قراءة في رواية: باهَبَل

أحمد العربي

رجاء عالم كاتبة سعودية متميزة، من مواليد مكة المكرمة، اغلب رواياتها تغوص عميقا في مكة وأحوال ناسها وبيئتها. قرأت لها رواية طوق الحمام التي حصلت على جائزة البوكر لعام ٢٠١١م، وقرأت أيضا خاتم وستر…

باهَبَل الرواية الأحدث لرجاء عالم و التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية لهذا العام، أعتقد أنها ستفوز بالجائزة.

تعتمد الرواية على أسلوب الخطف خلفا في السرد الروائي حيث تبدأ من لحظة فاصلة في حياة الدكتور السردار العلماني عباس “نوري” الشخصية المحورية في الرواية المختص بالعمارة والذي وثّق عمرانيا اغلب واقع مكة التي تتغير معالمها بشكل متسارع. حيث ينهي حياته في قصره في مكة منتحرا بشنق نفسه تاركا لزوجته وابنته وابنه رسالتين احدها لمن يهمه الامر والاخرى لهيئة العلماء…

يتبين بعد ذلك أن السردار العلماني عباس-نوري كان قد وثّق حياة عائلته في مكة عبر نصف قرن تقريبا منذ ١٩٤٩م إلى ٢٠٠٩م في أشرطة تصوير سينمائي…

يبدأ السرد في الرواية على لسان عباس-نوري ذلك الابن للعائلة، انه عباس لكنه يعتقد أن له قرين نوري ولد وعاش معه وماتا معا عندما انتحر عباس اخيرا، لذلك نقرنهم معا في هذه القراءة للرواية…

في مكة في تاريخ ١٩٤٩م بجوار الحرم تتواجد الكثير من عائلات السردار أي المطوف الذي يقوم بمهام استقبال الحجاج والقيام على خدمتهم والتجارة معهم. منهم مصطفى السردار كبير العائلة عنده زوجة واحدة وله منها أولاد كثر ذكور واناث، ولديه كذلك جواري نساء وعبيد ذكور، يقومون على خدمته، لم تكن العبودية قد حرّمت في السعودية بعد، حيث تم تحريمها رسميا عام ١٩٦٢م. ومن باب العلم فإن النساء الجواري متاحات للممارسة الجنسية لمالكهم، وهذا متاح ومتعارف عليه. كانت تجارة العبيد والجواري حاضرة وتحصل في موسم الحج حيث يبيع المطوفين السردارات عبيدهم وجواريهم لزيادة رأس مالهم في التبادل التجاري مع الحجاج، كما يشترون الجواري والعبيد في موسم الحج وهكذا كل سنة بدرة مستمرة …

 كما كانت المرأة مقيدة الحركة والتصرف . الخروج من منزل العائلة  محرم عليهن، يعني شبه معدوم ،وان حصل وفق ضوابط معينة، وتكون لابسة القناع التركي بحيث تخفي أي معلم يظهر معالمها الخاصة. لذلك كانت النساء في بيوت مكة يعشن عالمهم الكامل في بيوت اهلهم، كذلك كانت عائلة مصطفى السردار كبير العائلة، والذي كان حضوره قاسيا جدا، مستبد في رأيه ومواقفه، لا يراجعه أحد، إلاه صغير في مملكته…

لدى السردار الكبير جارية يتسرى بها، حملت منه وأنجبت طفلة أسموها قمريّة ولأنها ابنة جارية فقد تأخر اعترافه بأنها ابنته، أعلنت امها ان ابنتها ابنة السردار وأنها لن تقبل أن تعيش عيشتها كجارية ويجب ان يعترف بها ابنته، ولأنه رفض لسنوات ذلك، فقد حاولت الأم حرق ابنتها في نوبات عصبية عدة، وتم انقاذها اكثر من مرّة، لذلك تركها السردار تتحرك وتذهب معه خارج منزل العائلة وهي كاشفة وجهها، ولكنه اقرّ أخيرا بأنها ابنته وحجبها داخل البيت، وغير اسمها لتصبح سكريّة، ليجعل اهل مكة ينسون تلك الطفلة قمرية ابنة الجارية التي كانت تذهب معه في حواري مكة.

