ريما بالي روائية سورية من مدينة حلب مستقرة في اسبانيا منذ سنوات. قرأت لها رواياتها: خاتم سليمى وناي في التخت الغربي وغدي الأزرق وكتبت عنهم جميعا…
رواية “ميلاجرو” معناها بالاسبانية “معجزة” الرواية الأولى التي كتبتها ريما بالي ونشرتها عام ٢٠١٦م. تعتمد الرواية لغة المتكلم في سردها على لسان الشخصية المحورية فيها “لميا” الفتاة الحلبية التي تسرد عبر الرواية قصة حياتها في حلب وفي لجوئها بعد ذلك…
لميا التي تعود جذور عائلتها المسيحية الحلبية الى عقود سابقة. تحدثنا عن جدها وجدتها، جدها الذي كان يعمل في دبغ الجلود. والذي بادر بعد إنجاب اولاده الى اعطاء الكنيسة أحد أولاده يتدرج في السلك الديني المسيحي. وكان ذلك يحدث مع اغلب العائلات المسيحية. عاش ذلك الابن في الكنيسة سنوات تعلم فيها العربية والفرنسية، وقرأ كثيرا من الكتب هناك، مما جعله يرفض نمط الحياة الذي اختاره أهله له. عاد إلى أهله ورفض ان يعمل في مهنة والده وإخوته الدباغة، بحكم إتقانه الكتابة والقراءة فقد وجد فرصة سانحة لكي يتوظف في التأمينات الاجتماعية. كان ذلك في ستينيات القرن الماضي. كان الراتب في ذلك الوقت يكفي لبناء أسرة والعيش حياة الكريمة. وهكذا وجدت له العائلة الزوجة المناسبة التي أنجبت له ابنتان الثانية منهما لميا ثم ابن ثم ابنة أخرى …
لميا كبرت في جو عائلي مريح والدها المثقف وامها الحنونة. لا ترحيب عائلي بولادة الفتيات. لكن والدها كان عقلانيا وعامل بناته مثل ابنه الذكر الوحيد الذي جاء لاحقا. الذي حلّ مشكلتها مع حماتها التي كانت تنتظر الوريث الذكر حامل اسم العائلة…
لميا ومنذ طفولتها تميزت بشخصية قوية والذي تريده تحصل عليه. تميزت في دراستها وبعد تخرجها الدراسي وجدت فرصة عمل في أحد الفنادق الاثرية في حلب ، كانت ناجحة في عملها بحيث ادارت فندقا تراثيا بدأ بالتوسع وأصبحت له سمعة كبيرة، وأصبح له وفود سياحية تأتي من جميع بلاد العالم وخاصة أوروبا…
تعود الرواية بنا الى تاريخ سورية بتركيز شديد إلى أيام الوحدة وتضارب المواقف الشعبية من عبد الناصر معه وضده، وبعد ذلك انقلاب الانفصال، ثم انقلاب استلام البعث السلطة في سورية، ومن ثم استفراد الاسد الاب في حكم سورية عام ١٩٧٠م. تذكر بشكل عابر هيمنة البعث وتحول سورية لجمهورية خوف. وإن عقود من حكم الاسد الاب والابن جعلت الناس ضحية الفقر والتخلف والقهر والفساد والاستغلال والكل صامت خوفا من عاقبة أي موقف سياسي معارض للنظام. توقفت الرواية عند الصدام بين النظام والإخوان المسلمين في الثمانينات. وكيف تم قمع التحرك وحصول المجازر التي راح ضحيتها الآلاف في حماة وغيرها. كما توقفت عند وعود الأسد الابن في بداية حكمه عام ٢٠٠٠م. وكيف اعطى أملا بانبثاق أفق ديمقراطي وولادة المنتديات. لكن خيبة الأمل اصابت الكل وتم ايقاف ربيع دمشق واعتقل الكثير من الناشطين وأصبحت سورية جمهورية الخوف والصمت مرة اخرى…
