صدرت عن دار نرد للنشر والتوزيع في اسطنبول رواية “البناية 46 – سيرة الطبقة” للكاتب محمد بشير الخلف…
لغة سرد الرواية – السيرة على لسان الراوي، ونستطيع القول أن بطل هذه الرواية هو مدينة الطبقة السورية الواقعة على نهر الفرات المطلة على السد الذي بني عليه…
مدينة الطبقة التي بنيت لتكون موقعا يحوي كل الفعاليات المتعلقة بحياة كل من يكون له دور في بناء السد وفي الخدمة الاجتماعية ومراكز الدولة وأجهزتها جميعا…
الطبقة بنيت لتستوعب في أهم احيائها الخبراء الروس ومعهم عائلاتهم الذين يشاركون في بناء السد. الذي كانت الدولة السورية قد اتفقت من الروس “السوفييت” على بنائه عام ١٩٧٤م.
كذلك هناك الحي الذي يضم المسؤولين السوريين وعائلاتهم والفعاليات التابعة لهم.
وهناك الحي الثالث أو البناء 46 الذي يضم الجهاز التعليمي الذي حضر من كل مدن سورية منتدبا ليصنع مدينة الطبقة المتنوعة من كل أطياف الشعب السوري. .
كما تواجد على هامش الطبقة الرسمية، العشوائيات التي بناها السوريين العاملين المعدمين الذين وجدوا بالمدينة الجديدة فرصة عمل تؤمن لقمة العيش لهم و لعائلاتهم. وتوسعت هذه العشوائيات مع الايام…
تتحدث الرواية – السيرة عن نمط الحياة بجوار نهر الفرات بدء من الرقة والطبقة على ضفتيه المسمى الزور التي كانت وعبر مئات السنين أراض زراعية خصبة يستثمرها المزارعين بشكل دائم مستفيدين من مواسم الفيضان السنوي على ضفتي النهر بشكل سنوي تقريبا.
أراضي الزور خضعت لملكيات متنوعة، فهي كانت أواخر أيام العثمانيين ملكيات واسعة مقتطعة للولاة وأصحاب السلطة. وكان يعمل أهل المنطقة في الأرض بأشكال مختلفة. ويحصلون من انتاجها على ما يسد الرمق. كان ذلك حتى حصلت الوحدة المصرية السورية عام ١٩٥٨م وقامت بالإصلاح الزراعي الذي أخذ بعض أراضي الملّاك ووزعها على الفلاحين. وجاء حكم البعث بعد ذلك وثبت ذلك…
يعتقد بقايا المالكين بانهم مظلومين بالإصلاح الزراعي. كما تواجدت القبائل والعشائر البدوية “الشوايا” بجوار النهر ممتدين بالصحراء المجاورة منذ مئات السنين أيضا. وكانت تعيش في حياة رعي وحرب سيطرة فيما بينها وتبادل المصالح مع سكان الزور من المزارعين…
عندما سيطر البعث على السلطة في سورية وعمل ليستثمر الفرات ومياهه. فقام بثلاثة سدود بالتعاون مع الروس كان آخرها وأهمها سد الطبقة هذا…
خلقت مدينة الطبقة الوليدة نمط حياة جديد جعل التداخل بين أبناء الشعب السوري المتنوعين في جميع المجالات بدء من التعليم والعمل في السد والخدمات. من الساحل والداخل من المكونات المجتمعية كاملة. سني وعلوي واسماعيلي ودرزي وكردي وعربي وآشوري وسرياني..الخ. تنوع ديني وطائفي وعرقي . ومن جميع الولاءات السياسية. اسلاميين اخوان وطليعة مقاتلة وشيوعيين معارضين للنظام ومعه. وبعثيين تابعين للنظام السوري وبعثيين هواهم وانتمائهم لبعث العراق…
هذا التنوع والتداخل ولّد لدى البعض خاصة بين المدرسين والمدرسات حالات حب وتمنيات زواج لم تنجح. وانتهت بالفشل كانت نهاية احداها كارثية حيث انتحر أحدهم بسبب رفض أهل حبيبته أن يزوجوه ابنتهم…
كان الجو العام في سورية متوتر سياسيا. فقد عمد الأسد الاب الى تثبيت سلطته في البلاد وقام باضطهاد المعارضين. حيث بدأ الصراع بين النظام والمعارضين، الطليعة المقاتلة الإسلامية كذلك الاخوان المسلمين. المدعومين من العراق الذي كان قد بدأ معركة ستستمر سنوات مع إيران. التي كانت علاقتها قوية مع النظام السوري. حيث بدأت تدخل في صلب المجتمع السوري وتخترقه بالتشييع. كان ذلك متناقضا مع هوى أهل المنطقة الشرقية الذين يميلون للعراق وحكمها. فيما بينهم صلة نسب وقرابة. وهنا توالدت الفعاليات الاستخبارية التي بدأت تحصي حركات الناس وأفعالها. وادى لاعتقال البعض من المعارضين من بعث العراق او الاسلاميين. وهرب البعض وتوارى البعض. واستمر حال الناس هناك بتطور المتغيرات في سورية حيث ثبت النظام حكمه. وقضى على معارضيه وحصلت مذابح حماة وحلب وجسر الشغور في أواسط ثمانينات القرن الماضي ضد الإسلاميين انعكست على الشعب السوري كله مزيد من القمع والفساد والخنوع. واستمر الحال إلى أن وصل الحكم للأسد الابن الذي ورث حكم سورية بعد وفاة والده. وثبت علاقاته الدولية والإقليمية. واستمر يقوم بدور النظام في لبنان وقتل الحريري. وقبلها طرد ابو عمار والفلسطينيين من لبنان الى تونس. وقبلها الدخول السوري الى لبنان في شبه احتلال استمر لعقود. هذا غير الموقف من العراق حيث دعم النظام التحالف الغربي ضد العراق بعد احتلاله للكويت ومن ثم احتلاله. أيام الأسد الاب. ثم ضخ الجهاديين الاسلاميين الى العراق واستخدامهم كورقة مساومة سياسية من قبل النظام السوري مع أمريكا. إعادة شرعيته وعدم ملاحقته ومحاسبته على جريمة قتل الحريري. في أيام الأسد الابن…
لقد وعد الأسد الابن السوريين بتغيرات إيجابية تطال حياتهم الديمقراطية، بعد استلامه الحكم وراثيا في عام ٢٠٠٠م.. وتولد حراك ربيع دمشق الذي سرعان ما وئدت وتم اعتقال أغلب الناشطين…
لقد كانت سورية ضحية المظلومية المجتمعية والسياسية بحيث تجاوبت مع الربيع العربي أوائل عام ٢٠١١م الذي بدأ بتونس ومن ثم مصر ووصل الى ليبيا واليمن والتحقت به سورية بعد حين…
لم تكن الطبقة بتنوعها المجتمعي والسياسي. وخلاياها النائمة والمستقيلة سياسيا. و مجتمعيا خارج هذا الحراك الذي شكل بالنسبة للسوريين جميعا احتمال خلاص وطني والدخول في عصر الحرية والديمقراطية…
إن اعتماد النظام على العنف الوحشي بحق السوريين. دفع الكثير من الشباب الثائر إلى اعتماد العمل العسكري. وهنا بدأت تظهر الخلايا النائمة الإسلاميين الجهاديين بقايا الطليعة المقاتلة. ولا ننسى تغلغل الفكر السلفي الوهابي الغير مسيس بداية في سورية د. ثم اصبح مطعما مع الفكر الجهادي في المعتقلات والسجون، وعندما بدأت التدخلات الدولية والإقليمية لمساعدة النظام ولدعم الثورة. كان هؤلاء نواة ما سيسمى لاحقا النصرة والقاعدة الذين كانوا قد تأسسوا في أفغانستان وايام الاحتلال الأمريكي وبعد ذلك في العراق أيام الاحتلال الأمريكي أيضا، وكانت الساحة السورية مسرح عملياتهم الجديد. بتخطيط من ايادي خفية عالمية متنوعة…
وكل يفكر بمصلحته من وراء ذلك.
إيران وحزب الله والميليشيات الطائفية وبعد ذلك روسيا دخلت لتساعد النظام ليسترد أنفاسه ويستعيد اغلب سورية التي خسرها. والثوار تم دعمهم بالبداية ثم تم تحويل الدعم بارادة غامضة لتظهر القاعدة “النصرة” والدولة الاسلامية في العراق والشام “داعش”. وتقوم بدور مؤازر للنظام ضمنا في محاربة قوى الثورة السورية. على أنهم “مرتدين” حربهم اولى من حربهم ضد النظام “الكافر”.
وهكذا وبعد مضي سنوات على الثورة السورية، غاب حضور الثورة السورية و طروحاتها الوطنية والديمقراطية ومطالبها المحقة بالحرية والعدالة وصون الكرامة الإنسانية. وظهرت داعش بتصرفاتها المشهدية المتوحشة. سيطرت على مدينة الرقة وأعلنتها عاصمة دولتها، وأصبحت عدوة العالم كله. مما حرف الاهتمام الغربي عن ملاحقة النظام المجرم السوري. لتظهر حرب العالم على الارهاب المتمثل بداعش تحت مسمى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب ومواجهة داعش…
في خضم هذا الحال واختلاط الأوضاع في سورية وتحويلها الى لعبة صراع دولي، السوريون ادواته وضحاياه. قتل الكثير من المقاتلين والشعب واعتقل الكثيرين. وهرب الكثيرين من عموم السوريين وأصبحت دول الجوار ملاجئ لملايين السوريين…
تنهي الرواية متابعتها سردها الروائي عندما بدأت معركة استئصال داعش من قبل التحالف الدولي. وقول الشيخ رئيس إحدى العشائر المهمة. الكل زائل ويبقى الشعب وثوابته العروبة والاسلام…
في التعقيب على الرواية أقول:
لا بد من الثناء على كاتب الرواية – السيرة لأنه في روايته هذه قد سلط الضوء على مدينة الطبقة ولادتها وظروف بناء سد الفرات. والحياة الاجتماعية والسياسية فيها عبر عقود أربعة تقريبا. كنموذج عن مدينة سورية. مع توسع في ربط الحال في الطبقة بسورية جميعها. بل بالتوسع للنظر الى علاقات سورية الاقليمية والدولية حيث تحدثت عن العراق من تدخلاته في سورية بدعمه الطليعة المقاتلة وحربه مع إيران واحتلاله الكويت واحتلال الامريكان له وتبعات كل ذلك عراقيا و على سورية والعرب…
تحدثت الرواية عابرة دون توسع عن استحضار النظام لوحدات حماية الشعب الكردية التابعين لحزب العمال الكردستاني وسيطرتهم على الشمال الشرقي السوري. ثم توسع سيطرتها برعاية الامريكان على شرق الفرات كاملا تحت دعوى محاربة داعش. وهيمنتهم على مناطق النفط والغاز حيث يستثمرها الأمريكان منذ سنوات. مع استغلال سلة الغذاء السوري التي حرم منها السوريين جميعا…
واقع الحال الآن احتلالات لسورية من أمريكا وايران وحزب الله والمليشيات الطائفية. وكذلك وحدات حماية الشعب ال ب ي د وقوات سورية الديمقراطية تحت رعاية الامريكان. هذا غير مناطق الشمال الغربي السورية حيث تتواجد النصرة “تحرير الشام” في إدلب وجوارها والشمال الغربي السوري بيد الجيش الحر والمعارضة السورية تحت الرعاية التركية. انه تقسيم واقعي داخل سورية مع حياة أشبه بالجحيم نقص لكل مقومات الحياة. يضاف له واقع الاغتراب واللجوء لملايين السوريين في دول جوار سورية مع كل ما يعانونه من ذل وفقر وقهر وحرمان وغياب أمان…
مليون ضحية سورية ومثلهم مصابين ومعتقلين ومئات الآلاف من المعتقلين والمغيبين…
شعب يبحث عن خلاص ولا امل في الأفق…هذا هو واقع حال السوريين الآن…
رواية “البناية 46 – سيرة الطبقة” للروائي السوري “محمد بشير خلف” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن مدينة الطبقة المحدثة لبناء سد الفرات بسورية، وكان هناك حي الثالث أو البناء 46 الذي يضم الجهاز التعليمي الذي حضر من كل مدن سوريا لتعليم أبناء العاملين، تدور الأحداث من خلاله.