ســــــــــمـــيـــــــح الـــقـــاســـــــــم: لا.. لا تـــرحــــــــــــل!

محمد خليفة

كنت أتابع منذ اسبوعين حالة الشاعر الراحل الصحية , وكتبت المقال التالي يوم الاثنين 18/8/2014وارسلته لمجلة الشراع ليصدر في عدد الجمعة 22 /8 بإحساس السباق مع الزمن , ولكن الموت سبقني واختطف الشاعر الكبير قبل أن يصدر مقالي مطبوعا :

 لمن علب الأدويه ..؟ لمن سترة الصوف والاغطية.. ؟

 لمن هاتف الامبولانس .. وعنوان عائلة الصيدلي المناوب .؟

أنت تناور نأي المدى ودنو الأجل

لماذا وكيف وأين وهل ؟

دع الأحجية

واسئلة القلق المزرية

فما أبدي في أزل

وألف نبي وصل

وقبلك الف نبي رحل

أشد من الماء حزنا .. أشد من الحزن حزنا .. اشد من الموت حزنا !

( من قصيدة له )

أخشى أن يسبق وصول مقالي هذا الى عنوانه المرسل اليه انقضاض النبأ المؤلم عن الشاعر الجميل الكبير سميح القاسم علينا كالصاعقة التي لا تحمينا منها تميمة نافعة , ولا قبة فولاذية , ولا نملك بمواجهتها سوى : إنا لله وإنا اليه راجعون .

سميح الأن في مستشفى صفد يصارع الموت الذي تسلل اليه قبل ثلاث سنوات خلسة بواسطة ورم خبيث فاستقبله مداعبا وساخرا قبل أن يستفحل ويهدد حياته كما لو أنه غارة من غارات اسرائيل على الشعب الفلسطيني .

سيرحل هذا الشاعر الاسطوري الضحوك الذي ظل وجهه يشي بطفولة عذبة ونضارة دائمة حتى وهو يتقدم نحو السبعين وكان مستحيلا على أي غريب عنه التنبؤ بعمره الحقيقي .. اكاد أجزم أنه لا توجد لسميح صورة واحدة منهارا يائسا ذابلا .. كل صوره تعكس شخصيته بصدق وتنبض بالتفاؤل والثقة والحب والارادة الصلبة .. حافظ دائما على (شبوبية) الفارس الذي يغرس بذور الانتصار ويستعير قسطا من اعراسه المؤجلة يزين به وجهه لأنه يؤمن بأن الفرح والتفاؤل جزء من أسلحة الحرب والصمود مع عدو جبان يراهن على تعميم الموت والقنوط والاحباط في قلوب ضحاياه المعذبين .. هكذا هو سميح .

في لقاء معه في اثينا عام 1988 وكانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى انفجرت قال لنا وكنا مجموعة من المثقفين العرب : لا تعدوني بدعم صمودنا في الارض المحتلة ولن أطالبكم بدعم نضالنا لأنني مقتنع بأن الشعوب العربية أضعف منا ومحنتها مع انظمتها لا تقل صعوبة عن محنتنا مع اسرائيل , بل إنني أعدكم أن نقدم لكم الدعم مستقبلا وأن تصبح بلادنا ملاذا لكم , لشعوري أن فلسطين ستتحرر وتتنشق الهواء النظيف قبل البلدان العربية الأخرى .

هل كان سميح يتنبأ نبوءة الشعراء , أم يقرأ في كتاب المستقبل كما نراه اليوم في سوريا والعراق وغيرهما ..؟ سميح ليس مجرد شاعر بزغ كشمس تحمل الأمل والنور في عتمة الستينيات بعد ربع قرن من الاحتلال الاستيطاني بل هو علامة فارقة من علامات فلسطين العربية لا الفلسطينية فقط . كان عروبيا حتى نخاعه الشوكي , وحتى أدق الجينات والذرات في خلاياه العقلية والروحية والنفسية , لم ينجرف مع موجات التعصب للهوية الفلسطينية التي اجتاحت الثقافة المسيسة والمؤدلجة في الثمانينات والتسعينات , ثم تحولت ذريعة زائفة لدى بعض التيارات للهاث وراء سلام خلبي مع العدو الصهيوني بزعم أنه أرحم من الاشقاء العرب ,بل إن هذه العروبية الفياضة زادت تأصلا وتجذرا عند سميح بمواجهة محاولات اسرائيل طمس عروبة وفلسطينية الطائفة الدرزية التي ينتمي اليها , وظل أحد أبرز وأقوى الأصوات الرافضة لسياسة اقتلاع الدروز من انتمائهم العريق للشعب الفلسطيني والامة العربية بينما انساق عدد غير قليل من مثقفيهم وسياسييهم لتصديق أنهم أقلية مستقلة ومصلحتهم الآن في الولاء لاسرائيل وهو الأمر الذي أوصل كثيرين منهم ليكونوا في احزاب اليمين الصهيوني المتطرفة قريبين من شارون ونتنياهو ومقاتلين في جيش الحرب الاسرائيلي يشاركونه قتل شعبهم كالعميد غسان عليان قائد لواء جولاني في العدوان الاخير على غزة .

سميح القاسم الشاعر والمثقف والمناضل جسد في نتاجه الادبي وسيرته الشخصية طائر الفينيق الفلسطيني بحق , انبعث من رماد كارثة 1948 التي عاصرها فتى ابن تسع , وحمل تراث شعبه بين يديه كمن يحمل مصحفا أو انجيلا مقدسا , لم تخنه بصيرته ولم يفقد ذاكرته بل عمل على إحيائها وحمايتها , فانتفض على محاولات اسرائيل إخفاء جريمتها العنصرية بإلغاء شعب كامل [ كانت غولدا مائير تقول بسخرية : لا يوجد ما يسمى شعب فلسطين .. أين هو ..؟] ورفض عمليات استتباع الدروز وطمس وعيهم , ثم رفض لاحقا نزعات اختراع كيانية فلسطينية مناهضة للعروبة , كان أحد رواد الانبعاث الاحيائي في الستينيات , ثم شكل خطه الفكري بوصلة ترسم الاتجاه الصحيح للنضال الفلسطيني على مدى نصف قرن , ولذلك رأى كثيرون أنه ركز في شعره على مسألة التاريخ والهوية مقابل تركيز محمود درويش على مسألة الارض والارتباط بها . ومن أخلاقيات سميح التي تحفظ له أنه رفض فكرة مغادرة فلسطين , وانتقد صديقه ورفيق طريقه محمود لأنه غادرها عام 1970 , ومع أنه ارتبط بعلاقة حميمة جدا مع زعماء الثورة بدءا بياسر عرفات فإنه لم ينغمس في أي نشاط يحد من استقلاليته ومن انصرافه الى الشعر والادب والثقافة والدفاع عن التراث الفلسطيني الشعبي . وكان من السباقين في الانسحاب من الحزب الشيوعي الاسرائيلي نتيجة تناقض وعيه مع الماركسية نفسها واعترف لنا في أحد اللقاءات بأثينا أنه لم يكن شيوعيا كاملا في أي مرحلة من عمره .

 عمل صحافيا في صحف ومجلات عديدة وترأس تحرير بعضها واسس دار نشر عربية في حيفا , وشارك في تأسيس مؤسسة لحماية التراث والفنون .

لا يقل سميح شاعرية وابداعا عن معاصريه وخاصة محمود درويش صديقه وتوأمه الروحي والوطني بل إن بعض النقاد منحوه درجة أعلى , وبعضهم اعتبره أبرز الشعراء العرب في العقود الأخيرة ( محمد علي طه) , صدر له نحو ستين كتابا شعرا ونثرا , وترجمت بعض أعماله لعشرين لغة اجنبية .

نتوسل الى الله أن يحفظ سميح القاسم وأن يمد في عمره وطاقته لأننا بحاجة له فلسطينيين وعربا في هذه الأيام الكئيبة العصيبة لأن ما يختزنه من قدرة على اشاعة الامل لا تتوفر لدى احد غيره , ولأن وجوده حيا في قلب فلسطين التي تسمى 1948 هو بحد ذاته مقاومة لا مثيل لها في وجه مخططات العدو الغاشم , إنه وجه حيفا العربية الاصيل وعلامة من علامات هويتها الخالدة , وهو عقل الدروز العربي الذي لم يتأثر ولم يتغير , بل هو شيخ عقولها !

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. المناضل والكاتب العروبي “محمد خليفة” الله يرحمه ويغفر له ويسكنه الفردوس الأعلى، رثاء ووقراءة موضوعية جميلة للشاعر الفلسطيني الراحل “سميح القاسم” كم نحن “بحاجة له فلسطينيين وعربا في هذه الأيام الكئيبة العصيبة لأن ما يختزنه من قدرة على اشاعة الامل لا تتوفر لدى احد غيره” لروحه الرحمة والمغفرة.

زر الذهاب إلى الأعلى