“تتمة تاريخ شرافة مكة منذ استعادة الدولة العثمانية السيطرة على الحجاز وطرد الوهابيين بمساعدة محمد علي باشا عام 1803 م وحتى تاريخ ثورة الشريف حسين في 1916 م “
مع طرد الوهابيين من الحجاز عام 1813 م بدأت آخر مرحلة تاريخية لشرافة مكة ، فالوصاية التي مارسها الخديوي الأول لمصر محمد علي باشا والتي استمرت حتى العام 1840 م ، بالتعاون تارة مع الدولة العثمانية وبمنافستها تارة أخرى كانت فعالة بصورة كلية ، حيث كان السلطان العثماني ممثلا بصورة منتظمة من قبل حاكم للولاية معين من استانبول ، وهكذا فالأيام الجميلة السابقة التي تمتعت بها شرافة مكة من قبل والتي كانت فيها مطلقة اليدين في مكة قد ذهبت بغير رجعة .
لم يكن التفاهم بين شرافة مكة وبين السلطنة العثمانية وديا في أي وقت ، فتطلعات واهتمامات كل من الطرفين كانت مختلفة بصورة جوهرية ، فالسلطان العثماني كان ينظر لشرافة مكة كشر لابد منه يمنع وضع الحجاز كولاية عثمانية مثل سائر الولايات ، فهم كانوا يحتفظون هناك بحامية عسكرية وبموظفين مدنيين ، لكنهم لم يتمكنوا من إدارة الحجاز كما هو حال بقية الولايات ، فقد كان نفوذ وسلطة الإدارة العثمانية معاقا من قبل نفوذ وقوة شرافة مكة الذي بقي بدون ضوابط وحدود واضحة .
كان شريف مكة يعين من قبل السلطة السائدة في استانبول ، ولم يعد بمقدور أي منافس له من الأسرة الهاشمية إزاحته بالقوة كما كان الحال سابقا . مما اضطر المنافسين إلى اللجوء لأسلحة الدسائس مع السلطان وحاشيته المقربة .
مع ذلك ، ومع مظاهر الإستقرار الإداري للحجاز تحت سلطة الدولة العثمانية ، فقد تطلب الأمر سنوات عديدة حتى العام 1880 م لتقتنع شرافة مكة نهائيا بعدم جدوى أي مقاومة مسلحة للحاكم العثماني للحجاز وسلطته المفروضة عليهم . وبذلك أصبحت السردية الشائعة لدى أشراف مكة أن السلطان العثماني ينبغي أن يطاع ، لكن موظفيه في الحجاز غير مخلصين ولايمكن قبولهم . وأصبح معتادا أن يتم الاحتفاظ ببعض الأشراف في استانبول كرهائن في الواقع لكن مع الاحترام وتأمين حياة كريمة لهم .
وذلك لضمان ولاء الشريف في مكة للسلطان ، وأيضا بصورة جزئية لإزالة مخاوف شريف مكة من وجود منافسين بالقرب منه . ومن الواضح أن هؤلاء الرهائن هم البديل الجاهز أيضا لشريف مكة حال ظهور أي نزعة تمرد عنده.
(ملاحظة: تبدو هذه المرحلة من تاريخ شرافة مكة وكأنها مرحلة عشية ” الثورة العربية الكبرى ” ويظهر فيها بوضوح التوتر الدائم والصامت بين شرافة مكة والسلطان العثماني ، هذا التوتر الناشىء بعد أن فقدت شرافة مكة تلك الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها في العهود السابقة ، وخصوصا بسبب وجود معسكرات الجيش العثماني الدائمة بجانبها ، وتعيين مسؤول عثماني ممثل للسلطان لحفظ النظام وادارة الأراضي المقدسة ، مما يعني وجود ازدواجية في ممارسة السلطة الأرجحية فيها ستكون دائما للإدارة العثمانية وممثلها بضمان القوة العسكرية المرابطة ، ورغم كون شرافة مكة منافسا هزيلا نسبة إلى قوة الدولة العثمانية لكنها متجذرة في العادات والتقاليد المحلية وبعلاقاتها القبلية واستتثمار العنصر الديني العاطفي في الشعور بالمقدس تجاه مايعتبر سلالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .
ويمكن النظر لذلك التوتر ايضا من زاوية الإختلاف في طرق ممارسة السلطة بين دولة كبرى تمتلك تقاليد عريقة في الإدارة والسياسة عرفت عنها الدولة العثمانية وبين سلطة محلية غارقة في العزلة ذات
طبيعة عشائرية بعيدة عن منطق الدولة الحقيقية . وهو الاختلاف البنيوي الذي تم التمويه عليه لاحقا بأفكار قومية مصدرها بلاد الشام والعراق ومصر أيضا ، وفي مرحلة لاحقة ظهر ذلك الاختلاف في هشاشة التحالفات السياسية التي أنشأها الشريف حسين مع انكلترا وعكست الجهل المطبق بالسياسات الدولية ، والسهولة التي تم فيها توظيف حركة الشريف حسين لصالح الجهد العسكري البريطاني في الحرب العالمية الأولى ، ثم تمزيق تلك الحركة واستخدام أشلائها في تنفيذ المخطط الغربي لتقسيم المنطقة والسيطرة عليها -معقل زهور عدي ).
لم تكن مهمة الحكام الأتراك المنتدبين للحجاز سهلة أبدا ، فالشريف القوي سيكون دائما مستعدا لتخفيض سلطتهم إلى أقل حد ، أما الشريف الضعيف فهو وإن يكن مطيعا لهم لكنه سيبقى عاجزا عن السيطرة على منافسيه الطامعين من الأشراف من عائلته، وبصورة عامة سيبقى في حالة خوف من مكائد المعارضة .
أما التعاون بين الحكام والأشراف لحفظ الأمن والنظام فقد كان حلما بعيد المنال ، فالطرق بين مكة والمدينة وجدة والطائف كانت في حالة مزمنة من انقطاع حبل الأمن . ولم يكن من النادر أن يتمتع قطاع الطرق من البدو بدعم الشريف بالسر .
بالنسبة للشريف عون الذي شغل منصب الشرافة بين الأعوام 1882- 1905 فقد كان من النوع القوي الفعال ، لكنه كان في الوقت ذاته طاغية جشعا ، وتوحي أفعاله بطموح قيصر المجنون .
فمن حاكم عثماني لآخر يخلفه ، كان الجميع يجدون أنفسهم منضوين تحت نفوذه وكان عليهم البقاء في ظله ، ولم يختلف الأمر سوى عندما جاء الحاكم العثماني أحمد راتب الذي تسلم حكم الديار المقدسة منذ العام 1892 وحتى وفاة عون عام 1905 فقد أغمض عينيه عن الأفعال غير القانونية لعون مقابل شراكة في المنافع التي تحصلها الادارة من المخالفات .
بعد ذلك تم تعيين عبد الله شقيق عون كشريف بديل لمكة والحجاز ، لكنه توفي قبل بدء رحلته لبلاده .
ثم عين السلطان الشريف علي ابن عم عون “كأمير على مكة” وكان ذلك هو اللقب الذي منح لهؤلاء الأمراء من قبل ممثل الدولة العثمانية بعيدا عن الاحترام للحساسية الممكنة لهذا الموضوع .
وعندما حدثت الثورة في تركيا عام 1908 استسلم كل من الشريف علي وأحمد راتب وخضع أحمد راتب للمسائلة المالية قبل النفي ، أما الشريف علي فقد خلع من منصبه وذهب ليستقر في القاهرة .
وحل مكانه في المنصب ابن عمه الحسين ( في الحقيقة فإن تعيين الحسين كشريف لمكة جاء في العام 1908 من قبل السلطان عبد الحميد ويذكر أن ممثلين للدول الغربية ضغطوا من أجل تعيينه في وجه معارضة السلطان عبد الحميد الذي كان ينظر للشريف حسين واتصالاته بالسفارات الغربية أثناء وجوده باستانبول بكثير من الشك وينقل عن السلطان عبد الحميد قوله في الشريف حسين ” انتظروا لتروا ما سيفعل هذا الرجل “- معقل زهور عدي ) ، وسرعان ماظهر أن الحسين هذا كان يتطلع إلى استعادة سمعة ومكانة شرافة مكة مستفيدا من الظروف السياسية التي استجدت في الدولة العثمانية .