في الحرم العائلي في مكة يظهر الخضوع المطلق لرب العائلة السردار الكبير، من الأولاد جميعا ذكورا وإناثا، الذكور يقومون بالدور المطلوب منهم، اما الاناث فهم يعشن في البيت القصر وكأنهن في القبر قبل الموت وحتى الموت. يخفي السردار وجود فتيات لديه ولا يعترف بهن، ولولا تواصل نساء مكة ببعضهن ومعرفة حقائق حياتهم، لما علم احد بحال النساء القابعات في القصور مثل الآثار في المتاحف. نعم لم يكن يحب ان يعرف احد بوجود بنات لديه ولا حتى يرغب بتزويجهن، ولا يحصل ذلك إلا بالاحراج عندما تدخل الجاهات المكية من سردارية وكبارية مكة.

كبرت سكرية وسط اخواتها وكل لها مواصفاتها الخاصة، وبقيت في عين البعض ابنة الجارية، ينظرون إليها بدونية. مع ذلك يجدون ما يجمعهن من ظلم سجن العائلة لهن فقط لأنهن نساء وحجبهن عن العالم الخارجي إلى درجة خلقت في اعماقهن شوق لخروجهن عبر زواجات لا يعلمن متى تحصل…

تقدم الاسطنبولي كبير سردارية مكة بخطبة ابنتين من بنات السردار لابنيه الإثنين الكبير الشاذ جنسيا الذي يفضل الذكور على الإناث والثاني العادي. يعلم الاب بواقع الأبناء ولا يستطيع رد الطلب، لذلك قرر ان يزوج سكرية ابنة الجارية للابن الأكبر الشاذ وهو يعرف ما ستلاقيه وتعانيه، ويزوج ابنته نورية الفتاة القوية للابن الأصغر..

ولكي يتم تجهيز الزواج تحضر المرأة الخياطة  لتخيط لكل النساء الملابس وهذا يعني أن هناك زواج قادم، ولا تعرف الفتياة من منهن المقبلات على الزواج الا ليلة الدخلة حيث يسقن إلى أزواجهن في تلك الليلة .؟!!.

 وبالفعل يحصل الزواج، تكون حياة سكرية جحيما مع زوجها الشاذ، لا يقترب منها أبدا، تعاني فجيعتها بأنوثتها وحاجتها للآخر يعطي لحياتها طعما ومعنى وقيمة وامومة واشباع جسدي، وزاد ألمها أنه أعادها لاهلها مطلقة، وهذا اكبر ذل تعيشه المرأه في حياتها، تعيش جحيم حياة في بيت والدها. انها مهجورة ومطلقة …

أما نورية فقد عاشت حياة ممتلئة سعادة فقد اسعدها زوجها الذي دار بها ومعها الدنيا وكسر عنها طوق عزلتها وتحجيبها، ولكن لم تكتمل فرحتها حيث حاسب والدها زوجها على هذا الانفتاح الذي اعتبره خروج عن المعروف وكاد يطلقها منه، لولا اعتذاره وترجّيه للسردار الكبير. ومع ذلك لم تكتمل فرحة نورية التي فجعت بزوجها الذي مات بحادث سيارة بعد سنوات لتعيش وحدتها ووحشتها في قصرها مع ذكرى زوجها الذي مات وتركها…

عادت سكرية الى بيت العائلة مطلقة وهناك سعت لتعبر عن ذاتها وتؤسس لوجودها بين فتيات يتصارعن على خلق اعتبار مفقود في سجن العائلة المكون من قصر كبير. وكان لولادة عباس من إحدى زوجات الاخوة بعد عسر له فتق ويظهر كأنه عجيبة، تلقفته الأختين سكرية التي هجرها زوجها، ونورية التي مات زوجها العقيم…

