نزار قباني ||  الغائب الحاضر

حسن علي الخليل

إذا كان أحمد شوقي قد لٌقب بأمير الشعراء فإن نزار قباني شاعر الشعراء وبدون منازع لأنه الشاعر الوحيد الذي تفرد بشخصية وأسلوبِ وشعر ومواقف لم يتصف بها أحد غيره لا سابقاَ ولا الآن ولا مستقبلا.

فنزار عاش حياته على سجيتها وطبيعتها لم يتكلف ولم يتصنع بل يقول كلمته كما ترد على لسانه بأسلوب شعري سهل وواضح وبسيط يفهمه المتلقي مثيرا لذائقته فهماَ وحفظاَ وفي مواقفه النابعة من قلبه وعقله تجاه الأرض والوطن والناس فيه والتي هي ليست لأغراضِ شخصيه أو منافع ذاتية.

فهو حينما يكتب القصيدة يكتبها انطلاقا من قناعته ومن إحساسه ومن مشاعره فنكسة حزيران أيقظته وهزته وغيّرته من شاعر يكتب شعر الحب والحنين إلى شاعر يكتب بالسكين حسب قوله:

يا وطني الحزين.. حولتني بلحظةٍ

من شاعرِ يكتب شعر الحب والحنين

لشاعر يكتب بالسكين

في هذه القصيدة هجا عبد الناصر رغم هالة عبد الناصر وعظمته وحينما اتخذت السلطات المصرية اجراءاتٍ بحقه بمنع دخوله مصر ومنع بيع دواوينه في مكتباتها ووقْف اذاعة الأغاني من شعره..

أرسل القصيدة إلى عبد الناصر الذي قرأها وأمر بإلغاء تلك الإجراءات بقوله: (مهوّ الزلمة موجوع زيُّه زينا رجعوا كل حاجه زي ما كانت)

وحينما مات عبد الناصر رثاه بأكثر من قصيدة وقال:

زمانك بستانٌ وعصرك أخضر                وذكراك عصفور من القلب ينقرُ

ملأنا لك الأقداح يا من بحبه                 سكرنا كما الصوفي بالله يسكرُ

تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا            وما كنت عن وعد الهوى تتأخرُ

أي كلام هذا وأية بلاغة وسحر فيه. هكذا يقف الرجال مع الرجال ويكتسب بعضهم بعضا فهل اتخذ شاعر مثل هذا الموقف وبعده.

وحينما قلت نزار شاعر الشعراء كنت انطلق من هذه الفردانية وغيرها ولو لم يكن هناك امير للشعراء لسميته أميرهم.

ولو نظرنا إلى غيره وليكن المتنبي بعظمة شاعريته وهو يتوسل لكافور الإخشيدي بقوله:

أبا المسك هل في الكأس فضل أنالُه               فإنّي أغنّي منذ حين وتشربُ

وإلى الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي لم يترك حاكما أو أميرا إلا وتسوله ومدحه وهو الشاعر الكبير والماركسي العريق مما حدا برفيقه غالي شكري الذي ألف بحقه كتيبا عنوانه: “من الأرشيف السري للثقافة المصرية”. ونزار حينما يهجو او يمدح فإنه يفعل ذلك لهدفِ شاملِ عام وليس لغاية في نفس يعقوب. فهو هجا السادات لأنه تفرد بالصلح مع اسرائيل وهجا الملك حسين لأنه قتل الفدائيين في ايلول الأسود بقوله:

وقاتلٌ في ذُرا الأردُنِّ محترفٌ              ما حرك القتل من أعصابه عصبا

ومدح الفدائي لغاية واحدة هي أنه يذود عن الأرض والعِرض فقال:

الفدائيُّ وحده يكتب الشعر                وكل الذي كتبنا هُراءُ

إنه الكاتبُ الحقيقيُّ للعصر                  ونحن الحُجّابُ والأُجراءُ

فنزار لم يكن مداحاَ ولا قداحا إلا بسببِ واحد هو أنه صاحب قضية لا يساوم عليها هي قضية الوطن ومحورها فلسطين ويرفض أن يكون الشعر بغير هدف أو غاية أو وسيلة أو بُوقاً يخدم الظلم والطغيان فيقول:

نرفض الشعر أن يكون حضاناَ           يمتطيه الطغاةُ والأقوياءُ

كل شعرٍ معاصرٍ ليس فيه                غضب العصرِ نملةُ عرجاءُ

والشعر عنده رسالة سهلة وواضحة يوصل بها للناس ما يريد عندما قال:

نرفض الشعر عتمة ورموزا                 كيف تسطيعٌ أن ترى الظلماءُ

وحينما يغضب ويشتكي فإنه يلجأٌ إلى ذلك الوطن ليلقي بِهَمّه اليه فلم يجد إلا دمشق يشكو لها معاناتِه فيقول:

دمشقُ يا كنز أحلامي ومروحتي              أشكو العروبة أم أشكو لك العَربا

أدمت سياطٌ حزيران ظهورهمٌ              فأدمنوها وباسوا كف من ضربا

والعظماء كذلك فيستجدي سيف خالد بن الوليد

يابن الوليد ألا سيفٌ تؤجّره      فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا

ويتذكر صلاح الدين وطارق بن زياد ويستنكر كل ما يراه غيرَ مُجدٍ كتعللنا بالتاريخ والاعتزاز بمآثر الأجداد مالّاً من ذلك وماجّاً له حينما يقول:

يا زمان المعلقات مللنا              ومن الجسم قد يُملُّ الرداءُ

اما المثقف الانتهازي فيقول عنه:

وإذا أصبح المفكرٌ بوقا              يستوي الفكر عندها والحذاءٌ

ومسؤولية نكسة حزيران يحمّلها للجميع ولا يستثني أحدا

ما لنا مالنا نلوم حزيران                    وفي الإثم كلنا شركاءُ

من هم الأبرياءُ؟ نحن جميعا                حاملو عارِه ولا استثناءُ

وهذا العار هو هم ثقيل وكبير لا يجلب له إلا الألم والحزن الذي يحمله بداخله

إن في داخلي عصورا من الحزن             فهل لي إلى العراق التجاءُ

أما ملوك الخليج وأمراؤه فتدل عليهم عباءاتهم التي لولاها لما عرفهم

لولا العباءات التي التفوا بها              ماكنت أحسب انهم أعرابُ

يتقاتلون على بقايا تمرة ٍ                  فخناجر مرفوعةٌ وحرابُ

وحينما يهجو وينتقدٌ يحسٌ بمرارة ووجع ما قال ويعترف بذنبه قائلا:

أنا إن أكن قد كويتٌ لحمً بلادي               فمن الكَيِّ قد يجيءُ الشفاءُ

وهذا ما كنا نسميه في اجتماعاتنا الحزبية (نقد ذاتي بنّاء).

ونزار رغم غيابه حاضرُ بشعره يعيش معنا نذكره ونتذكره ونستشهد بشعره الذي نميزه بخصائصه التي ذكرنا بعضها عن شعر غيره، ومن منا لم يحفظ لنزار ومن لم يعجب بشعره ألم يتداول الناس أشعاره ويتبادلها سراَ وعلانيةَ. إنه موجود في قلوبنا وعقولنا وبيوتنا وحاضرٌ بيننا رغم رحيله، وهو مدرسة أدبية اسمها المدرسة النزارية.

هذا قليل من الحديث عن خصائص وسمات شعره وحضوره سنكمله من خلال حديثنا اللاحق بعناوين نزار والمرأة، ونزار وعبد الناصر، ونزار ودمشق. الخ

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. الشاعر “أحمد شوقي” لٌقب بأمير الشعراء ليكون “نزار قباني” شاعر الشعراء وبدون منازع، [يا وطني الحزين.. حولتني بلحظةٍ .. من شاعرِ يكتب شعر الحب والحنين .. لشاعر يكتب بالسكين] وفي رثاء الرئيس القائد جمال عبد الناصر [زمانك بستانٌ وعصرك أخضر .. وذكراك عصفور من القلب ينقرُ …. ملأنا لك الأقداح يا من بحبه .. سكرنا كما الصوفي بالله يسكرُ] إنه شاعر الشعراء ، الحاضر الغائب.

زر الذهاب إلى الأعلى