قراءة في ديوان الشعر: جدير بعزلة الغريب

أحمد العربي

صالح لبريني شاعر مغربي متميز وغزير الإنتاج، تواصلنا مع بعضنا عبر الفيسبوك الذي اصبح اكبر قهوة عالمية يلتقي بها أصحاب الهوى الواحد والمتنوع: الثقافة بصفتها الهوية الأعلى للذات الانسانية من رواية وشعر ومسرح وقصة قصيرة. التقينا اطلع على صفحتي، تعرف البحر الذي أغوص فيه مستخرجا لالئ العربية من قراءات الأدب والرواية خاصة وكثير من الكتابة عن الثورة السورية ووجع السوريين المديد…

ارسل لي الشاعر صالح لبريني دواوين شعره وتركني أبحر فيها بكل حب وامتلاء نفسي وسرور…

هذه دواوينه حسب تاريخ نشرها :

1- حانة المحو   منشورات اتحاد كتاب المغرب 2015.

2- تغريبة الناي منشورات Eddition Plus الدار البيضاء 2017.

3- جدير بعزلة الغريب منشورات بيت الشعر بالمغرب 2018.

4- الزنجي منشورات منتدى الفكر العربي السادس بفاس 2019. فاز بجائزة الشاعر عبد السلام بوحجر في السنة ذاتها.

5- كورال العابرين ، الهيئة المصرية العامة للكتاب بمصر 2022.

6- أبدية كاملة النقصان، دائرة الثقافة، الشارقة، 2022.

7- أدغال تفز بداخلي ، دار خطوط وظلال، عمان 2023.

8- مقيمون في نزل الانتظار،  دار العائدون للنشر، عمان 2024.

قبل التحدث عن بعض دواوين شاعرنا صالح لبريني أقول:

ان الشعر كصنف أدبي مقرون بحالة شعورية ترتبط بذات الشاعر وما عاش و محيطه والعالم وما شعره اتجاهه، وحوله كقطعة من روحه الى شعر يقول من خلاله ما رسبت في نفسه وعقله وروحه. لذلك تكون المشاعر التي يعيشها الشاعر ويعبر عنها خليط من الوجدانيات والترحال النفسي بين عوالم ذاته والعالم المحيط، بين ذاته وماضيه مقترنا بماضي العالم والمستقبل المأمول كما يحلو ويأمل لنفسه وللعالم…

لكل ذلك ليس الغوص في الشعر كالإبحار في الرواية، لكل مجاله ومتعة اكتناهه والاستمتاع به…

نعم الرواية والشعر يعطيا المتلقي القارئ هذا الشعور بالامتلاء الشعوري المعنوي العقلي المعرفي. لكن لكل منهما تذوق و طعم واحاسيس مختلفة…

بدأت قراءة ديوان حانة المحو لصديقنا صالح وكانت باكورة شعره منذ أقل من عقد، اعتقد انها كانت ممتلئة بما ترسب في ذاته من تجربته الحياتية الشخصية. فهو ابن تلك القرية النائية البعيدة في عمق الصحراء المغربية، يستعيد والده المتوفى ممتلئا بيتمه وظروف حياته القاسية. متجرعا الحزن واليأس يحوم حوله، ونزوع للهروب من الحياة يعايشه، لعله يهاب مواجهة العالم المحيط…

أما ديوان تغريبة الناي الذي صدر بعد ديوانه الأول فقد ترك في نفسي انطباعات سأسردها هنا كما عشتها لحظة القراءة:

ضجر، يأس، استدعاء للموت والعدم وصرخة في وجه الحرب، حضور الموت واليتم، وخيبة من الوطن؟!!. سوداوية ، احساس عميق بالوحدة، وافتقاد للصداقة ، وحزن على حب آفل…

يرتفع شاعرنا هنا عن الذاتي ليدخل في اكتناه المعاش في العالم متحدثا عن الحرب يساوي الخراب: “سادن الخراب صانع اليأس والفجيعة”.

الموت حاضر كل الوقت: “جرثومة العبث الضارية في الحياة”.

يدخل بالمباشر بما يحصل من وأد ثورات الربيع العربي، دون تصريح مباشر: “وأعددت ميثاقا جديدا لاغتيال الثورات”…

أما ديوان جدير بعزلة الغريب فهو انخراط مباشر من الشاعر في الربيع العربي وبالأخص السوري ومآلاته وواقع الفجائع المصاحبة له وما يصاحبها من ألم:

هاهي قصيدة “ايلان ابد الحياة في الموت” تستعيد حكاية الطفل السوري ايلان الذي غرق في البحر حينما كان بصحبة عائلته هاربا من الموت الحاضر كل الوقت على رقاب السوريين جميعا، ونشرت صورته على شط البحر الذي لفظه ولفظ معه العالم ضميره وانسانيته، ميتا على رمال الشاطئ:

تقول القصيدة :”ايلان يا وجع بردى

الشمس ماعادت تستيقظ على ندى دمشق

الظلال التي ربّاها الأجداد ماعادت تحضنها أشجار حلب.

الأغنيات الرعوية اختنقت صدفة في ناي درعة”

ويكتب أيضا في ذات القصيدة:

“أيتها الحياة

الطريق الى دمشق يكتبه حداد الوقت

تاريخ الجثامين

سير الدسائس

مقاصل لصبح يعانق سماء الزبداني

يفيض بهيبة الامداح في قباب حمص

تغريدة الأسى في وجه الندم

تراتيل حزينة في مدائن الله

عتمات تظلل قناديل البيوت

مآتم تربي اليأس في محاجر الامل

خراب يعانق رأس المتنبي المغتال

بضغينة الليل

ببلاغة الجهل

يفقأ بصيرة المعري

يتحالف مع العتمات

ويناصر محبة المكائد”.

وهكذا الى آخر القصيدة.

ثم ينتقل إلى قصيدة: الطريق الى دمشق.

“الطريق الى دمشق ممزق

وهذا الحلم الذي زين المحيط

ذابل”

يتابع:

“الطريق الى دمشق انين

دم نازف يؤرخ وجع النازحين

في اتجاه المنافي

يغني زفير القرى النائمة في الموت

اليقظة على كورال الجثامين

دعوات المعطوبين الممزوجة بملح الدمع

المقابر ضاقت

والمدى يختنق

ولا أمل في شموس تقيم في شرق الغروب”

“الطريق الى دمشق خراب

وهذا العدم الشامخ في بردى

يعانق غبار القبيلة

عطش سماء يلوي عنق الربيع

يزرع الامل

ويبتسم في وجه التيه

لا الغبار يدوّن حنين الحقائب

حيرة الأقدام في عزلة الابد

لا الغيم يحنو على جفاف الشفاه

لا اليد ترشق اليد بمحبة العيد

هذا المنفى مقبرة لذكريات حلب

وشهوة الرقة لليونة الجدران

ووجع حمص حين يشتد الألم

املا في يقظة الآتي”

“الطريق الى دمشق كئيب

لا ناي يذكرني بعائلة الرعاة

لا اغنيات تصافح شفاه الصبايا

لا جرار تحفظ ماء بردى

تستند على ظهور الأمهات

فقط هناك

ليل يتحالف مع خراب الموسيقى

وفراغ الأعشاش من شغب الهديل

خراب يعلن دولة الموت

ممالك الأسى

ويمسك كف الحرب”

“الطريق الى دمشق فراغ

ووحدي يصاحبني نعيب

يصلي في مآذن الخراب

يحاصرني صمت الكمنجات

حزن الأغنيات النائح بلواعج الامهات

ذبول الفرح في عيون النايات

وصولة الموت النابحة في وجه الحياة

ويقذفني التيه إلى خطو شاخ في مسالك

السأم”.

تنتهي القصيدة وينتقل شاعرنا الى موضوعات اخرى تثير الشجن في اطراف اخرى لوجع الانسان في هذا العالم الظالم…

لن استطيع ان اعطي دواوين شاعرنا صالح لبريني حقه فكل ديوان من دواوينه الثمانية يحتاج وقفة مطولة ودخول الى عوالمه و اكتناه المعاني والصور والعبر ومخاوفنا في هذا العالم، واملنا الذي يكاد أن ينعدم من عودة الحقوق وتحقيق العدالة وصون حياة الإنسان وكرامته وحريته…

في التعقيب على قراءتي لما قرأت من دواوين شاعرنا الأصيل المتميز المبدع صالح لبريني اقول:

لقد أكدت دواوين شاعرنا وقصائده ان الانسان اخو الانسان في كل زمان ومكان، دمه واحد، وكذلك وجعه، امله ويأسه، بؤسه وسعادته، ولا حدود تمنع أن يعيش كل انسان الم وحب وأمنيات وفجائع الانسان الاخر في كل مكان.

نعم الشاعر صالح لبريني المغربي الساكن في حضن المحيط الأطلسي يعانق وجعنا السوري وكأنه خرج للتو من مجزرة في البيضا السورية يحمل رفات ابنته وينظر لزوجته المذبوحة امانه بقلب كسير و ضعف ويأس من عدالة العالم. أو يجلس هناك على حافة العاصي في حمص ويراقب سيل الناس الذين كانوا هناك قتل الكثير واعتقل الكثير وتهجر الباقي وبقيت حمص خاوية تبكي أهلها وكذلك داريا والمعضمية وكل مدن وبلدات الوجع السوري…

شاعرنا يشاطرنا المنا نحن السوريين وكأنه ألمه، وهو ألمه فعلا، تجمعنا العروبة والاسلام والانسانية ووحدة المظالم والظالمين…

أما عن موهبة شاعرنا وتمكنه الأدبي والفني فقد وجدت اني امام قامة شعرية سامقة تقف في مصاف محمد درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وأحمد فؤاد نجم وبدر شاكر السياب .. الخ، شعراء الصحوة العربية به و بأمثاله تستمر رافعة راية الانتاج الرائع المتميز…

عندما قرأت قصيدة شاعرنا الطريق الى دمشق وأنا ابن دمشق بكيت، يالله كم هي صادقة ومعبرة ومؤلمة توثق اللحظة والمشاعر والالم والفقدان واليأس… لا ينقصها وينقصنا الا الضراعة لخالق الكون لنصب ميزان العدالة ومواجهة الظالمين…

في الختام أقول إن رسالة الأدب ومنها الشعر ان ينتصر للإنسان وجوده وحقه بالحرية والعدالة والديمقراطية وأن ينعم بحياة أفضل، تؤمن شروط عيشه الكريم وتصون كرامته وتجعله في عين الله مصانا مكرما مجيدا…

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. ديوان الشعر “جدير بعزلة الغريب” للشاعر المغربي “صالح لبريني” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي للكاتب “احمد العربي” للشاعر ثمانية مجوعات شعرية مشترة بمضمونها بان الانسان اخو الانسان في كل زمان ومكان، دمه واحد، وكذلك وجعه، امله ويأسه، بؤسه وسعادته، ولا حدود تمنع أن يعيش كل انسان الم وحب وأمنيات وفجائع الانسان الاخر في كل مكان.

زر الذهاب إلى الأعلى