لم تكن لميا مهتمة كثيرا بكل ذلك سوى أنها تدرك ذلك من تفاعلها مع والدها الذي زرع فيهم حب المعرفة والاطلاع…
لميا منشغلة في فندقها الناجح والمتوسع. وهي بسن الزواج. لكنها لم تكن تتقبل الزواجات التقليدية التي كانت تأتيها عبر امها. كانت ترفض وتنتظر زواجا يأتيها عن طريق حب يحتل كيانها. وزاد تمنعها عن القبول بأي عرض زواج هو تعرفها على اليكس المسؤول بالسفارة الاسبانية الذي أحبته بكل جوارحها وسلمته نفسها وحياتها. كانت حياة اليكس تعتمد الكتمان والتنقل المستمر من بلد لاخر. كانت لميا حبه الحاضر كل الوقت تنتظره لميا بلهفة وشوق. تعلم انها مظلومة بذلك وهو لا يعدها الا بعلاقة جسدية كلما تمكن من لقائها. وهي تنتظر ان يتحول هذا الحب لحياة مشتركة. يبدو ذلك مستحيلا. احست لميا ان عمرها انسحب منها. وهاهي في عقدها الخامس وطلّاب الزواج أنعدموا وحبيبها الاسباني غادر إلى العراق لسنوات…
وجاءت الثورة السورية. تحرك الشعب الذي كان من المستحيل أن يتحرك. واجه الموت بصدور عارية. وطالبوا بالحرية والكرامة والعدالة والحياة الأفضل. امتد الحراك لسورية كلها. واجه النظام الحراك بالعنف والسلاح والقتل والاعتقال. مما دفع الثوار للانتقال إلى العنف المسلح. وتوسعت دائرة التدخلات. مع النظام ومع المعارضين وأصبحت سورية مركز صراع دولي. يقود النظام وحلفاؤه محاربة السوريين وتشريدهم وقتلهم … أما القوى المعارضة المسلحة فقد تم اختراق بعضها وظهرت القاعدة وداعش وأصبحت حرب بالواسطة والشعب هو الضحية والموت هو العنوان…
تأخر الحراك الثوري بالوصل الى حلب. لكن معطياته ظهرت عند لميا بإلغاء الكثير من حجوزات الفندق الذي تديره. وبدأ يقل إنتاجه وتم تخفيض كوادره. ثم وعندما وصل الصراع حيث يتواجد الفندق في حلب القديمة الشرقية وأصبح الصراع بجواره اصابته القذائف وأحرقته. وجدت لميا أن لا أمل لها في البقاء في حلب رغم سكنها مع أهلها في مناطق سيطرة النظام. لكنها قررت أن تغادر حلب إلى أوروبا. اسوة ببعض اخوتها وبكثير من صديقاتها اللواتي سبقنها بعائلاتهم إلى أوروبا بحثا عن أمان وحياة افضل…
اخوتها الذين تزوجوا وانجبوا وكبر أولادهم وأصبحوا في سن الشباب. كان لا بد من أن يغادروا حفاظا على حياتهم. بقيت الأم والأب في حلب ورفضوا المغادرة…
استفادت لميا من تأشيرة شنغن لدخول أوروبا حصلت عليها بتوصية من حبيبها اليكس. في بداية الأحداث في سورية. واستطاعت الاستفادة منها والذهاب إلى النمسا. وطلبت هناك اللجوء الانساني. لكن السلطات هناك رفضت قبول طلبها واعادتها الى اسبانيا لانها كانت قد سافرت الى هناك و التقت بحبيبها ولذلك يجب ان تسجل لجوئها في اسبانيا. كان لجوئها الى النمسا ومن ثم إسبانيا مرّا على نفسها. حيث عانت من ظروف العيش مع الآخرين في المجمعات المخصصة حيث يتواجد اللاجئين. ومن النقص المادي. وحتى عندما تنزل عند احدى صديقاتها اللواتي سبقنها هنّ وعائلاتهم. سواء في النمسا او اسبانيا…
