الرّوائي السّوداني الرّاحل الطّيّب صالح في روايته “موسم الهجرة إلى الشّمال” (1966)، دشَّنَ للأعمال الرّوائيّة التي تتناول حيوات المهاجرين من الشرق العربي أو الإفريقي إلى الغرب. قبل ذلك، كان الشّعر والمقالات التي سطّرها أدباء المهجر، الحامل الأدبي لتلك المعاناة والنوستالجيا، وصعوبة الاندماج، واختلاف الثقافات، والخيبات الكثيرة، والنجاحات القليلة التي حققها المهاجرون. وعليه، الباب الذي فتحه الطّيّب صالح، ما يزال، وسيبقى مشرّعًا على مصراعيه لمزيد من الأعمال الرّوائيّة التي تتناول ثيمة الهجرة وعوالم المهاجرين وحيواتهم، وخلفيّات الهجرة، وقصص المهاجرين، بما فيها من أكاذيب وحقائق.. إلخ. وعليه، رواية “أيّام الشّمس المشرقة” لا يمكن اعتبارها “عود على بدء”، بل قيمة أدبيّة جماليّة مختلفة مضافة لمجمل المنجز الروائي العام الذي تناول موضوع الهجرة والمهاجرين بشكل خاص، وعلامة مهمّة في تجربة الرّوائيّة المصريّة ميرال الطّحّاوي. ذلك أنّ طريقة التناول، وزاوية النظر إلى المشهد، كانت مختلفة، وجميلة، ومفاجئة.
العنوان:
يبدو العنوان بسيطًا، نوستالجيًّا، يُخبر أكثر ممّا يوحي، بأنّ المتن سيكون عن أيّامٍ خوالٍ، لم يعكّر صفوها شيء، والمناخُ العام للأحداث والمجريات في تلك الأيّام كان “مشرقًا”. بالتالي، العنوان زماني أكثر منه مكاني، أيّام مضافة إلى حالة طقسيّة مناخيّة؛ الشّمس المشرقة. بخاصّة أن الأخيرة في الغلاف، غير موضوعة بين ظفرين أو مزدوجين. لكن، من الفصل الأوّل، يتفاجأ القارئ بوجود انعطافة حادّة وانقلابيّة على تصوّراته وتأويلاته الأولى للعنوان؛ على أنّ “الشمس المشرقة” موضوعة بين ظفرين، اسم مكان وليس تعبيرًا عن فترة مناخيّة طقسيّة! هنا، تتضح لنا تلك الخلطة الزمانيّة – المكانيّة للعنوان “أيّام الشّمس المشرقة”.
مع ذلك، يبقى القارئ يجهل؛ أين تقع “الشمس المشرقة” هذه؟ وأيّ مكان قصدت به ميرال الطحّاوي؟ لحين الوصول إلى الصّفحات الأخيرة، تكشف الكاتبة النقاب عن هوية المكان بأنّه الولايات المتحدة الأميركية، عندما تذكر حادثة إطلاق حرس الحدود النّار على قارب “عين الحياة” المكتظ بالمهاجرين، وتصريحات المسؤولين الأميركيين الذين برروا اقتراف تلك الجريمة (ص272). وعليه، نجح العنوان في إنتاج طاقة الجذب المبدئي، والتي عارضتها بداية المتن وخاتمتهُ بطاقة المفارقة والانقلاب على التأويل المبدئي.
البناء واللغة:
قسّمت الكاتبة عمارتها الروائيّة إلى 16 فصلاً. خمسة فصول مرقّمة ومعنونة وأحد عشر فصلاً معنونًا وغير مرقّمين. الفصول المرقّمة المعنونة هي (1- الشمس المشرقة)، (2- حديقة الأرواح)، (3- سُرَّة الأرض)، (4- تلّة سنام الجمل)، (5- الربع الخالي “الكوارتر”)، والفصول المعنونة غير المرّقمة: “السيدة ذات الأوجاع”، “مثل كلب أليف”، “شَعرُ الجنيّة”، “أم حنان”، “زينب”، “النبيّ الكاذب”، “المسالك والممالك”، “الروض العاطر”، “آشفيلد”، “صورة الفنان في شبابه”، “عين الحياة”. توزيع الأحداث والشخصيّات، وتحريك حيواتها، واللعب بمصائرها، وتلقينها أقوالها، وهندسة أفعالها، طبقًا لمستويات وعيها، كلّ ذلك، أظهر الخبرة والمراس والتمكّن العالي للكاتبة في مهنتها، إن جاز لنا وصف الكتابة الروائيّة بـ”المهنة”. ذلك أن أيّ خلل في هندسة البناء الروائي، سينعكس فورًا على بنيان الرواية ومحتوياتها من مصائر وحيوات وبصائر وأفكار.
بالنسبة للغة، أتت مريحة، سلسة، بعيدةً من الزخرف والاستعراض المعجمي، ولم تنحدر نحو السطحيّة والبساطة والغرق في العاميّة. لغة أدبيّة متوازنة ومشغولة بأناة وحذر. واقتصر توظيف اللغة العاميّة على المصريّة، بالرّغم من وجود شخصيّات من بيئات أخرى داخل الرّواية. والسؤال: هل خلت اللغة الروائيّة من بعض الهفوات والعثرات العارضة؟ طبعًا لا. كأيّ رواية جميلة متعوب عليها، لا مناص من بعض المشكلات التقنيّة الطفيفة، المتعلّقة بالتحرير الأدبي. على سبيل الذكر لا الحصر: تكرار كلمة “الفقيه” 12 مرّة في الصفحة 75، وتكرار مشهد كلاب البحر وما تحدثه من ضجيج وروائح كريهة في البحر. وتكرار الأسماء في الصفحة الواحدة أحيانًا.
أفكار:
رواية “أيّام الشّمس المشرقة” ليست مجرّد شبكة حكايات متداخلة ومتضافرة، تتحرّك ضمن أنسجتها وفضاءاتها شخصيّات روائيّة، لها ما يماثلها في الواقع الذي نعيشه وحسب، بل هناك محتوى فكري، تحليلي ونقدي أيضًا تطرحه الكاتبة على لسان الرّاوي العليم. من تلك الأفكار اللافتة؛ تراجع قيمة ومقام اللاجئ السياسي في الوقت الراهن، نظرًا لوجود مئات الألوف من قصص اللجوء السياسي المزيّفة المختلقة، ضمن موجات اللجوء المهولة التي شهدها العالم نتيجة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، أو الحرب الأهليّة اللبنانيّة، أو الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، أو الحرب في أفغانستان، وأخيرًا موجات الهجرة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد 2011.
تقول الرواية: “حينما وفد إلى “الشمس المشرقة” كانت كلمة لاجئ ما زالت تحمل هذا الرنين العاطفي والثقل الآيديولوجي، ما زالت قادرة على خلق بعض التعاطف” (ص241). وتقول أيضًا: “كان سليم النجّار مشغولاً (…) بخلق أسطورته التي يحاول إقناع نفسه بها (…) صورة اللاجئ التاريخي المكوّنة من مجموعة متناقضة من الأساطير التي رواها وصدّقها عن ذاته” (ص248).
كما انتقدت الرواية في شخصيّة “يوسف الأزهري” المثقفَ الألعوبان، المتلوّن، الذي يمكنه أن يكون مع الحقّ والباطل في آن، ودائمًا لديه حججه التي يبرر بها سلوكه المتقلّب وفق مقتضيات مصلحته. (ص 185).
البوكر:
رواية “بروكلين هايتس” الصادرة للطحّاوي عن دار ميريت في القاهرة سنة 2010، فازت بجائزة نجيب محفوظ في العام نفسه، وترشّحت لجائزة البوكر العربية سنة 2011 ووصلت إلى القائمة القصيرة. كذلك رواية “أيّام الشمس المشرقة” وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر سنة 2023. الحقُّ أنّني قرأت سابقًا رواية “تغريبة القافر” للعماني زهران القاسمي، الفائزة بجائزة البوكر العربيّة، دورة 2023، ولاحظت كثيرًا من النقاط التي يمكن تسجيلها لصالح “أيّام الشّمس المشرقة”. لكن، تبقى للجان التحكيم ذائقتها وخياراتها التي ربّما تظلم أعمالاً روائيّة لصالح أعمال أخرى، أقل جودة فنيًّا ولغويًّا.
أيًّا يكن من أمر، رواية “الشمس المشرقة التي تستقبل قارئها بأربع صدمات، عبارة عن جرائم قتل: انتحار ابن نِعَم الخبّاز (ص9)، ومقتل يولاندا وانتحار صديقها (ص10)، مقتل أوسكار (ص10)، وتختتم الطحّاوي روايتها بالصّدمة الأكبر وهي حادثة قارب “عين الحياة” المكتظّ بالمهاجرين المتّجه إلى “الشّمس المشرقة”. بعد تلك السرديّات المؤلمة عن وبؤس أحوال المهاجرين القدامى والمهاجرين الجُدد، وكأنَّ ميرال الطّحّاوي بعد كل ذلك الهجاء للمهاجر، توحي أنّ الهجرة من أرض الكوابيس (الأوطان) إلى أرض الأحلام الكاذبة والأوهام (المَهاجر) ما تزال حلمًا محفوفًا بالموت يراودُ ملايين البؤساء، طالما بقيت أوطانهم الأصليّة على بؤس حالها. ويبقى الإنسان بين خيارين أحلاهما مرّ؛ عدم الرّضا عن الأوطان، وعدم الرضا عن المَهاجر والشتات. والغلبة للخيار الثاني، كونه أقّل مرارة، وفيه فرصة أو احتمال ولو 10% لحياة أفضل.
بالنتيجة، أهميّة هذه الرواية لا تقتصر على المتعة الأدبيّة التي تمنحها للقارئ، بل إن ترجمتها إلى اللغات الأجنبية ستمنح طاقة معرفية نفسية اجتماعية تحليلية للمسؤولين المعنيين بفحص طلبات اللجوء، في أثناء الاستماع إلى قصص المهاجرين – اللاجئين، ودرس طلباتهم ومعرفة الحقيقي من المزيّف المختلق.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا
رواية “أيّام الشمس المشرقة” الرّوائيّة المصريّة “ميرال الطّحّاوي” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من قبل الكاتب السوري “هوشنك أوسي” في هجاء الأوطان والمهاجر كانت تجربة الروائي السوداني “الطيب صالح” في روايته “موسم الهجرة إلى الشّمال” (1966)، دشَّنَ للأعمال الرّوائيّة التي تتناول حيوات المهاجرين من الشرق العربي أو الإفريقي إلى الغرب، وروايتنا إحدى هذه الروايات.