من المعروف جيدا أن الجزيرة العربية قد نالت نصيبها من الصعوبات العديدة التي كان على حكومة تركيا الفتاة مواجهتها منذ بداية صعودها للسلطة . وهكذا وجد النظام الجديد أن من الأفضل إبقاء الحسين الذي سبق تعيينه وأن يعطى شيئا من الحرية وقد عمل الحسين على الاستفادة القصوى من تلك الحرية التي أعطيت له .
خلال الحرب التركية – الايطالية كانت سلطة الاحتلال التركي في حالة فوضى ، خاصة في القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية ، وقد طلبت الحكومة التركية من الحسين المساعدة في فك الحصار عن الحامية العثمانية المحاصرة في أبها ، في مقاطعة عسير الجبلية ، وبالفعل تمكن الحسين بجيشه المكون من بعض القبائل البدوية والعبيد الأرقاء والمرتزقة والمسلح بأسلحة قديمة من إنجاز المهمة وإنقاذ الحامية المحاصرة في أبها ، وبدون شك فقد ساهمت تلك المهمة في تغيير شعور الحسين بالتبعية للسلطة العثمانية .
ومن خلال ماسبق كتابته حول تاريخ شرافة مكة وظروفها الحالية فإن أية تطلعات نبيلة لشرافة مكة ( يقصد الانفصال عن الدولة العثمانية ) من أجل إمارات محلية لن تواجه ظروفا مناسبة .
وبعيدا تماما عن الطموح السياسي فهناك أسباب كافية شجعت الشريف حسين على شق عصا الطاعة للدولة العثمانية ، فمن المعروف جيدا أن العلاقة بين السلطان العثماني والشريف حسين كانت رسمية ولم تكن أبدا ودية ، ودائما كان الأشراف يشعرون بوطأة الوصاية التركية ، كما أن الأتراك لم يبذلوا جهدا في التقرب من الشعب هناك كي يشعر أنه يجني فائدة من وجود هؤلاء المحتلين. فهم لم يقدموا شيئا ، ولم يكونوا قادرين حتى على تأمين الطرق الموصلة لمكة والمدينة خلال أسابيع الحج .
وفي الجزيرة العربية كما في كل مكان آخر لم يبذل الأتراك جهدا له قيمة لكسب ود الشعب ، لقد كانوا غير شعبيين إلى أقصى حد .
( ربما يتحدث الكاتب هنا عن آخر مرحلة في عمر الدولة العثمانية التي شهدت تفكك الدولة وانتشار الفساد واختلال حبل الأمن وفرض ضرائب باهظة لتمويل الجهد العسكري ولتمويل مظاهر البذخ مثل قصري دولمة بهجة ويلدز ، لكن من غير الإنصاف تعميم هذه الحالة على كامل تاريخ الدولة العثمانية , كما أهمل سنوك الجهود الضخمة في إنشاء الخط الحديدي الحجازي الذي يربط استانبول بالحجاز – معقل زهور عدي)
أما جمعية الإتحاد والترقي التي أصبحت في سدة الحكم فعليا للدولة العثمانية منذ العام 1908 فلم تكن متعلقة كثيرا بالمكيين وأمرائهم الهاشميين .ومن كان يزور استانبول من المكيين بعد العام 1908 كانوا يعودون بمشاعر الصدمة والدهشة من القيم والآراء والتصرفات لتركيا الفتاة.
لقد كان كل اهتمامهم بمكة ومسائل الحج يتركز حول الفائدة التي يمكن للدولة العثمانية أن تجنيها من تلك الوظيفة ، تماما كما يهتم المزارعون بتقديراتهم لمحصول الحصاد .
وبالنسبة للجمعية ( الإتحاد والترقي ) التي رفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة كمبادىء لها فسرعان ما انخرطت بالممارسات الإستبدادية في الحكم كتلك التي كانت في عهد السلطان عبد الحميد ، أما في مكة فقد اعتبرت مسؤولة عن مشاركة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى والتي كانت لها نتائج سلبية واضحة على مكة والمدينة فقد توقف الحجاج عن القدوم للحج كما جرى تقييد توريدات الأغذية ، حتى الشعب في غرب الجزيرة العربية ( ربما يقصد بلاد الشام ) والذي سبق أن تقبل طواعية سيادة الدولة العثمانية فهو يبدوالآن متذمرا من النظام التركي الحالي .
لايمكن تصور دور لشرافة مكة في الحرب العالمية العظمى فالقوة التي تحت تصرفها لاتزيد عن عدد من الحراس الشخصيين ، وبعض المرتزقة ، والمشاركة الممكنة لبعض القبائل البدوية ، ومن الصعب دمجها بقوة واحدة منسقة ، وهم غير منضبطين وغير مدربين ، وليس من الممكن تجنيد جيش من سكان مكة أو المدينة في حين يمكن للشريف علي الموالي لتركيا أن يجد بينهم بعض الأتباع .
بالنسبة لجزيرة العربية فهي الآن كما كانت في الماضي منقسمة بطريقة لا أمل فيها تتنازعها العداوات منذ مئة سنة ( يقصد حملة الوهابيين في نجد على الحجاز ثم هزيمتهم أمام جيش محمد علي باشا
وعودتهم ثانية لنجد مع بقاء التناقض بينهم وبين الهاشميين إضافة للنزاعات القبلية الأخرى ) بالتالي فهي ( الجزيرة العربية ) غير مستعدة للمهام الكبيرة .
لكن في الوقت الحاضر فإن تمردا ضد الأتراك بقيادة الشريف حسين وبدعم من انكلترا يمكن أن يسبب مشكلة جدية للدولة العثمانية خاصة أنه يحدث في مكة الشهيرة والمقدسة لدى المسلمين في العالم .
مثل تلك الحملة إذا ماخطط لها جيدا ، ونفذت باقتدار ( كما فعل لورنس لاحقا ) ، ستكون ضربة قوية كرد على محاولة حكومة تركيا الفتاة المؤيدة بالحكومة الألمانية لاثارة التعصب الإسلامي ضد أتباع الديانات الأخرى ( يقصد الغرب المسيحي المتحالف ضد ألمانيا وتركيا ) واستخدام تلك المشاعر كأداة للفتنة .
انتهى ملخص دراسة البروفسور سنوك التي نشرت في العام 1916 مع تواتر الأخبار حول ثورة الشريف حسين .
( في الواقع أثبتت تلك الحملة المخطط لها جيدا من قبل الاستخبارات البريطانية فائدة أكبر بكثير من تلك التي تصورها البروفسور سنوك بالنسبة لبريطانيا وللحلفاء في الحرب العالمية الأولى , من الناحيتين العسكرية والسياسية فقد لعب جيش الشمال العربي بقيادة الأمير فيصل ومستشاره لورنس دورا هاما في بعثرة الجهد العسكري التركي ومهاجمة مؤخرته وقطع الإمدادات عنه وقطع الطريق على حامية المدينة المكونة من 12000 جندي ومنعها من الانضمام للجيش العثماني لمواجهة الحملة العسكرية التي قادها الجنرال اللنبي انطلاقا من مصر نحو سيناء فغزة ثم فلسطين حيث حدثت المعركة الفاصلة في سهل مجيدو والتي أسفرت عن هزيمة العثمانيين وتراجع جيشهم إلى ماوراء كيليكية , كما سمحت ثورة الشريف حسين وجيش الأمير فيصل للجيش البريطاني وحلفائه بالسيطرة بسهولة على بلاد الشام حين دخلوا كحلفاء للأمير الحجازي وكمحررين من سلطة الدولة العثمانية واستقبلوا استقبالا تاريخيا في دمشق قبل أن تتضح خطة احتلال المنطقة وتقسيمها بعد سنتين .- معقل زهور عدي )
المصدر: صفحة معقل زهور عدي