كان أكثر ما جرح لميا هو غياب حبيبها اليكس الذي لم يهتم لمصابها رغم أنها رهنت عمرها كله له. ركضت وراء حب مستحيل…
في النمسا تعرفت لميا على الدكتور جيرار الذي استعان بها في الترجمة مع اللاجئين. وحصلت بينهم شرارة الحب. لميا مشرّدة ومطعونة بحبها. وهو يكبرها بسنوات ومتزوج ولديه ثلاثة أولاد في سن الشباب. علاقته بزوجته سيئة. تزوجوا عن حب. خانته مرة واعتذرت وندمت. وهو كذلك خانها انتقاما. أصبحت حياته جحيم لغيرة زوجته وتربصها به. كان تعرفه على لميا بمثابة خشبة خلاص لروحه ونفسه. أما بالنسبة للميا فقد وجدت أنها عادت للحياة مجددا مع حب يتوج مأساة حياتها بسعادة ممكنة، سواء بتشردها من سورية او خسارتها لاليكس حبيبها. كان جيرارد التعويض الذي حصلت عليه. تركت الباب مفتوحا للحب وجعلته يتغلغل في حياتها وحياة جيرار وفي نفسها. كان ذلك في فترة انتظار جواب اعتراض لميا على إعادتها كلاجئة من النمسا إلى إسبانيا، عاشت مع جيرارد انتقال نفسي وجسدي إلى علاقة كاملة ولمرات كثيرة. أدركت أن جيرارد رجل حياتها. انتزعت اليكس من نفسها. وعانت من تأنيب ضمير انها تعمل لتأخذ جيرار من زوجته. لكنها تعلم ان جيرارد غير راض عن حياته مع زوجته. كانت راضية بهذه القسمة في الحياة. وإن تراكم المظلومية سمة الحياة ذاتها…
وجاء رد الحكومة النمساوية برفض اعتراض لميا على أن تكون لاجئة في النمسا وان تعود الى اسبانيا حيث يكون هناك لجوئها. عادت لكن بعد ان اصبحت علاقتها بجيرارد وطيدة وغير قابلة للانفصام. ساعدها بالسفر ودعمها ماليا في ايجادها منزل خارج مجمع اللاجئين هناك. واستمر يزورها ويلتقي بها بالسر عن زوجته. كلما سنحت الفرصة. وبعد آخر لقاء بينهما في اسبانيا تمنت أن تكون حاملة منه. فهي لا تفتقد في الحياة بوجود جيرارد الا شعور الامومة. بالفعل تكون حاملا بطفلتها المعجزة ميلاجرو…
لكن الفرحة لا تكتمل يموت جيرارد بجلطة قلبية قبل أن يعلم بوجود ابنة في رحم حبيبته لميا. تكبر الطفلة في رحم أمها ، تلدها لميا. وتعتمد على محام لها لكي يؤكد انتساب الطفلة لأبيها عبر DNA لأحد أولاده. وهكذا تعلم الزوجة بوجود الطفلة من زوجها وتلتقي بلميا. وتخبرها لميا انها لا تريد ارثا ماليا لابنتها. تريد فقط أن تنسبها لحبيبها والد الطفلة وهذا حقها…
تعبت كثيرا لميا في محاولة اقناع اهلها خاصة والدها ووالدتها بحفاظها على حملها. و خوفهم من الفضيحة والعار. اخوتها وصديقاتها تفهمنها وشجعنها ودعمنها قدر إمكانهم…
كانت لميا في الفترة الاخيرة قد عقدت العزم أن تنجز روايتها التي تدونها اول باول، بين مد وجزر، سارعت في إنجازها قبل ولادتها لابنتها ميلاجرو… وهكذا حصل.
