ثرت في الآونة الأخيرة وعلى امتداد الوطن العربي الجوائز الخاصة بالترجمة، وكذلك المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، التي تعنى بالترجمة من اللغات الأجنبية المختلفة إلى اللغة العربية. وكلها يحدوها أمل في لعب الدور الذي لعبته يوما «دار الحكمة» التي أنشأها الخليفة المأمون في بغداد، والتي ضمت علماء أجلاء ترجموا ونقلوا إلى العربية كتب الفلسفة والطب والفلك والهندسة، وغيرها من العلوم التطبيقية والنظرية… فكانت منارة للإنسانية، وقامت عليها الحضارة الأوروبية في ما بعد، وما زالت ترجماتها إلى يومنا هذا، هي المُعَوَّل عليها، من حيث الدِّقة في النقل وجمال الأسلوب، والاستخدام للمصطلحات العلمية التي اجترحوها ونحتوها، ولم تكن تعرفها اللغة العربية من قبل.
جميل هذا الذي يحدث، لكن فات السادة أصحاب هذه المراكز أن الزمن قد تغير، وأن ما من شيء يعود إلى الوراء. وهذه الكلمات ليست من باب تثبيط الهمم في شيء، لأن المعوقات أمام الكتاب المترجم اليوم كثيرة، ولا تسهل الأمور أمام مراكز الترجمة الجديدة، بل تزيد من أعبائها ومسؤولياتها، مما يقودها إلى الفشل الذريع، ولا يبقى على قيد الحياة منها، إلا تلك المراكز المدعومة من الأنظمة والحكومات، التي غالبا ما تكون ترجماتها متقيدة برغبات الأنظمة الداعمة لها، ولا تهم القارئ بشكل عام.
لقد كان الكتاب المترجم والمؤلف ينتقل إلى أرجاء البلاد عبر قوافل الحجيج والتجارة، التي كانت تحمل بين أثقالها مئات الكتب، التي تمَّت التوصية عليها مُسْبقًا، أو كان بعضهم ممن له خبرة بالكتب العلمية ومعرفة بها، يقوم لدى مرور قافلته في إحدى المدن، بالدخول إلى سوق الوراقين فيها، باحثا بين رفوفها عن الجديد والممتع، ليحمل معه نسخا منها، بينما يكون الحمام الزاجل أحيانا قد سبقه، وحمل بعض الرسائل العلمية المؤلفة أو المترجمة، التي كانت تنسخ بخط صغير جدا، خصيصا ليطير بها من عواصم العلم بغداد ودمشق والقاهرة إلى الأندلس وبلاد المغرب وأقاصي آسيا الوسطى، وبالعكس.. طبعا كان يتم كل ذلك دون أن تُعْرض الكتب والرسائل على لوائح الممنوعات المتعلقة بالكتب نفسها، أو بالمؤلفين المبدعين، ولا يعبث بها مقص الرقيب اللعين، عدو العلم والمعرفة والثقافة..
الترجمة اليوم
وللأسف فإن الترجمات التي نراها على رفوف المكتبات اليوم، فإن معظم من يقوم بها أشخاص غير متخصصين، بعضهم هواة، ترجموها لملء فراغهم، أو لكي يروا أسماءهم على أغلفة الكتب، وآخرون طلاب تخرجوا من أقسام اللغات المختلفة، غالبا ما تكون خبراتهم اللغوية وثقافتهم جد محدودة، أو قام بها أساتذة معروفون، لكنهم في الواقع قسموا الكتاب الواحد بين مجموعة من طلابهم، لأنه لا وقت لديهم، لكنهم يتكرمون في ما بعد بتصحيح بعض أخطائه اللغوية، ووضع أسمائهم على غلافه.. تلجأ إليهم بعض المراكز أو دور النشر لترجمة بعض الكتب، لقاء مبالغ زهيدة لا تمت بصلة لما تدفعه دور النشر الأجنبية للمترجم، الذي لا يتمتع في بلادنا بأي حقوق وضمانات، كالتي يحصل عليها المترجم في أوروبا. ولهذا نلاحظ أن هذه الترجمات غالبا ما تكون مليئة بالأخطاء اللغوية والإملائية والعلمية من حيث المصطلحات المستخدمة، بالإضافة إلى ضعف في الصياغة. وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أن اعتماد دور النشر في بلادنا على المبدع مترجما كان أو مؤلفا في تصحيح كتابه، كمن يعتمد على الأم في وصف أو نقد ابنها. إن نجاح عملية الترجمة، لا بد لها من مترجم متخصص، له خبرة ومعرفة جيدة في اللغتين المترجم منها والمترجم إليها. بالإضافة إلى اطلاع وثقافة عامة واسعة، والتمتع بأسلوب أدبي راق، وإلا كانت ترجماته عبارة عن صَفْصَفَة لكلمات ومصطلحات بجانب بعضها. وهذا يذكرني بأبي زيد حنين بن إسحاق العبادي الفيلسوف المنطقي والطبيب الفلكي البارع، الذي عُرضت إحدى ترجماته ودون أن يُكتب اسمه عليها على شيخ الأطباء في بغداد وعالمها يوحنا بن ماسويه، فأعجبته، وافتتن بقوة عبارتها وحبكتها وأسلوبها، فقال فيها مادحا: «ليس هذا إلا إخراج مؤيد بروح القدس».
