إنصافا لتاريخنا.. ولسليمان العيسى

محمد خليفة

أخيرًا حُقَّ لسليمان العيسى أن يغادرنا في اجازة ممتدة ويغادر وطنا غناه وبكاه وصلى في محاريبه وسخّر للكفاح في سبيله كل نفس من أنفاسه , شهيقا وزفيرا , فإذا بالوطن يحترق بأيدي حكامه فيموت الشاعر الرقيق كمدا .

حُقَّ لفارس العروبة أن يتنكب سيفه جانبا ويخلد للنوم من عناء معارك متواصلة أبلى فيها بلاء حسنا طوال ثمانين سنة (.. ومن يعش ثمانين حولا لا أبالك يسأم ) كما قال جدنا زهير بن أبي سلمى .

يبدو موت الشاعر الكبير في توقيته مصادفة غير موفقة .. لقد أخطأ التوقيت , كان عليه أن يختار موعدا قبل هذه السنوات الكالحة ليتاح للعالم العربي أن يؤبنه محيطا وخليجا .. أما الآن فمضى مشيعا بكثير من الجحود والكفران لقيمته ودوره الرائد في مجرى الشعر السوري والعربي المعاصر , ولا سيما منه الشعر النضالي القومي الملتزم .

ما إن انتشر خبر وفاته حتى انبرى سُوقة الكتابة وسفالها : ها .. إنه علوي .. ! ها .. إنه بعثي . إذن لا يستحق في نظرهم سوى الرجم واللعن مع ابليس الرجيم .!!

 حالنا اليوم كحال جدنا الآخر أبي حيان التوحيدي الذي أحرق مؤلفاته العظيمة قبل وفاته , نحن أيضا نشعل حريقا ضخما نرمي فيه مجوهراتنا وتراثنا وتحفنا وتاريخنا الوطني , وأخشى أن نقذف بأنفسنا فيه أخيرا , نحن مصابون ب (عقدة أوديب) نقتل أباءنا ونتزوج أمهاتنا مع أنهم يستحقون البر لا العقوق , نحن مثل كثالكة اسبانيا في القرون الوسطى ندمر حضارتنا بأثر رجعي , ونمارس ( محاكم التفتيش) ونحرق فيها من يخالفنا العقيدة والرأي والمذهب .

أيها القوم.. أيها العقلاء الذين لم يشربوا من (نهر الجنون) قوا أنفسكم وأهليكم وبلدكم نارا وقودها الناس والحجارة .. أتحاكمون رجلا مثل سليمان العيسى وتدينونه لأن الله خلقه من صلب أبوين علويين وحسب ..؟ أتنسون تاريخه الناصع المشرف وتجرده من أردان الطائفية وتتجاهلون وطنيته الفياضة وعروبته الجياشة ؟ أتتبرؤون من أشعاره التي تعلمتموها في المدارس لأنه كان بعثيا ..؟ ماذا ستتركون لمستقبلكم إذن ..؟؟ هل تتركون له تراث جورج وسوف وشعر رغدة ومقالب دريد لحام ..؟

الشاعر الراحل يزن أمة بكاملها ومن العار علينا أم نغمطه حقه , وأن نتنكر لريادته وانجازاته الأدبية الخالدة , وأن نحاكمه على أشياء لا يد له في اختيارها , أو لمواقف واختيارات تبدلت أحكامها بتبدل الأزمان , وإن فعلنا فنحن الخاسرون والضالون .

عاش الشاعر الكبير قرابة قرن ولد 1921 وناضل منذ يفاعته ضد الاحتلال الفرنسي ودخل السجون وقاوم التتريك وسلخ لواء اسكندرون , وهو لعلم الطائفيين يحفظ القرآن منذ طفولته , وانتقل بعد سلخ اللواء الى سوريا وسكن حلب ودمشق لا طرطوس والقرداحة , وتابع نضاله القومي مثل أساطين الفكر والنضال العروبي ساطع الحصري وزكي الأرسوزي وصلاح البيطار وجمال الأتاسي وعبد الكريم زهور وجميل مردم ومحمد سليمان الأحمد وعمر أبو ريشه ..إلخ شارك في تأسيس البعث 1947 , وكانت فكرته في ذلك العصر مقبولة وما هي بالسوء الذي انتهت اليه بعد استيلاء العسكر والعلويين الطائفيين وآل الأسد عليه . لكن الأهم من هذا أن العيسى وقف مع حركة الشعوب العربية في توقانها للحرية وثورانها ضد الاستعمار وقوى الاستبداد والظلم ودخل سجون سوريا الشهيرة كالمزة والقلعة وله قصائد فيها ثم انتهى ليقول مثلما نقول اليوم : إن جميع السوريين معتقلون :

 لا فرق معتقلين كنا يا أخي أو مطلقينا

تتراكم الأغلال حتى تشمل الشعب الأمينا

لم يتكسب من بعثيته بعد وصول الحزب للسلطة بل كان من بين عزلهم البعث عنه لأنهم طاهرون مخلصون . وسأكشف معلومات غير ذائعة عنه توضح طهرانيته . عاش في حلب خلال الخمسينيات وبعض الستينيات وكان ابنه البكر (معن) زميلا لنا في المدرسة ومن خلاله كنا نتتبع اخبار الأب , فقير يسكن في بيت تحت الارض( قبو) لا تدخله الشمس , يعمل معلما, وكذا زوجته السيدة ملك أبيض شريكته وهي مثقفة وأديبة ترجمت أعمال الادباء الجزائريين عن الفرنسية , وعندما ارتقى منصباهما وانتقلا الى دمشق موجهين تربويين في وزارة التربية , منتصف الستينيات لم يتحسن وضعهما المعيشي رغم أن الحزب الذي شارك في تأسيسه يحكم , وصار من هو أدنى منه منزلة وشهرة في مصافات السلطة العليا , وتكرر الامر فسكن في (قبو) تحت الأرض !.

 في عام 1971 طلبه حافظ الاسد وكلفه أن يكون مدرسا خصوصيا لأبنائه في القصر . وكان بإمكانه انتهاز الفرصة , لكن ما حدث هو العكس بعد فترة وجيزة طلب إعفاءه , ثم غادر سوريا ليعمل مدرسا في اليمن . ولو كان انتهازيا لما اضطر لترك وطنه باحثا عن فرصة عمل في اليمن بعد أن تجاوز الستين !

سليمان العيسى الذي كتب قصائد ثورية رائعة لعبد الناصر ولثوار الجزائر وفلسطين واليمن والعراق ولبنان , لم يكتب للأسد شيئا . كتب للبلدان العربية بلا استثناء وهو معروف فيها كافة وتقلد اوسمة وحاز جوائز كثيرة منها .

 إنه أحد أربعة عمالقة للشعر الكلاسيكي السوري في النصف الثاني من القرن العشرين : بدوي الجبل , وأبو ريشه , وقباني , وكان مخضرما ومجددا . غزير الانتاج له أكثر من عشرين ديوانا منها مسرحيات وشعر للأطفال , أروعها في نظري : (أزهار الضياع) , و(أغنيات صغيرة) بلغ فيهما ذروة الحساسية الفنية والرهافة الانسانية وابتعد عن الغنائية السياسية والخطابة المنبرية . بعد هزيمة 1967 انصرف للكتابة للأطفال تعبيرا عن اليأس من الكبار , بمن فيهم رفاق طريقه الذين انحرفوا , ولا شك أنه مات مصدوما مما اقترفه بشار الاسد وعصاباته بالوطن الذي تعبد له ثمانين سنة .

ايها القوم : أنصفوا هذا العبقري المخلص لسوريته , هذا الراهب الصوفي المقاتل في سبيل امته العربية ولا تغبنوه ولا تبخسوه حقوقه , فهو منارة عظيمة , وملحمة شعرية لا يمكن طمسها أو تجاهلها , وسيبقى نهرا من أنهار سوريا الجارية يروي الجميع بعذوبته وجماله وابداعه .

——————————————————————————————-

المقال منشور في العدد 184 من مجلة الشراع اللبنانية الصادر بتاريخ 16 / 8 / 2013

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الشاعر الكبير “سليمان عيسى” أحد أربعة عمالقة للشعر الكلاسيكي السوري في النصف الثاني من القرن العشرين، مقال تأبين للشاعر الكبير من الكاتب العروبي المناضل الراحل “محمد خليفة” الله يرحمه ويغفر له ويسكنه الفردوس الأعلى، كان منصفاً في تأبينه.

زر الذهاب إلى الأعلى