خلال الشهور والأسابيع الماضية، وقعت سلسلة غارات وعمليات قصف ضد “الحزب الإسلامي التركستاني”، الفصيل الجهادي الأويغوري الناشط في مناطق هيمنة “هيئة تحرير الشام” (النصرة) شمال سوريا. ذلك أن التنظيم الذي يتحدر أعضاؤه من إقليم شينجيانغ (شمال غربي الصين، المعروف أيضاً بأدبيات التنظيم باسم تركستان الشرقية)، بات اليوم هدفاً بشكل متزايد لغارات النظام والطيران الروسي. على سبيل المثال، في النصف الثاني من العام الماضي، استُهدفت مقرات للتنظيم تحوي طائرات مسيّرة، وهي قدرات حديثة، إذ أن “التركستاني” عُرف سابقاً بنوعية مقاتليه (الانغماسيين) واقدامهم على التضحية في ساحات المعركة (وليس بسلاحه النوعي). خلال الشهور الماضية، وفيما صعّدت الولايات المتحدة غاراتها على قادة تنظيم “حراس الدين”، الموالي لتنظيم “القاعدة”، بدا أن الطيران الروسي يُحاكي التصعيد الأميركي، ولكن في استهداف “التركستاني” والتركيز عليه. هكذا قصفت طائرات روسية في نهاية أيار (مايو) الماضي، مستودع ذخيرة للحزب الإسلامي التركستاني في جسر الشغور حيث قضى 6 من عناصره، ثم تلاها قصف لرتل للتنظيم في جبل الزاوية. وهذه الهجمات المستمرة خرق واضح لهدنة السادس من آذار (مارس) الماضي.
ولكن لماذا استهداف “التركستاني” في هذا الشكل والتوقيت؟
بالإمكان رصد مؤشرين خارجي (صيني) وداخلي على ارتباط بالتطورات شمالاً.
أولاً، ترى بكين في “التركستاني” مشروعاً أميركياً بالأصالة وتركياً بالوكالة، من أجل ضرب الصين من الداخل، عبر دعم كل حركة “تمرد” من هونغ كونغ وتايوان وإقليم التيبيت، إلى شينجيانغ. وهذه مقاربة تنفي عن التنظيم أي قضية وهوية خاصة به، سوى التطرف أو “الإرهاب” من جهة، والتبعية للخارج من جهة ثانية. وفقاً للرواية الصينية، نما هذا التنظيم الجهادي المولود من رحم “الحركة الإسلامية لتركستان الشرقية” ابان الحرب الأفغانية، بتمويل ودعم من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي أي آي)، تماماً مثل تنظيم “القاعدة” حتى تسعينات القرن الماضي (لا تُوفر بكين أدلة لتأكيد أو دعم روايتها في هذا الشأن).
تسهيل أنقرة دخول عناصر التنظيم الى سوريا وتشكيله هناك في ظل التأثير التركي الواضح على المجريات في الشمال السوري، يدفع الجانب الصيني الى الاعتقاد بأن هناك يداً أميركية خفية تدفع تركيا بهذا الاتجاه، سيما أن واشنطن تحتضن وتمول المعارضة “الأويغورية” في الخارج.
وفقاً لأحد مواقع مشروع “الحزام والطريق” الصيني على الانترنت، هناك رابط بين بقاء “التركستاني” في الشمال السوري، والدور المنوط به مستقبلاً، وبين خطط حيوية لبكين في إقليم شينجيانغ، موطن أقلية الأويغور. تحديداً، تُخطط الصين لربط مدينة كشغر ذات الغالبية الأويغورية، بمدينة غوادار الباكستانية على شاطئ المحيط الهندي، من خلال مشاريع بنى تحتية (تشمل أنابيب نفط وغاز) في سياق ما يُسمى بالرواق الاقتصادي الصيني-الباكستاني الذي بدأ العمل به عام 2013. وفقاً لموقع “الحزام والطريق” الإخباري، ستصير غوادار جزءاً من سلسلة اللآلئ التجارية للصين على المحيط الهندي، وقد تُعفي شحنات النفط الصيني من المرور بمضيق مالاكا الماليزي الخاضع للسيطرة البحرية الأميركية.
وهذا المشروع يتعرض لنقد أميركي، تحديداً الحديث عن خداع صيني ومحاولات استدراج ديون باكستانية ضخمة تمنح بكين نفوذاً متزايداً. بغض النظر عن صحة التآمر الأميركي ضد الصين في هذا المجال من عدمه، القناعة الصينية بوجود مثل هذه السياسة، كافية لولادة شعور بالحاجة الملحة للتحرك استباقياً من خلال حلفاء بكين.
والمؤشر الثاني، أي الداخلي السوري، يدفع بهذا الاتجاه أيضاً. بيد أن “التركستاني” برز قبل أسبوع كجهة تحكيمية بين الفصائل الجهادية في الشمال السوري. بعد توتر ومواجهات بينهما أودت بحياة 29 شخصاً، اتفق تنظيما “هيئة تحرير الشام” و”حراس الدين” على التحكيم عبر “قضاء” الحزب الإسلامي التركستاني، وتسليم المتورطين في التحريض اليه. وهذا يضع التنظيم في موقع نفوذ، كونه الأقدر على إدارة الخلافات بين المجموعات الجهادية النافذة.
صحيح أن أمير الهيئة أبو محمد الجولاني ربط في مقابلته الأخيرة مع “مجموعة الأزمات الدولية” بين حلفه مع “التركستاني” من جهة، وبين حصر نشاطه في الداخل السوري، وليس الصين، من جهة ثانية. إلا أن للتنظيم أولوية صينية واضحة وصريحة، إذ لا يرى دوره على الساحة السورية إلا معبراً لمواجهة أخرى تلوح بداياتها في الأفق.
المصدر: المدن