قانون الدولة، والقيم الأخلاقية المضادة

نبيل عبد الفتاح

عندما تذكر مفردة أخلاق فى الخطاب العام للجموع الغفيرة فى مجتمعاتنا العربية، تحملُ فى أعطافها معانٍ إيجابية، بقطع النظر عن السلوك الاجتماعى الجمعى، الذى يبدو جليًا مناقضا لها، فى تفاصيل الحياة اليومية في السلوك الفردي داخل الأسرة، وعلاقات الجيرة، والزمالة، بل والصداقة، وفى العمل!

تستخدم مفردة الأخلاق والأخلاقيات، وغيابها، أو انحلالها أو تفككها أو الانحراف عنها، لوصم وإدانة السلوكيات الاجتماعية المعيبة سواء على المستوى المجتمعى، أو الفردى ومن ثم حاملة معانٍ سلبية تماماً. يختلط مفهوم الأخلاق فى الوعى والإدراك الفردي والجمعى بالثقافة الشعبية السائدة، وبالتقاليد التى تتم التنشئة الاجتماعية الحاملة لبعضها، فى الطبقات الاجتماعية المختلفة أو فى الأسرة، والعائلة، والقبيلة والعشيرة، والطائفة فى المجتمعات العربية الانقسامية. من هنا تتباين إدراكات ومعانٍ، ودلالات، ومعايير الأخلاق، بين هذه المستويات من الانتماءات المختلفة بين حدي السلبية اوالايجابية المبتغاة.

ثمة تداخل وخلط فى المجتمعات العربية، بين الأخلاق والدين، والشائع في الوعي العام أن الأخلاق مصدرها الدين -أيا كان إسلاميا ومسيحيا ويهوديا- والمذهب من خلالهم -، وغالبا يسيطر هذا الخلط فى وعي غالب الفئات الاجتماعية، بقطع النظر عن الممارسات السلوكية الفردية أو الجماعية المغايرة لهذا المعنى.

الدين والأخلاق والخلط بينهما فى الإدراك والوعى الفردي والاجتماعى غالبا ما ينطوى على أنماط التدين الشعبى الوضعي، ومحمولاته من التقاليد الموروثة- فى الريف والبوادي، والحضر، والمدن التى باتت مريفه وخاصة فى دول العسر العربى-، والمصادر الدينية للأخلاق هى ادخل في أنماط التدين الشعبي الوضعي وأنماطه السائدة فى كل مرحلة تاريخية، والقيم الاجتماعية الأخرى، التى تتداخل وتختلط مع القيم الأخلاقية، والأعراف، والعادات الموروثة والمتغيرة. الأنساق الأخلاقية، تبدو متغيرة من مرحلة لأخرى، بل وتتباين داخل كل جماعة ومجتمع، من حيث مواقع القوة، وبين السراة، والمعسورين، وأيضا على الصعد المناطقية- زراعية، أو صحراوية، وحضر-، وذلك قبل الانتقال إلى العصر الحديث، والتصنيع، والتحولات الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية والتعليمية والعلمية.

مما سبق تبدو الأخلاق وقواعدها ومعاييرها، هى جزء من عمليات التغير الاجتماعى، والخطاب حول الأخلاق غالبا، ما يكون دفاعيا عن قواعد أخلاقية، قديمة يتم إستداعاءها فى مواجهة إنتهاكات لها، لصالح قيم أخلاقية واجتماعية جديدة، وتناهض أو تهاجم القيم الأخلاقية التى كانت سائدة فى مرحلة تاريخية سابقة، وقيم اخري تجاوزتها. من هنا يثور التساؤل هل الأخلاق السائدة فى بعض المجتمعات العربية تدعم  أم تناهض قانون الدولة الحديثة!

من المبادئ الأساسية فى النظرية العامة للقانون، أن ثمة تمايز بين القواعد القانونية، وبين القواعد الأخلاقية، قد يحدث فى بعض الأحيان، أن يحدث بعضا من التداخل الجزئى بينهما، إلا أن قواعد القانون، هو تعبير عن الصراعات، والتوازنات بين المصالح الاجتماعية والاقتصادية المتعارضة، وهى تختلف عن القواعد الأخلاقية، وأيضا بين الدين والقواعد القانونية علي الرغم من ان المصادر الدينية -الإسلامية والمسيحية واليهودية- تشكل نظام قانونى فرعى، فى مجال نظم الأحوال الشخصية، إلا ان غالبية  الأنظمة القانونية الكبرى، – ذات المصادر الغربية اللاتينية، والانجلو ساكسونية- وتعديلاتها، وضعية وغربية بامتياز، بل أن نظم الأحوال الشخصية ذات المصادر الدينية السماوية، هى قواعد تأويلية وتفسيرية للنصوص الدينية فى هذا الصدد، وبعض الاجتهادات المعاصرة إلى جانب الموروث الفقهى، واللاهوتى التاريخى الماضوى الموروث . القواعد القانونية تتميز بالضبط اللغوي ، والإصطلاحي والدلالي علي خلاف العمومية المفرطة للقيم الأخلاقية وسيولتها، وغموضها وتعدد وتناقض معانيها ..الخ .

ثمة أيضا أخلاق قانونية تتمايز عن الأخلاق الاجتماعية والدينية السائدة، تتمثل فى انصياع المواطنين للعقود المكتوبة والشفاهية، والتزام كل متعاقد بتنفيذ التزاماته فى العقد، وفى كافة العقود المدنية، وعدم الالتواء والمراوغة فى تطبيق هذه العقود.

من الأخلاق القانونية، احترام حقوق الجيرة، وقواعد المرور من السائقين، والعابرين. والالتزام بعدم السب والقذف فى علانية، أو احترام الآداب العامة والنظام العام، واحترام خصوصية الآخرين ، وهو ما قد يتمايز ويختلف عن الأخلاق العامة ذات المصدر الدينى، أو المصادر الأخرى من التدين الشعبى، أو الأخلاق العامة السائدة فى التركيبة الاجتماعية والمناطقية. ومن الشيق أن نلاحظ الحضور النسبي لمنظومة الأخلاق القانونية في الدول الأكثر تقدما، من خلال احترام المواطنين للقانون ، ومرجع ذلك تطور الوعي الاجتماعي والسياسي كنتاج لتطور التعليم وسياساته ومناهجه وارتباطها بالتطور العلمي والتكنولوجي . من ناحية ثانية التراكم التاريخي لثقافة المدينة الحديثة  ومابعدها من تطورات ، وايضاً للتطورات الاقتصادية في سياق تطور الرأسمالية ، ومعها الوعي الاجتماعي للطبقات العاملة ، ونقاباتها ، ومتابعتها للسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تمس حقوق العمال ، والدفاع عنها ، وايضاً الطبقة الوسطي ، والتعبئة والتظاهرات في حال المساس بحقوقها ونمط حياتها ، وخاصة في ظل السياسات النيوليبرالية وأبرز مثال لها مظاهرات السترات الصفراء التي حدثت في فرنسا ، والدعوة للتعبئة والتظاهرات من خلال الواقع الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي . لاشك ان الثورة الرقمية فتحت الأفاق عن سعة لبعض من المتابعات والحوارات والرفض والنقد العنيف للقوانين الاجتماعية والاقتصادية الماسة بمصالح الطبقات العمالية والفلاحية والوسطي ، وهو ما يساهم نسبيا  في حساسية الوعي القانوني في البلدان الرأسمالية الأكثر تقدماً ، في غالبُ دول شمال العالم .

في دول الجنوب وخاصة عالمنا العربي ، ادي تدهور النظم والسياسات التعليمية ومناهجها إلي تسطح ورداءة مخرجات النظام التعليمي كله بما فيه تراجع في مستويات التكوين العلمي والمعرفي والتخصصي للجماعات الاكاديمية ،  وعدم مواكبتها للتطورات التعليمية والعلمية في عالمنا  ، بالإضافة إلي الأعداد الكبرى من غير المتعلمين وأمية القراءة والكتابة ، وأنماط الأمية الأخرى ، ومنها الأمية الوظيفية ، والأمية الثقافية ، وايضاً الأمية القانونية وغياب الوعي القانوني ، واللامبالاة بالقوانين كنتاج لعدم العلم بها ، اولأنها تنطوي علي مساس بمصالح الأغلبيات الشعبية والفئات الوسطي . ثمة حسُ جمعي يتفاقم بأن الدولة لاتعبرُ عن مصالح واحتياجات هذه الجموع الغفيرة ، ومن ثم تمددت الفجوات بين الدولة والسلطات السياسية الحاكمة ، وبين هذه الجموع التي باتت تفرض أنماط سلوكها المناهضة للقانون ، من خلال ثقافة معادية للقانون من اسفل ، وتفرضه ، في ظل ماسبق ان اطلقنا عليه -منذ ثمانينيات القرن الماضي في صحيفة الأهرام – قانون الفوضى وثقافة الفوضى ! التي تمددت وسيطرت علي الحياة اليومية في عديد البلدان المعسورة عربيا ! وساعد بقوة علي ذلك غياب الأدوار الفاعلة للتشكيلات البرلمانية في اعداد التشريعات ، والرقابة والمساءلة بفاعلية للسلطة التنفيذية ، والقيود المفروضة علي استقلال السلطات القضائية علي نحو عمق الفجوات بين الدولة ونظمها القانونية وبين غالبية المواطنين بل والخلط في الوعي الجمعي بين الدولة والسلطات الشمولية والتسلطية وبين الدولة !.

من الملاحظ تاريخيا، منذ دولة ما بعد الاستقلال في العالم العربي ، أن قانون الدولة- كأحد أدوات السلطة السياسية ومصالحها والقوى الاجتماعية التى ترتكز عليها- استخدم كأحد أبرز أدواتها فى السيطرة السياسية، والضبط الاجتماعى، وغالبا لا تراعى السلطة السياسية العربية الحاكمة، التوازن بين المصالح الاجتماعية المتصارعة، والمتعارضة إلا على نحو جزئى، وخاصة فى ظل التحولات الرأسمالية، ثم تبنى السياسات الاقتصادية النيوليبرالية فى غالب البلدان العربية.

لا شك أن الفجوات بين القوانين، ومصالح الفئات الاجتماعية الشعبية، والمتوسطة، فى ظل سياسات النيوليبرالية، أدى إلى انتشار ظواهر الفساد السياسى والإدارى، فى السلطة وأجهزة الدولة، وبين أوساط الموظفين العموميين، خارج قانون الدولة، وبين المواطنين لإنجاز مصالحهم المشروعة، أو الخارجة على القانون، على نحو أدى إلى إنتاج “أخلاقيات” الفساد المضاد، على خلاف الخطاب اليومى حول الأخلاق الدينية، أوالقيم الاجتماعية، وهو ما شكل قيم أخلاقية واجتماعية مضادة للقانون، ومن ثم إلى تشكل ثقافة مضادة للثقافة القانونية الحديثة.

من أبرز القيم الأخلاقية، والتدين الشعبي السائدة عربيا والمضادة للثقافة القانونية الحديثة، تتمثل فى أيديولوجيات الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفية، وبعض دعاة الطرق، وبعض رجال الدين الرسميين، بإقامة تناقضات بين قانون الدولة، والثقافة القانونية الحديثة، وبين قواعد النظام القانوني للشريعة الإسلامية. من ثم وصم القانون الحديث با للا شرعية الدينية، واختلافه عن قواعد الشريعة. من ثم إشاعة هذه المفاهيم الأساسية السائدة فى منظوماتهم الأيديولوجية الدينية التأويلية الوضعية، بين أعضاء منظماتهم، أو بين القواعد الاجتماعية الشعبية ، وبعض الوسطي- الصغيرة ، والوسطي – الوسطي التى انتشروا داخلها!

لا شك أن ذلك أدى إلى إقامة تناقض جذري بين القيم والقواعد الدينية، والأخلاقيات التى ترتكز عليها، وبين قانون الدولة، ومن ثم أشاع نزعة المراوغة، وعدم احترام قانون الدولة، والقيم الأخلاقية القانونية بين الجمهور.

الأخطر أن التغيرات الكبرى فى القيم الاجتماعية، أدت إلى تحولات مضادة فى الأخلاق العامة النسبية والمتغيرة من خلال ثقافة الإزدواجيات، بين القيم الأخلاقية المعلنة فى الخطاب اليومى، وبين الأخلاقيات المضادة لها المضمرة،  والمتجسدة فى السلوك الاجتماعى الفعلى.

