اكتشف الإنسان عبر التجربة والممارسة أنه الكائن الوحيد العاقل في هذا العالم. وبعد ذلك لم يلبث إلا قليلاً حتى تأكّد وتثبّت -بالخبرة وبالقياس على نفسه- من أن كل حديث يتطرق بالوصف لبعض الكائنات المتخيلة بأنها كائنات مدركة ومفكرة، ما هو إلا حديث خرافة راجع إلى رغبة الإنسان في استنساخ صورة أكمل لنفسه عن نفسه. وفي هذا الإطار يمكننا القول: إن أهم حقيقة اكتشفها العقل عن نفسه هي اعترافه بأنه قد يقع في الخطأ، وأن أحكامه التي ينتهي إليها في زمان ما قد لا تكون صحيحة، مما جعل العقل يعترف بحدوده وحاجته الدائمة إلى مراجعة أحكامه. ولذا فإن نقد العقل لنفسه، عبر تاريخ الفلسفة، ربما كان واحداً من أثمن الفصول التي دونتها الحضارة الإنسانية في نقد ذاتها وتبين حدودها. وحسْبُ المرء العودةُ إلى ما كتبه (فرانسيس بيكون 1561-1626) حول (أوهام العقل) في القرن السادس عشر، أو مطالعة ما كتبه الفيلسوف الألماني الكبير (إيمانويل كانط 1724-1804) عن أخطاء العقل والنقائض التي قد تنتهي إليها استدلالاته. وعلى الرغم من كل ذلك يبقى العقل هو الملكة المثلى طالما أنه مؤهل لاكتشاف الأخطاء وتصحيحها.
ومع ذلك فقد توهم العقل الإنساني أنه لكي يكون قادراً على السيطرة على الأشياء والهيمنة عليها ضرورة أن تكون الأشياء ثابتة على حالة واحدة. كما توهم أيضاً أن التغير الحادث في الأشياء هو عرضي فيها إلى الحد الذي لا يغير في طبيعتها شيئاً ولا يبدل في ماهيتها كثيراً أو قليلاً. ومن هنا ربط العقل الإنساني بين ثبات القانون في الطبيعة ودوام الأشياء على أحوال محددة لا تبرحها أبداً.
وقد نقل العقل الإنساني هذا الوهم من عالم الطبيعة إلى العالم الإنساني والاجتماعي، فخلط بذلك خلطاً شديداً بين التغير في الطبيعة الذي قد لا يغير كثيراً في ماهية الأشياء الطبيعية وبين التغير فيما هو إنساني واجتماعي، الذي إن تحدثنا عن ماهيته، فإنما نتحدث عنها بمعنى خاص جداً مختلف كل الاختلاف عن معنى الماهية في العالم الطبيعي المساوي في نهاية المطاف لضرب من السكون الذي تم تصوره على أنه ما يمنح الأشياء ماهيتها وهويتها بسبب من وهم مفاده أن الماهية والهوية تكافئان الثبات وعدم التغيّر.
غير أن نقل هذا الخطأ إلى العالم الاجتماعي والإنساني قد أفضى إلى إنتاج صورة زائفة عن حقيقة الإنسان والحقيقة الاجتماعية. بل لقد لعب دوراً سلبياً لا في تحديد معنى المجتمع فحسب، وإنما أيضاً في تحديد ما تكونه الأمة. وقد تعين هذا الخطأ في المجال الاجتماعي والإنساني فيما أطلق عليه عبر تاريخ الفكر العربي اسم (الثوابت)، وعلى المستوى المنطقي والأنطولوجي (الماهية والهوية).
وبمقتضى ذلك أصبح لكل شيء هوية، وهذه الهوية لا تنفك عن ماهية الكائن ذاته أبداً. فالماهية هي المضمون الجوهري لهذا الكائن أو ذاك، بينما الهوية هي التجلي الدائم لماهية هذا الكائن، لا فرق في ذلك بين أن يكون هذا الكائن أمة أو مجتمعاً أو فرداً. والواقع إن مرد هذه الأخطاء جميعها إلى التصور الخاطئ للوجود. فالوجود ليس محلاً أو مكاناً تنبسط الأشياء على سطحه فتكتسب استقلالاً يمنحها الماهية، وتكتسب دواماً يمنحها الهوية. فالوجود، في حقيقته، ليس إلا طاقة، وليس وراء هذه الطاقة شيء آخر يسندها أو يمسك بها. إنها تمسك ذاتها بذاتها، وتسند ذاتها بذاتها. فهي مكتفية بذاتها. وبالتالي فإن كل ما نشهده، في هذا العالم، ليس إلا صوراً لطاقة الوجود هذه. وأما ما ننسبه إلى طاقة الوجود المتجلية، فليس بشيء سوى الوجود ذاته. ولكن العقل – من باب تسهيل الإدراك والاقتصاد في الجهد – يكثف هذه الطاقة، المتجلية في صورتها اللانهائية، بنوع من الاختزال، في كيانين وهميين هما الماهية والهوية. وعلى الرغم من أن لهذا الاختزال نفعه وجدواه، من الناحية العملية، فإن العقل ذاته هو الذي ينبهنا إلى هذا الخطأ الذي يرتكبه العقل ذاته. فعظمة العقل، أو الكائن العاقل، لا تكمن في أنه لا يخطئ، بل هي كامنة في أنه يخطئ، ولكنه قادر على تبين الخطأ والاعتراف به وإصلاحه أيضاً.
وقد يكون من شأن الجمع بين الماهية والهوية أو التوحيد فيما بينهما أن يفضي إلى فكرة ثالثة، أو بالأحرى إلى وهم ثالث ينضاف إلى الوهمين السابقين، وهم الماهية ووهم الهوية. وما نعنيه بالوهم الثالث هو ما يسمى في الفكر العربي الحديث ” بالمقومات” التي يستند إليها هذا الشيء أو ذاك في قيامه وديمومته. ولقد التصق هذا الوهم أو هو قد ارتبط أشد ارتباط بما ظن العرب أنه ضروري لولادة الأمة وبقائها واستمرارها وانبعاثها. ولذا أجمع فلاسفة القومية العربية، أو كادوا على أن مجموعة محددة من المقومات هي التي أهلت الأمة العربية للبقاء والاستمرار رغم عوامل الصيرورة والتغير التي فعلت في هذه الأمة فعلها.
وما فات العرب إدراكه – ولم يزل يفوتهم – هو الفارق الحاسم بين تصور الماهية والهوية والمقومات الثابتة أو المستمرة في الطبيعة و بين تصورها في مجال الحياة الاجتماعية والإنسانية بصفة عامة. فالفرد الإنساني لا يقوم وجوده في ماهيته، بل ماهيته قائمة في وجوده. فهذا يعني أنه يصنعها وينتجها في كل لحظة لكونه حراً. وكذا الأمر بالنسبة لهويته ومقومات ديمومته وبقائه. والأمر نفسه ينطبق على المجتمع والأمة. فوجود الأمة ليس قائماً في ماهيتها، بل ماهيتها قائمة في وجودها. وهذا يعني أن الأمة الحية تصنع ماهيتها في كل لحظة في صور لا حصر لها من الإبداع والابتكار. أما الأمم الميتة، فهي التي بوسعنا أن نقول عنها إن وجودها قائم في ماهيتها. والأمر نفسه ينطبق على الهوية وعلى فكرة المقومات أيضاً.
ومعنى ذلك أنه يتوقف على اختيار الأمة لنقطة ابتدائها أن تكون من الوجود إلى الماهية، أو من الماهية إلى الوجود، نمط حياتها وأسلوب تفكيرها وطريقة وجودها. وبكلمة واحدة يتوقف على اختيارها الوجود نقطة ابتداء لها أو الماهية نقطة ابتداء بديلة اختيارها بين أن تكون أمة حية أو أمة ميتة.
من يربط ماهيته وهويته بوجوده يكون الحاضر و المستقبل ماثلين في ذهنه وسلوكه ، ويجهد نفسه للخضوع لمتطلبات ذلك من الزوايا كافة، أما من يربط وجوده ويقيده بالماهية فمعناه أنه يوحد بين وجوده وبين الماضي ، ومن ثم فهو يغلق جميع الأبواب، بل وحتى النوافذ التي يمكن أن تربط بينه وبين الحاضر والمستقبل على حد سواء .
وعلى سبيل الخاتمة نقول: إن ما يجعل فكرة المقومات خالية من المعنى هو أن كل عنصر منها قد كان دوماً يحيل إلى كيان سديمي غير محدد المعالم. ومع ذلك فإن كلاً منا قد كان يملأ هذا السديم بما يتفق وتصوراته الراهنة، مع أنه من المفترض أن يكون محتوى هذا العنصر أو ذاك ينتمي إلى الماضي بحكم طبيعته الماهوية. ولم يكن من مفر لأي منا إلا أن يفعل ذلك، لكوننا جميعاً أبناءً للعصر الذي نحيا فيه، وهيهات لأي منا أن يمتلك المقدرة على الخروج من عصره ليعيش في عصر سبق أو في عصر لم يأت بعد. ولأن الأمر كذلك، فإن (فرضية الثوابت) أو (المقومات) لا تصلح لأن تكون نقطة ابتداء بدلالاتها السابقة لأي مشروع يستهدف النهوض أو التقدم. ومن الأصلح لنا العزوف عنها وتركها للمؤرخين المحترفين يختلفون حول تحديد مضامينها وتعيين حدودها. وما يصنعه المؤرخون أمر ضروري ومطلوب، ولكن لأغراض التاريخ نفسه، وليس من بينها أبداً أن نتعلم منهم كيف نتصرف حيال حاضرنا. والسبب في ذلك بسيط جداً وواضح تماماً، وهو أن التحديات الراهنة هي ما علينا الاستجابة له، وابتكار كل ما هو ضروري لنصبح شركاء في عالم الهنا والآن.
المصدر: تلفزيون سورية