سورية وتلازم المسارات الثلاثة

دلال البزري

تحوّلت سورية في أسبوع واحد من دولة الهمّ والغمّ إلى مكان الفرح العارم. حصل ما دفع من أجله السوريون أعمارهم وفلذات أكبادهم؛ سقط بشّار الأسد وهرب. ونزل السوريون المبتهجون إلى الشارع بعلم الثورة المخضرّ، بالزغاريد والغناء، مصدقين، وغير مصدقين أنهم غير خائفين. حطموا التماثيل، فتحوا أبواب السجون “العريقة”، والقصور والمكاتب الضخمة، التقى القادمون مع الفصائل بأهلهم، فرحوا، بكوا، جثوا، ارتجفوا خوفاً من أن يكونوا في حلم. الفرحة لا تسع السوريين اليوم. هنيئا لهم بعد كل هذا الظلام المديد.

ولكن على مقربة منهم، شعبان ينزفان دماً وخراباً. مصيرهما خضع أكثر من أي وقت مضى لتلك المقولة الشهيرة: تلازم المسارات. وقت الوصاية السورية، كنّا نقول رغماً عنا، بـ”ضرورة تلازم المسارين” اللبناني والسوري، مبْتلِعين ريقنا، ثلاثة عقود، خوفاً وقرفاً من تحكّم المخابرات السورية برقابنا.

الأمر يختلف اليوم. ويبدو وكأن ثمة ثلاثة مسارات متلازمة حقا، لا توجسا. كيف؟ المسار الفلسطيني: لولا “طوفان الأقصى” بقيادة “حماس”، لما وجد حزب الله، وبعد يوم، أن المطلوب منه “المشاركة” في هذه الحرب، في ما أسماها “المشاغلة”، وهو المسار اللبناني. والاثنان، في غزّة وفي لبنان، خاضا مع إسرائيل معركة خاسرة، مُفجعة، أفضت إلى تقهقرهما، بتوقيت متقارب. والثمن الذي دفعه الاثنان: الأول الفلسطيني، بما لا يمكن اعتباره أقل من نكبة. والثاني بما لا يختلف عنها. نكبة لبنانية، بكل ما للكلمة من معنى. فكانت هزيمة الاثنين مدوّية. ومعها هزيمة داعمتها إيران، صاحبة اختراع حزب الله منذ 40 عاماً، ومسْعفة “حماس” منذ أقل منها من السنوات، كمطيّة من مطاياها.

لولا النكبة المزدوجة التي أصابت حزب الله وحماس… لما انتقلت سورية من الغياب والقهر والفقر إلى مصدر ذاك الفرح العارم

إذن، إيران حامية الأسد، بمليشياتها وخبرائها، وقد أصابتها في سورية نفسها ضربات إسرائيلية منتظمة، لم تعد كما كانت قبل “طوفان الأقصى”. هذه المليشيات و”درّتها” حزب الله كان لها الدور الأعظم في حماية الأسد. بالتعاون مع الحرس الثوري قتلت وطردت وحرقت وعذّبت… عكس حماس، التي رفضت من الأول معاونة بشّار على السوريين. وكان ثمن رفضها طرد ممثليها من دمشق في أولى سنوات الثورة.

والمهم في ذلك كله، أنه لولا الضعف الذي أصاب إيران، بألعاب نارية خاضتها مع إسرائيل ولم تسترسل بها، حفاظا على كيانها… ولولا النكبة المزدوجة التي أصابت حزب الله وحماس… لما انتقلت سورية من الغياب والقهر والفقر إلى مصدر ذاك الفرح العارم، الذي يتناقض جذرياً مع مشاهد المجازر المستمرّة بحق أهل غزّة على أيدي الإسرائيليين، ومع مشاهد الجنوبيين اللبنانيين أمام خراب ديارهم، ومقتل أحبابهم بالجملة، وخرق إسرائيل المستمرّ لوقف إطلاق النار.

العلاقات اللبنانية – السورية، لم تَعُد مرهونة بالعلاقة مع حزب الله، الحزب الحاكم اللبناني، نظير الحكم السوري

نفرح ونحزن، نتشاءل. نفاجأ بالمنطق التاريخي للمشرق في بقعة تضم ثلاثة شعوب؛ اللبناني الفلسطيني والسوري. نقول إن هذا التاريخ تجاوز جنونه السابق، من أيام استقلاله الأول وحتى قبض حافظ الأسد على السلطة كاملة، ليس بفضل انتصارٍ ما على الأعداء، إنما بقوة هزيمته عام 1967 أمام الجيش الإسرائيلي، الذي أدّى إلى احتلال الجولان.

تلازم المسارات الثلاثة، السوري، اللبناني، الفلسطيني، لا يعني بالضرورة الانسجام والوتيرة أو النبرة الواحدة. أي: الأول، على درجة مختلفة عن الاثنين الآخرين. والعلاقة نفسها بين الثاني والثالث، أو بين الثلاثة مجتمعة. في التاريخ الحديث للمشرق هذا، شواهد لا تُحصى على التناقض والتنافر الحاكم للعلاقة الحميمة بين مساراتها.

في سجون سورية الآن خرج من الفلسطينيين ما قد يوازي اللبنانيين. كلما دخلت الفصائل إلى مدينة كانت السجون أول المباني التي تفرغها من نزلائها. وهؤلاء بعشرات الآلاف. عدد اللبنانيين من بينهم لم يتثبّت. كل يوم تبرز لائحة جديدة يدقق بها المهتمون. أولهم جرى التعرّف عليه، علي حسن العلي، أدخل إليه منذ 40 عاما، أي قبل تصعيد بشّار الحكم، ولسبب مخابراتي ما. كان عمره 18 عاما ويبلغ الآن 56. سنسمع قريبا الكثير من القصص المشابهة.

يبقى القلق واجباً على سورية رغم الفرحة العارمة، أو بالأحرى، تزاوج بينهما. فرحة الحرية، والقلق من جدول أعمالها المقبل المليء بالعقد المتشابكة

السجناء اللبنانيون لدى الأسد، قضية وطنية ماتت وعاشت عدّة مرات. في الزمن القريب، “المسؤولون” اللبنانيون (إياهم)، كانوا يفعلون كل شيء لمنع التحقيق في وجود لبنانيين في هذه السجون. يقودهم بذلك حزب الله الحاكم. وكلما اقترب واحدهم من هذا الحزب، كانت حماسة النكران تفيض عنه. أبرز هؤلاء ميشال عون. زار سورية عام 2008، التقى الأسد. فتأكد من أن لا سجناء لبنانيين لديه. متى كان هذا اليوم؟ بعيد اتفاقه مع حسن نصر الله على “تفاهم مار ميخائيل”، القاضي بحماية سلاحه، مقابل صعوده هو إلى رئاسة الجمهورية. فحصلت حرب تموز و”انتصر” الحزب، وبقيت السجون السورية مليئة باللبنانيين المنْسيين. ولكنهم اليوم ينبعثون، يعودون الى المشهد، بفضل سقوط الأسد، وجهود “لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان” ورئيستها وداد حلواني. وهي التي جرّبت هذه “الدولة” الممسوكة من حزب الله، سيكون عليها الاعتماد على سورية الجديدة لكي تكشف عمن قضوا عقوداً في هذه السجون.

يبقى القلق واجباً على سورية رغم الفرحة العارمة، أو بالأحرى، تزاوج بينهما. فرحة الحرية، والقلق من جدول أعمالها المقبل المليء بالعقد المتشابكة: شكل الحكم القادم، الحرّيات، الإسلام السياسي، دور تركيا، الأقليات الدينية والإثنية المختلفة، الأراضي المحتلة، وطبعاً، العلاقة مع لبنان.

وهذه الأخيرة، العلاقات اللبنانية – السورية، لم تَعُد مرهونة بالعلاقة مع حزب الله، الحزب الحاكم اللبناني، نظير الحكم السوري. أو بكلام أوضح: طالما أن بشّار الأسد رحل عن سورية، ومعه حزب الله من لبنان، فهل نبقي على الطاقم نفسه من “المسؤولين” الذين يدينون لهذا الحزب بمواقعهم، أم أنهم سيتلون فعل الندامة كما فعل بشّار الجعفري، سفير سورية في موسكو، معتقدين أنهم بذلك يحافظون على “مسؤولياتهم”، أي مواقعهم في السلطة؟ كما بدأ بعضهم يفعل…؟

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى