قراءة في رواية: بين قلبين

أحمد العربي

عن دار موزاييك للدراسات والنشر صدرت رواية بين قلبين للكاتبة كمالا قاسم العتمة. وهي العمل الأدبي الأول الذي اقرأه لها.

تعتمد رواية بين قلبين السرد على لسان الراوي، وبطريقة الخطف خلفا. حيث تبدأ من لحظة وفاة المعمّر أبو هاشم الوجه المعروف في مدينة الصنمين في حوران. عن عمر يناهز التسعين عاما. يحضر الكثير من أهل بلدته جنازته ومنهم ابنه الأكبر هاشم الذي لم يكن يتقبل وفاة والده. من شدة تعلقه به واحساسه بمرارة فقدانه…

يعود هاشم في ذاكرته ليتذكر حياة والده وعائلته في الصنمين منذ عشرات السنين حيث كان يعيش والده أبو هاشم ويعمل في الزراعة والتجارة والعمار حيث يبني البيوت الحجرية المكسية بالطين. كان له حضوره ووزنه الاجتماعي بين أهل بلدته وفي حوران عموما.

ابو هاشم تزوج أم هاشم زوجة جديدة بعدما ماتت زوجته السابقة وأولاده منها دون معرفة لماذا وكيف ؟. وأنجبت له زوجته هاشم وأخوه آخرين، هاشم الذي سيكبر ويدخل المدرسة التي كان قد عمّرها والده في البلدة. كان أبو هاشم حريص جدا على تعليم هاشم وأن يكون له مستقبل افضل.

هاشم طفل متميز ومتفوق ومحبوب من أهله ومحيطه الاجتماعي. استمر ينجح بتفوق في السنوات الأربع المتتالية في المدرسة الابتدائية في الصنمين.

 كانت سورية في ذلك الوقت تحت الاحتلال الفرنسي. وكان عمل أبو هاشم التجاري بين سوريا والأردن واحيانا العراق. وفي حقيقة الامر انه كان يساعد الثوار السوريين ضد الفرنسيين حيث كان يهرب لهم السلاح عبر أجولة التبن التي كان يحضرها إلى الصنمين. لم يستطع الفرنسيين ان يكشفوا ذلك رغم مداهمتهم بيته وتفتيشه كان يخفي البواريد في التبان حيث يجمع التبن لإطعام الحيوانات التي يربيها.

عندما نجح هاشم في الصف الرابع كان لا بد أن يكمل دراسته لينجح في الصف الخامس ويحصل على شهادة المرحلة الابتدائية والتي يستطيع أن يعمل ويوظف كونه حاصلا عليها. لم يقبل المختار بتوسعة مدرسة البلدة لتضم الصف الخامس. لانه يرى ان لا حاجة لمزيد من تعليم الأولاد في البلدة. فقد استطاعوا القراءة والكتابة . فهم سيعملون بالزراعة ومع ذويهم. أما أبو هاشم فلم يقبل بعدم اكمال تعليم ابنه هاشم رغم صغر سنه. لذلك ذهب به الى بلدة مدرسة غباغب القريبة من الصنمين واسكنه عند اصدقاء له وادخله المدرسة. درس هاشم في غباغب ونجح بتفوق وعاد الى الصنمين.

كانت تغيرات حياتية كثيرة حصلت في حياة أبو هاشم وعائلته. فقد اختلف اخوته مع جيرانهم على تحديد الأرض الزراعية بينهم. وحصل شجار ادى قتل واحد من جيرانهم بيد اخيه. ودخل أبو هاشم في الصلح. وسجن اخوته لثلاث سنوات. وهو اُبعد عن البلدة لثلاث سنوات ايضا. واستطاع أن يحمي عائلته وإخوته من الثأر الذي يفتح طريق القتل المتبادل دون نهاية.

أصرّ هاشم على متابعة تعليمه ولذلك كان لا بد أن يذهب الى الشام “دمشق” لمتابعة التعليم في مدارسها. كان صغيرا على العيش بمفرده. فأخذه والده وأودعه عند أصدقاء لهم. واستفاد من علاقات اخ ابو هاشم مع بعض الدمشقيين. لقد ظهرت ارحية وكرم والتزام واستعداد للقيام بالواجب تجاه هاشم وكأنه أحد أبناء تلك الأسر الكثيرة التي انتقل هاشم للعيش في بيوتها ومع أهلها. وكأنه واحد من أولادهم الكثيرين.

ابو هاشم يؤمّن مصروف ولده الشهري ويعطيه لرب الأسرة التي يعيش ابنه عندهم. وكان يُحرج أحيانا أن يبعث المال مع احد اخوته فيأخذه لنفسه ولا يعطيه لمن يعيش هاشم عندهم. إنها النفس الإنسانية وطمعها.

تختلف الحياة المجتمعية في الصنمين وحوران عنها في دمشق. في الصنمين البيوت مفتوحة دائما والنساء يلبسن ما يسترهن دائما. والنساء والرجال يتعاملون بشكل طبيعي في مجتمع زراعي مفتوح. وامكانية الخطأ معدوم. أما دمشق المدينة فالوضع مختلف ففي ذلك الوقت بداية استقلال سورية عن الفرنسيين. المرأة منفصلة بالمطلق عن الرجل إلا ضمن أسرتها. الملابس تغطي الجسم والوجه حتى. ولو أن هناك بداية كشف للوجه رويدا رويدا. عالم النساء عالم مغلق على ذاته. يشكل مجتمعا متنافسا وعدائية فيما بينهم وبالكاد نجد علاقة إنسانية ودودة داخله. المرأة تعيش في عالم تنافسي حول الرجل الأب والزوج والابن. تنافس وتلاعب وتآمر صغير. لكي تحافظ كل امرأة على حيزها الذي تعتقد انه لها. قد تسرق وتكذب وتفتري المهم أن ترضي ذاتها. لا يستثنى من ذلك العلاقة مع الأبناء أو الزوج والاب وبقية الأقارب.

المرأة ضحية عقلية توارثتها جيلا عن جيل لتحفظ مكانها ومصالحها وبكل الطرق.

 أما عالم الرجال فقد كان يعتمد على تغطية تصرفاته بالفضيلة والأخلاق. لكن في العمق الرجال خاصة في محلاتهم التجارية وتعاملهم مع النساء. كانوا ينظرون للنساء على أنهم طرائد للقنص. الكل هكذا الا ما رحم ربي.

في دمشق بدأ هاشم يكبر ويدخل في سن المراهقة. ويتعرف المشاعر الخاصة المعاشة بين الشاب والفتاة. كان معبأ باخلاق الحفاظ على الشرف وعدم الاساءة لأي فتاة عبر علاقات غير شرعية. اختلف مع أصدقاء له لعوبين.

 وبعد مضي سنوات وأصبح هاشم شاب مهيأ ليكون زوجا محتملا.عاش مشاعر حب نبيلة تجاه إحداهن. وكانت هي المبادرة. جسورة وخططت له لتجتمع به. كان حريصا ولا يقبل بالتعدي على عرض أي فتاة. جمعته بوالدتها. اعترفت بحبها له وأنها مستعدة ان تتزوجه. ولو أن أهله رفضوا. وان امها ستساعده بالمال اللازم. لكنه رفض ذلك وهرب من تلك العلاقة. والسبب انه مازال صغيرا وغير منتج ولا يملك امكانية فتح بيت واسرة وذلك مع عدم رضى والده المصر على اكمال هاشم لتعليمه.

 لكن الموضوع لم ينتهي هنا فهو يعيش في وسط أسرة تحتضنه كابن لهم. وكانت لدى الاسرة ابنة عمرها قريب من عمر هاشم. أصبح بينهما حب وانجذاب. دفع البنت لتطلب منه أن يخطبها من اهلها. وان يساعده من يرعاه في دمشق ذلك الرجل وزوجته الذين اعتبروه كابن لهم ويعطوه من المال ما يجعله يتزوج ويعيش مع تلك الفتاة. رفض هاشم ذلك لأنه يريد أن يتابع تعلمه ومن ثم  يعمل ويعيل أهله ويعيل نفسه. ولكن إصرار البنت عليه واهلها معها. جعله يخطبها ولكن والده رفض لان هاشم لم يصل الى وقت يستطيع أن يفتح بيتا ويبني اسرة. كانت الفتاة انتهازية ومتطلبة. بحيث نغصت عليه حياته وجعلت طعم الخطوبة مرّا في حياته. وزاد ذلك رفض والده المطلق لتلك الخطبة التي تحولت إلى زواج بتسجيله رسميا عند الدولة، كتب الكتاب. ولكن دون حياة مشتركة. انتهت تلك الجيزة من النكد الدائم لتلك الفتاة ، وتحرر هاشم منها…

تنتقل الرواية عبر فصل جديد لتتحدث عن عالم المرأة في دمشق من خلال تتبع حياة مجموعة من النساء. كان يعيش في عالمهم واجوائهم هاشم الشاب الذي مازال يتابع تعليمه في الشام.

من خلال هذه المتابعة سنتعرف بالتفصيل على عالم المرأة الدمشقية في خمسينيات القرن الماضي. كما ذكرنا سابقا . عالم المرأة المنفصل عن عالم الرجل والتعايش المجتمعي. ولا علاقة بين الرجال والنساء الا ضمن الاسرة وعلاقات القرابة. المرأة ضحية عقلية التنافس على الرجال والمكانة والمكاسب مهما صغرت. ولا يمنع أن تحصل معارك نسائية صغيرة أو كبيرة. زيجات كثيرة وطلاقات ايضا. اولاد كثر. من الزوج الاول والثاني. المرأة قد تعمل لتدمير حياتها الأسرية أو أن تسيء لابنها او ابنتها او زوجة ابنها. كل شيء مستباح في مجتمع النساء هذا للاستحواذ على المكانة. طبعا ليست كل النساء كذلك. لكن تلك هي السمة العامة…

ناهد الفتاة الصغيرة. هي إحدى ضحايا مجتمع النساء المريض هذا. امها كانت تزوجت من أبيها رغما عنها. وانجبتها مع اخت واخ آخرين. ثم تركتهم وذهبت مع آخر تزوجته وأنجبت منه ايضا. ناهد عاشت حياة اليتم بعيدا عن أمها و أبيها الذي تزوج وأنجبت زوجته وأصبحت تعامل ناهد بشكل سيء. ناهد تلك ستكبر وتعيش في اسرة احتضنت هاشم أيام تواجده في الشام لمتابعة تعلمه. كبر بجوارها وكبرت تحت نظره. احبا بعضهما. وهو حصل على الشهادة الثانوية وبدأ يسعى ليجد عملا مناسبا ليبني حياته ويؤسس لمستقبله. خاصة أن والده كان قد أخبره في المرحلة الاخيرة من تعلمه عدم قدرته على متابعة اعطائه مصاريف دراسته وعيشه في الشام. مما جعل هاشم يعمل تارة في حمام عمومي او عند مصلح و صانع احذية . وغير ذلك…

اخبر هاشم والده اعتزامه الزواج من ناهد . بارك والده الخطوة. ولكن مشكلة العمل عند هاشم لم تحل. وعدوه بعمل عند الدولة. لكن لم يكن له واسطة. وظهر له ان الفساد مستشري في أجهزة الدولة. كان هاشم مثقفا وقد قرأ منذ صغره الكثير من الكتب الأدبية والفكرية والفلسفية. وكان ذو حضور في المدرسة والمجتمع. حيث يجلس بين أصدقاء والده يحدثهم أو يقرأ عليهم بعض الكتب. كتب الشعر وفي موضوعات كثيرة ومناسبات كثيرة. عرض نفسه على إحدى الصحف الناشئة وقبل بها. لكن المردود كان صغيرا غير قابل لأن يفتح بيتا. كما عرضت عليه وكالة فرنسية أن يعمل معها وأن تأخذه دورة الى فرنسا. لكن لم يحصل لأن هاشم عندما سدت السبل في وجهه. ذهب وتطوع في الجيش. حيث كان يتمنى والده ذلك. قُبل في الجيش وأصبح ضابط . كان نموذجا للضابط المربي. وليس للضابط المعاقب للجنود. حيث الصلاحية للضباط في الجيش مطلقة.

تزوج من ناهد وجعلها تسكن مع والدتها في بناء يجمع الكثير من النساء والعائلات في الشام. وكان ذلك أقرب للجحيم بالنسبة لناهد. لكنها كانت تتحمل طالما هي وزوجها يحبون بعضهم. كان هاشم يأتي إلى بيته في اغلب الايام. لكنه نقل إلى بانياس الساحلية. كان يخدم في النبك بريف دمشق. وأصبح لا يأتي إلى زوجته إلا كل ثلاثة أشهر وهذا كان سيئا عليه وعلى زوجته.

في هذه الاثناء كانت الوحدة السورية المصرية عام ١٩٥٨م قد حصلت. وعاش السوريين والمصريين حلم الوحدة الذي يتمناه كل عربي.

لكن ذلك لم يدم حيث حصل الانفصال بعد ثلاث سنوات ومات حلم الوحدة العربي. وترك في نفس هاشم والكثير من السوريين مرارة لن تزول.

أنجبت ناهد لهاشم ابنا وابنة كانوا ثمرة حبهم وحياتهم. وأصيب في الجيش لا نعرف كيف ؟. وفقد عينه على اثرها. ونقلت خدمته إلى دمشق وعاد قريبا من عائلته. لكنه دخل في دوامة ازمة نفسية لم يدركها بدقة. حيث كان يعيش حالات نفسية مضطربة. ذهب الى كثير من الاطباء حتى وصل لأحدهم كان يجلس معه لساعات يتبادلون الحوار والآراء. وصف له علاجا . تبين بعد ذلك انه مجرد “حب” لا ينفع ولا يضر. وان هاشم كان يحتاج أن يهضم هزيمة السوريين بالانفصال وهزيمته الشخصية في الجيش الذي لم بعد يراه المكان المناسب له. وهكذا وبعد أن تماثل للشفاء نفسيا. قرر أن يتسرّح من الجيش ويبدأ حياة جديدة.

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها اقول:

اعترف انني امام رواية مشغولة بفنية عالية. وبعمق ومصداقية فيما يتعلق بالحياة المجتمعية التي طالتها. وتكاد تكون أقرب لسيرة ذاتية. فهي تتابع حكايتها بسرد متسلسل عبر الزمان والمكان. حوران الصنمين ودمشق الشام. في عدة عقود. من ايام الاستعمار الفرنسي حتى ما بعد انفصال الوحدة المصرية السورية عام ١٩٦١م. وما اصبحت سورية مهيأة بعد ذلك لمتغيرات تطال مصير سورية بالكامل: مجيء البعث وتفرده بالحكم ثم حكم الاسد الاب والابن والثورة السورية وتداعيات كل ذلك على السوريين على كل المستويات.

كانت الرواية وفيّة للعمق المجتمعي الذي تحدثت عنه اجواء الصنمين و حوران في تلك العقود. العادات والتقاليد وأعمال الناس. وطموح التعلم وخلق الأفق الاجتماعي الافضل.

دمشق ومجتمعها المنفصل الرجالي والنسائي وعالم المرأة المنغلق على نفسه بكل مافيه من عيوب وما يعيشه من أمراض وإشكالات.

الرواية  دراسة اجتماعية بامتياز عن عالم المرأة الدمشقية وعلاقتها بالمجتمع الرجالي. وعلاقة التعمية والتغطية وادعاء الفضيلة وسلوك الغير مقبول مجتمعيا ودينيا…

الرواية لا تقترب من عقود ما بعد الانفصال وكأن هناك قطيعة بين وفاة أبو هاشم وبين ترك هاشم حياة العسكرية…

المهم عدم التصريح احيانا تصريح…

لم اقرأ للكاتبة قبل رواية بين قلبين أي عمل أدبي. اقول اننا امام موهبة أدبية متميزة.

 اشجع الكاتبة كمالا قاسم العتمة على المتابعة في الكتابة.

 لتكون نورا في سماء الرواية السورية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “بين قلبين” للكاتبة السورية “كمالا قاسم العتمة” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن حياة المعمر أبو هاشم الوجه المعروف في مدينة الصنمين في حوران يتذكرها إبنه هشام بعد وفاته، مستذكرأ منذ زواجه وإنجابه أطفاله أيام الإحتلال الفرنسي لسورية.

زر الذهاب إلى الأعلى