الترجمة الإبداعية وبرامج الترجمة الآلية، كانت تتم بمهنية عالية، وبأياد متخصصة واسعة الاطلاع، وكان القارئ يشعر بالعلاقة التي نشأت بين المترجم والكتاب المترجم، فوصله الكتاب المُترجم مُحمَّلا بدفقٍ من المشاعر، وصيغ بعبارات مُنسقة مُنتقاة بدقةٍ ورويَّة، وسُبكت جمله بإبداع متناه، وكأنها كتابة جديدة، ما أضفى على النصوص المترجمة بعدا آخر. أما اليوم وللأسف فمعظم المترجمين يقومون باللجوء إلى العم «غوغل» وغيره من برامج الترجمة المتخصصة، ومن ثم يتركون أقلامهم تقوم ببعض التصويبات، فتخرج الكتب من بين أيديهم في غالب الأحيان بعبارات جافة، من الممكن تسميتها بـ«ترجمات إسْمَنتِيّة» لا روح فيها، متناسين أن عملية الترجمة ليست مجرد نقل من لغة إلى لغة، بل هي أعقد وأعمق من ذلك بكثير. صحيح أن تلك الترجمات تكون صحيحة المدلول، ومصطلحاتها ذات مصداقية علمية، إلا أنه غاب عنها المترجم بروحه وأسلوبه. والقارئ الحاذق، سريعا ما يكتشف ذلك من خلال أمور كثيرة، كأماكن وضع النقاط والفواصل وأسلوب استخدام أسماء الإشارة والأسماء الموصولة، وأيضا من خلال التقديم والتأخير ومواضع الصفات في الجملة.. ما يجعل من معظم الكتب التي تُرْجمت طيلة القرن الماضي كتبا حية تحتفظ بألقها، وتعاد طباعتها، ويتم تحميلها على الشبكة العنكبوتية حتى يومنا هذا، وأنها ما زالت تشكل مرجعا للباحثين، بينما يحدث العكس بالنسبة للكتب المترجمة منذ ظهور الإنترنت. وأعتقد جازما أن الترجمات الإلكترونية، أضرت بنوعية الترجمة والكتب المترجمة، ما أثر على تراجع سوقها.
لمن نترجم اليوم؟
لقد تغير الزمان سريعا، وتغيرت معه وسائل انتقال الثقافة والمعارف، وكذلك المستوى العلمي لأفراد المجتمع، وأصبح معظم المُتخصصين في المجالات العلمية التطبيقية المختلفة يجيدون أكثر من لغة أجنبية، ويسافرون إلى الدول الأوروبية بشكل دائم ويحملون معهم الجديد من الكتب التي تهمهم، أو يقومون بتحميلها من الإنترنت، ولا يلقون بالا للترجمات التي تتم في بلادنا، لأنهم يفضلون قراءتها في اللغة الأساس التي كتبت بها.
إن كل الإحصائيات والدراسات تؤكد أننا غدونا أمة لا تقرأ، وأن الكتاب غدا من ألد أعداء شبابنا. وهي معضلة نشأت بسبب أنظمتنا التربوية والتعليمية، التي لم تأخذ في الحسبان موضوع تعويد الطلاب على مهارة القراءة وتبيان أهميتها، وفي شتى المراحل التعليمية، ابتداء من مرحلة الروضة إلى الثانوي… فالطفل في الدول الغربية وهو في عمر الثلاث سنوات، يطلب من أهله ويلح عليهم لكي يشتروا له كتابا مصورا، يحمله الصغير معه لمدرسته بفخر، متباهيا به أمام رفاقه، ويقف في فصله الدراسي ويحكي لزملائه عن الصور التي في كتابه، مؤلفا حولها حكاية، مما يفجر مواهبه، ويُسْهم في نمو ملكة الخيال لديه… وفي البيت يطلب من والديه أن يقرآ له كتابا عبارة عن صور لحيوانات وفاكهة وأزهار وبعض الرسوم الأخرى.. فأين نحن من كل ذلك؟ إن أحدنا ليشعر بالأسى والحزن وهو يراقب أرقام مبيعات الكتب الأجنبية على موقع أمازون، بينما الكتب العربية لا يباع منها إلا النزر القليل، ويشعر بغصة وهو يطالع أن مترجما لكتاب في فرنسا مثلا، باع من أحد كتبه المترجمة أكثر من 8000 نسخة، وأن دار النشر التي طبعت كتابه، نظمت له أكثر من عشرين حفل توقيع، كان أحدها في بروكسل في بلجيكا، فالذي تقوم به دور النشر الأوروبية من خدمات للكتاب والكاتب بصورة عامة، لا يوجد في بلادنا عشره.. أو حتى ريحه! ومن هنا تأتي مسؤولية دور النشر في بلادنا، التي أصبح لزاما عليها النزول من أبراجها العاجية، وبذل مجهودات دعائية للكتب التي تنشرها خارج إطار الشللية، وتساعد على تنشيط حركة بيع الكتاب، وأن يُشرِّعوا أبوابهم للأقلام الجديدة والمترجمين القادمين من خارج السرب..
وأخيرا وليس آخرا، على المسؤولين عن الكتاب في بلادنا، إقامة معارض خاصة بالكتاب المترجم، أو تخصيص أقسام وزوايا للكتاب المترجم في معارض الكتاب المختلفة، يذهب إليها القارئ مباشرة، فتكون مقصودة لذاتها، والأهم من ذلك، زيادة البرامج الثقافية على الفضائيات ووسائل الإعلام العربية المرئية والمسموعة، وتخصيص برامج للكتب المترجمة. فالساعة، أو نصف الساعة الأسبوعية التي يبثونها حاليا، لا تؤدي دورا حيويا ذا فائدة، بل هي من باب رفع العتب.
كاتب من لبنان
سؤال محق : لمن نترجم؟ هل يمكن أن يحدونا الأمل في لعب الترجمة الدور الذي لعبته يوما «دار الحكمة» التي أنشأها الخليفة المأمون في بغداد؟ ضمن العزوف عن القراءة ونشر العديد من الترجمات من غير المختصين وظهور الترجمات الآلية افقت الكتب المترجمة دورها،