نشأ عباس في بيت العائلة تحوفه سكرية ونورية تتبادلان الأمومة عليه ومعه. كبر وبدأ حياته بإحساس انّ له قرينا هو نوري، حصل هذا بعد أن عاصر احداث مكة ومحاولة جهيمان العتيبي ومن معه من السلفيين الجهاديين أن يعلنوا ظهور المهدي في الحرم المكي وما صاحب ذلك من صراع مسلح هناك وموت الكثير من الضحايا، ودخول القوات العسكرية السعودية بمعاونة القوات الفرنسية والباكستانية، للسيطرة على الحرم في مذبحة كبيرة، كل ذلك عاصره الطفل عباس الذي كان بصحبة عمّته حورية التي ماتت برصاصات في الحرم حيث كان معها هناك ولم يصب ليعيش بعد ذلك وقد توالد قرينه نوري الذي تبادل الأدوار معه فيما يعيش من حياته بعد ذلك، وحيث يتعايش مع الأحياء والأموات من عائلته في استحضار دائم…

يكبر عباس نوري في كنف سكرية ونورية الأختين اللتين اعطينه الحب والحنان والإشباع النفسي والروحي…

مات السردار الكبير وتقاسم أولاده الكبار التركة وعادت الحياة الى سابق عهدها بتسلط الأبناء الذكور على نموذج الأب السابق إلاه متحكم في ملكه، حاول عباس الخروج من ملكوت الآب، تابع تعليمه حتى حصل على درجة الدكتوراه في العمارة وارّخ لمكة عمرانها الذي بدأ يتآكل عبر التوسعات المتتالية للحرم والأبنية المتطاولة المجاورة له…

كما استقل بعمل تجاري بدأه من الصفر وصنع لنفسه اسمه وحصل على الملايين وأسس لذاته وتميزها واستقلاليتها عن العائلة…

تابعت الرواية حياة نساء العائلة والتغيرات التي صاحبت حياتهم في صغرهم وقبل الزواج وبعده وفي المراحل العمرية المتأخرة، حتى وصولهم الى الموت بأشكاله المختلفة التي أصابت الآباء والأمهات والنساء اللواتي كبرن بعد نصف قرن ومات اغلبهن…

لم يتغير شيء في واقع الحياة، لقد أصابت الطفرة حياة أهل مكة بالتغيير وجرفت حياة الكل بالتغيرات التي حصلت بالعولمة التي دخلت صميم حياة الناس نساء ورجال واقتلعت الكل من جذوره. عباس وقع ضحية زواج لم يستطع أن يتكيف فيه مع امرأة لم تكن تحتاجه، وتراه متخلفا و معاقا ولا يليق بها. علاقته مع ابنته وابنه تكاد تكون مقطوعة، وهو يحاول أن يصنع لنفسه معنى في الحياة من خلال توثيق حياة العائلة عبر عقود وعبر مئات الساعات من التصوير ولسنوات استطاع أن يوثق حياة أهل مكة عبر عقود في مجتمع مغلق على كل الناس لنرى حقيقة تسلط الاهل والرجال والعقليات المتحجرة والتخلف الذي يسحق انسانية الانسان واول الضحايا وأهمها النساء…

وعندما تجاوزت النساء ما عشن في الماضي اصبحن نماذج متلبسة لنموذج تحرر مدّعى لكنه زائف جعل المرأة تخسر هويتها وتضيع مرة أخرى في عصرنة يفقدها انسانيتها…

عباس وبعد توثيق حياة أهل مكة وتسليم كل ما وثّقة بالصوت والصورة وقدمه لمخرج لبناني أنتج منه فيلما وثائقيا سيعرض في مهرجان عالمي. احس انه قام بدوره وانه وصل الى مرحلة يجب ان ينهي حياته بيده منتحرا خارجا من حياة لم تقبله بداية وعادته بعد ذلك وفرض نفسه عليها. واكتشف ان اغلب من احب  قد رحل عن دنياه وإنه يعيش مع أرواحهم الحاضرة في حياته باشكال مختلفة لذلك قرر أن يعبر الخط الفاصل بين الحياة والموت ويذهب ملتحقا باحبابه هناك في العالم الآخر، سكرية ونورية وحورية عماته الاثيرات…

لذلك انتحر وترك رسائله لتقول كلمته الأخيرة. لرجال الدين: تحرروا من الترهات والتطرف، ولمن يهمه الأمر: ان لا بد من التغيير. فهل حصل التغيير.؟!!.