تنتهي الرواية ولميا مع طفلتها التي ولدتها في المشفى بعملية قيصرية بوجود أغلب صديقاتها واهلها البعض بالمباشر والبعض اون لاين عبر وسائل التواصل الاجتماعي…
لميا وابنتها تبدآن رحلة حياة جديدة…
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
أن الرواية ممتلئة مكثفة، رغم طولها تبدو قادرة ان تطول وتطول لتعيد تشكيل الحياة الممتدة إلى اللانهاية. المعلومات طبقات متراكمة ومتداخلة بدءا من حياة لميا البطلة لتصل الى سورية وما حصل فيها في العقود الماضية حتى نهاية تاريخ إنجاز الرواية. حيث هناك أمل بحل القضية السورية بعد مباحثات جنيف ٤ لكن تبين بعد ذلك أنه وهم تبدد بسرعة…
تحدثت الرواية عن حلب بصفتها الحب الاول لريما بالي. مدينة متغلغلة في وجدانها إلى درجة العشق الابدي وحلب تستحق ذلك.
وتحدثت عن سورية. في العقود الأخيرة منذ الانقلابات التي رسخت حكم النظام البعثي المستبد. وكيف استطاع أن يهيمن على الشعب السوري بالقوة والبطش والاعتقال والقتل والتشريد. بحيث اصبح الشعب السوري مسلوب الحرية والارادة. مرت الكاتبة على أحداث الثمانينات والصراع بين النظام والإخوان المسلمين. ولم تذكر حراك القوى الوطنية الديمقراطية ضد النظام ذاك الوقت. وبطش النظام بالكل وحصول المجازر. كما مرّت على ربيع دمشق المجهض. وأن النظام غير جدي بأي ادعاء بإصلاحات ديمقراطية. ومرت كذلك على الثورة السورية السلمية الحقة. التي قام الشعب بها مطالبا بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية. وكيف واجه النظام الحراك الشعبي بالعنف وكيف توالدت المجموعات المسلحة. ودخلت امريكا واخذت النفط والغاز شرق سورية واستعادة حزب العمال الكردستاني الـ ب ك ك لحماية النظام وبناء شبه دولة كردية انفصالية في الشمال الشرقي السوري. ودخول روسيا سلاحها وطيرانها وصواريخها التي دمرت سورية ودخول ايران وحزب الله ليصنعوا حضورا طائفيا كقوة تقتل وتسلب وتعيث فسادا في كل سورية. هذا غير إطلاق القاعدة وداعش لتحول الثورة السورية من ثورة لحرب اهلية وحرب ضد الارهاب…
واقع الحال الآن سوريا مدمرة وشعبها مشرد ومحتلة وتنتظر خلاص لا يلوح في الأفق…
الرواية أولا وأخيرا رواية المرأة . المرأة الأم والحبيبة والأخت والزوجة وصانعة الحياة. المرأة المظلومة بالبدء ولكونها امرأة، التي لا تجد نفسها الا تابعة للرجل، وهي ضحية علاقة لا إمكان فصمها الربط الوجودي بين المرأة والرجل منذ آدم وحواء الى الان ، تنجح أحيانا هذه العلاقة وتفشل أغلب الأحيان…
تغلغلت الرواية في العمق الوجودي والعاطفي والنفسي للمرأة بحيث جعلتها تحت الضوء وانصفتها برأيي…
انتصرت الرواية للحب وجعلته اسمى معانى الحياة. رغم ظهور المحبين ضحايا كل الوقت. وسيف الظلم مسلط على حياتهم…
ماذا بعد :
ريما بالي في باكورة رواياتها تظهر متدفقة كنهر، واضحة كشمس، صادقة كصاحب رسالة، عميقة مثل بئر ليس له قعر. شفافة كالنور. لا تخفي ما يعتبره الآخرون عيب وعار. تضعه في الضوء ليحصل على حقه من الانارة والمعرفة والفهم والتفهم…
رواية “ميلاجرو -بين طاحونة الحرب.. ومعجزة الحياة” للروائية السورية بنت حلب “ريما بالي” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي للكاتب “احمد العربي” الرواية تدور حول “لميا” لميا بجذور عائلتها المسيحية الحلبية، تحدثنا عن جدها وجدتها، جدها عمل في دبغ الجلود. واعطائه الكنيسة أحد أولاده ليتدرج في السلك الديني المسيحي. وتتابع مسيرة لميا.