ساعد على هيمنة الأخلاقيات المضادة لقانون الدولةفي عالمنا العربي ، والأخلاقيات القديمة التي تأفل، ارتفاع معدلات الأمية بكافة أنماطها، وتناقض القانون الحديث مع الأعراف السائدة فى الأرياف والبوادى، وبعض المناطق الحضرية المريفة، وتفاقم مشكلة العلم بالقانون لدي الغالبية العظمي من المخاطبين بأحكامه.

أحد أبرز المتغيرات البارزة التى أدت إلى هيمنة الأخلاق الجديدة المضادة للأخلاقيات الموروثة، وبعض الدينية، تتمثل فى ثورة وسائل التواصل الاجتماعى، والقيم الرقمية للجموع الرقمية الغفيرة التى رحلت من الواقع الفعلى والمجالات العامة المغلقة عربيا إلى حرية الواقع الرقمى. كشفت الحياة الرقمية عن غالب المستور، والمضمر من الأخلاقيات المضادة والقيم الاجتماعية السلبية -وبعضها إيجابى-، وخاصة تجاه بعض المنظومات القانونية العربية، أما من خلال استدعاء الخطاب الدينى، ومحمولاته الثقافية النقلية المضادة، لقانون الدولة العربية ما بعد الكولونيالية ، ووصمة بعدم المشروعية، والدعوة لنظام الشريعة الإسلامية. ثمة أيضا رفض من الجموع الشعبية الرقمية الغفيرة للقوانين المقيدة للحريات العامة، وخاصة الرأى والتعبير، ونصوص قوانين العقاب بخصوص الإرهاب وتعريفاته، والجوانب الإجرائية، فى قانون الإجراءات الجنائية.

امتدت عمليات التعبير والانكشاف الرقمية عن نهاية الحق فى الخصوصية، من خلال المنشورات أو التغريدات، أو الفيديوهات الوجيزة، حيث الاستعراضات الجسدية. التى تخدش بعضها الحياء العام والآداب العامة، وذلك سعيا وراء الحصول على تفضيلات من المشاهدين والمشاركين الرقميين للحصول على المال من الشركات الرقمية الكونية الكبرى ، بل أن بعضهن/ هم يستخدمن الحياة الرقمية، من أجل ارتكاب بعض جرائم الآداب العامة، أو جرائم القتل والنصب ..الخ.

أن التغيرات الجيلية فى ظل ظواهر عدم فاعلية قانون الدولة فى غالب العالم العربى، أدت إلى اللامبالاة بأوامره ونواهيه، على الرغم من قيام السلطات الأمنية العربية بمتابعة بعض السلوكيات المضادة للقانون على الحياة الرقمية، وإلقاء القبض على بعضهن/ هم! إلا أن انفجار القيم الأخلاقية الجديدة المضادة للقانون، في حالات تغير واتساع وتضخم، بعضهم يدرك انه ينتهك القوانين ، وغالب القائمين بهذه الأفعال لا يدركون إنها مخالفة للقوانين ، فى الواقع الفعلى. ويرجع ذلك الي الانفجار السكانى، والفجوات فى المعرفة والوعى الاجتماعى، والأخطر تدنى الوعى القانونى، والأخلاقيات القانونية، مقارنة بالمراحل التاريخية ما بعد الكولونيالية، وبناء الدولة الوطنية.

لا شك أن بعض المشرعين فى العالم العربى، بدأوا في تجريم بعض الأفعال الرقمية الحاملة للجنوح السلوكى، إلا أن ذلك لايبدو مؤثرا علي انفجار القيم اللاأخلاقية المضادة لقانون الدولة ، ومن ثم يتطلب ذلك الحاجة إلى فلسفة قانونية جديدة، وأيضا إلى سياسات تشريعية جديدة وإصلاحية تحمى مصالح الجموع الغفيرة الفعلية، ولا تنحاز إلى مصالح القلة من السراة فى مرحلة النيوليبرالية الاقتصادية، وخاصة فى دول العسر العربية.

المصدر: الاهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى