مها حسن روائية سورية متميزة. قرأت لها رواية: مترو حلب والروايات وحبل سري وعمت صباحا ايها الحرب، وكتبت عنهم.
رواية حي الدهشة لمها حسن تتحدث بلسان الراوية متنقلة بين ريف حلب وحلب وتدور أحداثها في أعوام ٢٠٠٥ و ٢٠١٠. بشكل اساسي. ثم تتابع ختم سردها الروائي بالتغيرات التي حصلت في حياة شخصيات الرواية بعد أحداث الثورة السورية ومغادرة أغلبهم الى خارج سورية؛ تركيا وبريطانيا في سنوات تصل إلى عام ٢٠١٥م حيث تنتهي أحداث الرواية.
نحن هنا في هذه القراءة سنعتمد استعادة الحدث الروائي بعد أن أصبح مكتملا باكتمال قراءتنا لها.
تبدأ الرواية من خلال تتبع شخصية الدكتورة هند الأساسية في الرواية. مع التأكيد أن كل شخصيات الرواية اساسية ايضا. حيث تتبع حياة الجميع في مسارات متداخلة أو بالرجوع الى الخلف في الماضي ولو الى عقود. لذلك نستطيع القول اننا امام رواية بطلها حي الهلك في حلب. وداخله أهل الحي نساؤه ورجاله. وخاصة نساؤه. حيث سنكتشف أن النساء هنّ الأكثر حضورا من الرجال في الحي وحياته ومتغيراته وانهن الفاعلات وصانعات الأحداث.
الدكتورة هند ابنة الريف الحلبي ابنة عائلة ثرية لدى عائلتها أملاك كثيرة. وحيدة أهلها. والدها يعيش في مزرعته. ووالدتها تعيش في بريطانيا. يظهران شبه منفصلين واقعيا وليس بشكل رسمي. عاشت هند طفولتها مع العائلة التي تخدم والدها في المزرعة، كان لدى العائلة ابن صغير من عمر هند اصبح صديق طفولتها. كبروا سوية. لكنه توفي وهي مازالت طفلة. كبرت وهي تحن الى طفولتها وتتفهم اجواء الفقر والنقص في حياة المحيطين بها. كانت ممتلئة نفسيا بأحاسيس القرب من خيول والدها. ومراقبة حملهنّ وولادتهم. وبذلك زرعت في نفسها محبة مهنة التوليد. لذلك عندما كبرت قررت دراسة الطب واختارت اختصاص النسائية. حيث ذهبت إلى بريطانيا وتخصصت هناك وحصلت على الجنسية البريطانية.
تزوجت هند زواجها الأول من شاب من حلب ولانها لم تحمل بعد سنوات حصل صراع بينها وزوجها كذلك مع عائلته. وتطلقت منه. وتزوجت في بريطانيا بشاب بريطاني ولم تحمل ايضا. وتخلت عنه كذلك. كان حنينها الى الامومة والى الإحساس بوجود جنين في رحمها وان تكون اما تحتضنه بعد ذلك دفعها لزواجاتها. لكن لم ترزق بالطفل الذي تريد…
عندما عادت هند الى حلب قررت أن تفتح عيادتها النسائية في حي الهلك الشعبي الفقير. رغم امكانياتها ان تكون عيادتها في أحياء حلب الثريّة. كانت مازالت تحن الى طفولتها والعائلة التي احتضنتها واحبت حياتهم وقررت ان تقدم خدماتها الطبية لمن هم مثلهم.
عندما فتحت هند عيادتها في حي الهلك. أصبحت ظاهرة متميزة. حيث كانت الولادات تعتمد على الداية التي تولد من خلال خبرات مكتسبة ودون دراسة علمية..
حي الهلك مجتمع شبه مغلق على نفسه. فيه الجزار والحداد واغلب المهن اليدوية. تحكمه أعراف وتقاليد ملزمة. لقد تبين أن النساء في الحي هنّ المتحكمات في شؤون الاسرة. وان الصبايا المقبلات على الزواج يخططن ليحصلن على من يردن من الرجال بكل الوسائل. كل الوسائل مباحة. كما أن الصراع الصامت بين الأم الحماة وزوجة الابن الكنّة حاضر ظاهرا أو مستترا. كما أن كل فتاة مصيرها الزواج ومن سن مبكرة. والذي يقرر ذلك أمها في اغلب الأحيان..
جاءت هند لهذه الاجواء لفت نظرها هذا التعامل مع القضايا النسائية بهذه الطريقة. بدأت تدخل عالم الأسر والعائلات وتقدم الوعي وتعالج كل محتاج. وغالبا ما تعالج مجانا. وتساعد في حل مشاكل الحمل والانجاب. وبذلك وجدت من يحبها ومن يكرهها. وسرعان ما لفتت نظر قبضاي الحارة الذي تبناها واعتبرها بمثابة أخته. عائلته مكونة منه واخواته الثلاثة المتزوجات وزوجته التي هي ابنة خالته وأولاده طفل وطفلة. يعمل حدادا.
تأقلمت هند مع أجواء الحارة تبنتها اسرة القبضاي واصبحت جزء من حياتهم اليومية خاصة بعدما انقذت والدته من ازمة قلبية وتابعت علاجها.
لم يكن يعجب زوجة القبضاي هذا الاهتمام والحضور لهند الطبيبة في بيت اهل زوجها واهتمامه بها. خافت ان تخطفه منها ومن أولادها. وبدأت تعاملها بنفور وتسيء لها. لكن حماية القبضاي لها منعت أي تجاوز للحدود مع هند الطبيبة…
لكل فتاة وامرأة في الحارة حكاية ممتدة. بدء من حلم و مطالب وأفكار مسبقة عن نفسها و كيفية الوصول لهذه المطالب. كما ان الرجال لهم عالمهم الظاهر النقي المحترم للأصول. ولهم لعبهم بالسر وعلاقاتهم المنفلتة مع بعض الفتيات او النساء حسب واقع حال كل منهم وما يحب . بعض الفتيات يرين أن الرجل ينجذب للمرأة وعندما يأخذ منها حاجته الجسدية يتركها. لذلك كن يعتمدن على الجذب والابتعاد. ويقدمن بعض المغريات كالقبل والملامسات. لجذب الرجال اليهن. وهذا لا يلغي أن يكون الرجل متزوجا وان تكون الفتاة متزوجة او مخطوبة. لكل غرائزه التي يشبعها بطريقة ما.
كل ذلك حاضر بشكل سري ولكنه سرعان ما يظهر ويقلب حياة هؤلاء الناس رأسا على عقب وقد يؤدي لجرائم قتل وقد يؤدي للسجن المديد…
هند تتأقلم مع أجواء الحي وترى ذاتها فيه. وترى بالقبضاي ذلك الحاضن الذي احست مع مضي الزمن بأنها تحبه. وتحب ان يكون زوجها وان تكون بذرته في رحمها لتحقيق حلم الامومة الذي تصبو إليه منذ طفولتها…
لقد اقتربت من عائلته كثيرا واصبحت تدرّس أولاده وزرعت حلم دراسة الطب في عقل ابنته. رغم تخطيط زوجته إن تزوج ابنتها ممن تراه مناسبا باقرب وقت…
لكن الانسان مجبول على الغرائز وامكانية الخطأ حاضرة. ستلعب احدى الفتيات على القبضاي وتجذبه اليها ويحاول التقرب منها وتشاهده هند وتصدم وتنسحب من حياتهم ومن الحي. وتتطور حكاية الفتاة والقبضاي ويحضر خطيبها ويقتل القبضاي ويدخل السجن. وتهرب الفتاة مع صبي القبضاي الذي يعمل في دكانه إلى لبنان ويستقر معها هناك. ذلك الشاب الذي قتل والده سابقا لكونه تسبب بموت أمه لأن والده كان يحب فتاة ويريد الزواج منها. كذلك ينتقم للطبيبة هند من القبضاي بالاتفاق مع الفتاة التي هربت معه، عبر الوشاية الى خطيب الفتاة التي تحرش بها القبضاي تسبب بقتله. والحياة مستمرة مع كثير من احتمالات الأحداث التي يعيشونها في المستقبل…
كان ذلك في عام ٢٠١٠م. وتعود هند بعد مضي سنة الى الحي لتحمي بنت القبضاي من إصرار أمها على تزويجها. وبمساعدة أخيها الذي أصبح شابا وله كلمته. ويتزامن ذلك مع أحداث الثورة السورية. واعتماد النظام على العنف الوحشي بحق الشعب السوري. الذي وجد الحل بأن يهاجر الى خارج سورية. وهكذا هاجرت عائلة القبضاي امه واخواته وازواجهم واولادهم وابنة القبضاي إلى تركيا. اما زوجة القبضاي فقد تزوجت احد اثرياء حلب ونسيت ماضيها واولادها وكأنهم لم يكونوا…
من تركيا ستصطحب هند الفتاة ابنة القبضاي التي كبرت وتود دراسة الطب الى بريطانيا كما وعدتها. وسجلتها هناك وعاشت هي معها هناك لتتابع دراستها…
تغيرت أحوال سورية كلها. حلب وغير حلب الكثير من السوريين أصبحوا لاجئين داخل سورية وخارجها. كانت هند الطبيبة تحضر تباعا الى مخيمات اللجوء لتقدم خدماتها الطبية.
أما الطفلة التي كبرت وأصبحت طبيبة فقد أعادت توثيق كل الأحداث التي سمعت عنها و عاشتها وكتبتها في روايتها حي الدهشة التي بين أيدينا…
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
اننا امام رواية نسوية بامتياز. حيث يغلب على عالمها وأحداثها وشخوصها نساء يصنعن مصائرهن ومصائر المحيطين بهنّ.
الرواية لا تسير بطريقة خطية لترصد حياة شخصية أو أكثر في سردها. بل تعتمد طريقة الخيوط الشبكية المتداخلة وتتحدث عن حياة كل الشخصيات وتعود بنا احيانا لعقود. كل شخصيات الرواية ابطال وكلهم حاضرة حياتهم تحت نظرنا كقراء ومتابعين.
سنكتشف مجددا أن الإنسان بعضه خير وبعضه شر. فيه العدالة والشهامة والغريزة المهيمنة والحسد والغيرة والغيرية والتهور والتروي كلها حاضرة في ذوات البشر تقود حياتهم بشكل أو آخر، تصنع ما هو كائن كل الوقت…
مرت الرواية بشكل عابر بين حياة ابطالها والثورة التي حدثت. حيث افرج النظام عن السجناء ومنهم قاتل القبضاي ليشكل كتيبة مقاتلة في مواجهة النظام ؟!!.
مع ذلك أرادت الكاتبة أن لا تبعد ذهننا كقراء عن واقع حياة الناس في عمق المجتمع ليس بالمعنى الإنساني فقط حيث نعايش حقيقتهم على كل المستويات. ونفهم عندها لماذا يعيش الناس ما يعيشونه بل في كل المجالات …
فمع كل ما يظهر من عيش أهل الحي في حلقة مغلقة على كل المستويات. لكنهم كلهم محكومون بحاجتهم الانسانية لتحقيق اعتبارهم وآمالهم و أنهم مسكونون بـ طموحهم لحياة أفضل سواء بطرق سوية او خاطئة. لأنهم محكومون بخلفيات ذهنية مجتمعية متخلّفة تعيد إنتاج القهر والظلم والعدوانية في ذات الناس وفي سلوكياتهم. فهم بحاجة لثورة في الوعي إضافة لثورة تحسين شروط الحياة وتحقيق العدالة والكرامة الانسانية.
نعم نحن أمام احساس بعمق الدهشة من خلال الدخول عميقا في حياة حي نموذجي في مدينة ما في سورية التي نفتقدها كل الوقت…
القراءة وافية ومتكاملة وأظهرت أهم المفاصل في الرواية.. التعقيب جميل ومتابع للقراءة.. فقط غاب الجانب الفني الذي لا أظن أن مها هويان الحسن تبخسه حقه…
عافاك الله ووفقك صديقي الجميل
رواية “حي الدهشة” للروائية السورية “مها حسن” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتنقل أحداثها ببلدات سورية بين عام 2005 – 2010 ، حيث يغلب على عالمها وأحداثها وشخوصها نساء يصنعن مصائرهن ومصائر المحيطين بهنّ ، لتعتبر رواية نسوية بامتياز.