوات من المجتمع السوري يبدو أنها تتزايد يومياً بطلبها الواضح بأن تكون تلك الدولة المدنية دولة مواطنة لكل مواطنيها، وعلى الرغم من أن مصطلح العلمانية يبدو مصطلحاً لا يرغب أحد بالنطق به هذه الأيام، لكن بدأت الأصوات أيضاً بالحديث عنها بصراحة أحياناً، وبطريقة غير مباشرة في أكثر الأحيان، وأبرز من تحدث عنها حتى اليوم الزعيم الروحي لطائفة الدروز الهجري، والذي من المرجح أن حديثه رد عما صرح به الشرع في أثناء لقاء وفد السويداء حول عقد اجتماعي مع الطوائف، وعن دولة مركزية قوية ومدنية شرعية، ومع ذلك لم يتحدث الهجري عن دولة مدنية علمانية بشكل صريح رغم أن ما جاء في بيانه لا يتناسب فعلياً إلا مع بناء تلك الدولة المدنية العلمانية.
ذهبت بعض الأصوات في الجدل القائم حالياً حول هوية الدولة السورية بأنه لا يوجد دولة مدنية غير علمانية، لكن بالنظر إلى مصطلح الدولة المدنية والدولة العلمانية نجد أن لهما تاريخ مختلف من حيث النشأة والتطور، إذ يرتبط كل منهما بسياق فكري وسياسي مميز.
سيظهر مفهوم الدولة المدنية لأول مرة في إطار الحديث عن “العقد الاجتماعي”، و سيطرح الفيلسوف البريطاني جون لوك فكرة الدولة المدنية كبديل عن “حالة الطبيعة”، التي تقوم على القوة والعنف، وتعني كياناً يدار بموجب قوانين وضعها البشر، وهي تضمن الحقوق الطبيعية (الحرية، الملكية، الحياة)، ثم سيوسع الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الفكرة من خلال التركيز على العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويؤسس لسلطة مدنية قائمة على إرادة الشعب. مصطلح “الدولة المدنية” سيتطور لاحقاً ليُشير إلى الدولة التي تعتمد على سيادة القانون والمؤسسات المدنية، مع فصل نسبي بين السلطات الدينية والمدنية.
السياق السوري يحتاج لنظام سياسي محايد يمنع أي منافذ للتمييز أو محاولة للتقسيم، يحتاج لدولة علمانية تكون فيها المواطنة هي المرتكز الرئيسي في العلاقة بين المواطن والدولة.
من الدول التي بدأت مدنية بريطانيا في القرن السادس عشر بعد فصل الدولة عن الكنيسة الكاثوليكية وإنشاء الكنيسة الإنكليزية، ورغم حصر السلطة بيد الملك والمؤسسات الحكومية بقي للدين (البروتستانت) دور مركزي في صياغة القوانين والسياسات. كذلك الأمر بالنسبة لفرنسا في عهد الملك لويس الرابع عشر الذي دمج السلطة الدينية مع السياسية ضمن حكم ملكي مدني قوي، ولم يختلف الأمر بالنسبة للولايات المتحدة المبكرة التي تأسست على دستور مدني يحمي الحريات الدينية، ولكن بقي للدين دور مهم في صياغة القوانين والسياسات.
تطورت العلمانية فعلياً على أساس الدولة المدنية مع حركات الإصلاح الأوروبية والتي طالبت بفصل تام بين الدين والدولة. وجاءت بشكل واضح كنتيجة لمخاضات الثورة الفرنسية رداً على الاستبداد الديني في أوروبا عموماً.
قبل سقوط الدولة العثمانية كانت قد توجهت الدول في بقع كثيرة من العالم نحو الدولة العلمانية، في حين كانت الدولة العثمانية في آخر أيامها تتجه بشكل أكبر للدولة المدنية غير العلمانية.
ستظل معظم الدول العربية وبشكل أكثر عمومية وأقل دقة الدول الإسلامية دولاً مدنية غير علمانية، للعب الدين دوراً في صياغة القرارات العامة وسياسات الدولة، ومن الدول التي كانت من الدول المدنية غير العلمانية الدولة السورية، إذ تنص المادة الثالثة على أن دين رئيس الدولة هو الإسلام والفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع، وكذلك ما زالت كثير من الدول حتى اليوم حسب دستورها دولاً مدنية غير علمانية مثل مصر وباكستان وإندونيسيا والمغرب وغيرها.
ليس من الضرورة أن تكون الدولة المدنية دولة ديمقراطية، حتى مع وجود المؤسسات والقوانين، في حال كانت تلك المؤسسات ضعيفة وتلك القوانين غير معمول بها، وهذا ما نراه في معظم الدكتاتوريات العربية، وخاصة في الحالة السورية في فترة النظام الساقط.
يتجه الشرع في طرح في بناء الدولة بإنشاء دولة مدنية غير علمانية تشبه الدولة السورية التي هيمن عليها النظام الساقط، ولكن قد تكون أكثر تحفظاً وأقوى مؤسساتياً. قد تنجح تلك الدولة في محاربة الفساد، وبشكل متوقع بشكل أقل في محاربة المحسوبيات كما يبدو من التعيينات الجديدة للإدارة الحكومية لسوريا في الوقت الحالي، والتي ضمت أكثر من فرد من عائلة الشرع. ولكن إن نجح النظام الساقط بضبط المجتمع السوري بالدم والنار، فهل ستنجح الإدارة الجديدة بضبط المجتمع بالقانون والمؤسسات والنظام الديمقراطي الذي لم يتم ذكره أيضاً حتى الآن؟
في مجتمع متنوع الثقافات والطوائف والقوميات مثل المجتمع السوري خارج من فترة استبداد خانق محمل بمظلوميات تاريخية وضاربة بين مكوناته المختلفة سيحمل بقاء سوريا دولة مدنية غير علمانية في ظل أوضاعها الراهنة تحديات كبيرة ويثير كثيراً من الجدل. وبغض النظر عن نية هيئة تحرير الشام في رغبتهم في دولة مدنية “شرعية” تتكفل الحفاظ على حقوق جميع المواطنين ومدى صدقيتها، فإن دولة مدنية غير علمانية، وخاصة إن كان هناك تداول للسلطة قد تأتي بحكومات أكثر تطرفاً، وتؤدي إلى وضع تمييزي ضد المواطنين غير المسلمين السنة، وتآكل في المساواة بين مجموع المواطنين، وتغول أكبر باسم الدين على الدولة، وعرقلة للتحديث بحجة مخالفة قوانين التحديث للشريعة (بغض النظر إن كانت تلك القوانين تخالف الشريعة فعلاً أم لا)، وقد تؤدي في نهاية المطاف مع حملات تدعم التمييز والإقصاء لدكتاتورية متخفية أو واضحة.
من الدول المدنية غير الدينية على سبيل المثال إسرائيل، والتي تضع كل قوانينها العنصرية التمييزية ضد الفلسطينيين بناء على هويتها المختلطة، وتحرم الفلسطينيين من أدنى حقوقهم، وهو حق الحياة، كما تحرم فلسطينيين آخرين يحملون الجواز الإسرائيلي من كثير من حقوقهم الاقتصادية والسياسية والثقافية بناء على منظومة قانونية تؤكد على مدنيتها دون علمانيتها، ولم يمنعها نظام ديمقراطي وادعاءات بإعلائها من حقوق الإنسان من ارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين أو تفريط بأرواح الأسرى الإسرائيليين.
السياق السوري يحتاج لنظام سياسي محايد يمنع أي منافذ للتمييز أو محاولة للتقسيم، يحتاج لدولة علمانية تكون فيها المواطنة هي المرتكز الرئيسي في العلاقة بين المواطن والدولة.
المصدر: تلفزيون سوريا