هنا تنتهي الرواية.

في التعقيب عليها اقول:

لا بد من التأكيد على نجاح الرواية وحبكتها وأسلوب سردها ومتابعة حكايتها تشعباتها المختلفة ان تجعلني دائم التعلق بمتابعتها بشغف وأنني بمقدار ما كنت متمتعا بالسرد الروائي كنت ممتلئ بالمضمون المعلوماتي وعلى كل المستويات. نفسيا ومجتمعيا وتاريخيا …

كما لا بد من التأكيد أن الرواية هي تأريخ حول البنية المجتمعية والعائلية لأهل مكة بشكل خاص لنصف قرن مضى، وخاصة واقع المرأة وما عانته في حياتها من ظلم وتفاوت مجتمعي.

 كما تظهر الرواية قوة المرأة بعدم استسلامها لظرف القهر والظلم الذي عاشته، وكيف احتالت عليه وتمردت احيانا وانتصرت احيانا  ولو ان البعض منهن وقعن في حلقة الصراع النسوي البيني للخروج من الظلم العام والوقوع في الظلم المتبادل، وان كثير من النساء كانوا ممثلين المجتمع الذكوري الظالم وخدمه الاوفياء على ذواتهن وعلى بنات جيلهن…

كما توضح الرواية أن التغير النوعي في حال المرأة والطفرة الاقتصادية مع العولمة والتعلم، لم يحرر المرأة بمقدار ما دفعها لتخسر هويتها المجتمعية وحتى الأنثوية. وأنه ليس كل تغيير نحو الافضل، وان العقل النقدي في العلاقة مع الذات والعالم والعقائد والتراث والغير مهم في فهم الذات وكيفية ممارسة الحياة، ان ذلك ضرورة حتمية للنساء والرجال للعيش في العالم ومع العالم والحصول على المعنى والجدوى والقيمة في حياة محكومة بالنهاية إلى عالم آخر ينظر له بمناظير مختلفة يخافه البعض ويتلهف له البعض ويبقى مرهوب الجانب…

تؤرخ الرواية أيضا لمكة والمتغيرات التي أصابتها في النصف القرن الأخير، تغيرات تكاد تلغي كل معالمها التاريخية، تضعنا أمام تساؤل مهم إلى أي مدى جعل مكة الآن هي مكة التي كانت ؟. وما لها في ذاكرة المسلمين من حضور ومعنى وحقائق تاريخية يجب ان لا تندثر وتزول بفعل البشر…

كما توقفت الرواية عند التطرف الديني والعنف بإسمه ولو بدعوى مجيء المهدي او بناء الدولة الإسلامية ، وأن ذلك طريق أوله قراءة خاطئة للإسلام وآخره هلاك مجتمعي..

بكل الأحوال قامت الرواية بقرع ناقوس الخطر من كل ما عاشته وتعيشه مكة التاريخ والمكان والعقائد والناس مكة الماضي والحاضر والمستقبل: حاذروا…؟!!.

الرواية مليئة، المهم قراءتها وارتشاف رحيقها وتذوق ابداعها…

شكرا رجاء عالم المبدعة المتألقة…

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية: باهَبَل” للكاتبة السعودية “رجاء عالم” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي من الكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن عباس نوري الذي وثّق حياة عائلته في مكة عبر نصف قرن تقريبا منذ ١٩٤٩م إلى ٢٠٠٩م في أشرطة تصوير سينمائي، ورافق التطور السريع الذي يحدث بمكة من الناحية العمرانية والبنية التحتية لينتحر بنهاية الرواية، لتعتبر الرواية تأريخ للبنية المجتمعية والعائلية لأهل مكة لنصف قرن مضى،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى