الجزء الرابع:
عندما كان الحجاز يحكم من قبل المركز السياسي للدولة الاسلامية كانت عاصمته المختارة هي المدينة المنورة, وكان ذلك مناسبا لشرافة مكة, لأنه يبعد القوى العسكرية وملحقاتها عن مكة, تلك القوى التي يمكن أن تعرقل نفوذهم وتقلص سيادتهم على الحجاز.
فقط من حين لآخر كان أشراف مكة يسيطرون على المدينة إضافة لمكة, بسبب المسافة الكبيرة الفاصلة بين مكة والمدينة والوسائل المتاحة للسفر والانتقال بين المدينتين.
أما بلدة الطائف الجبلية والتي اعتاد المكيون على اتخاذها مصيفاً لهم على مسيرة ثلاثة أيام من مكة, وكذلك جدة الساحلية على مسيرة يومين من مكة فقد كانت تتبع عادة لشريف مكة بانتظام.
وهناك عدة موانئ أصغر من جدة كانت تتبع أيضا لشريف مكة . أما العلاقة مع الداخل في شبه الجزيرة العربية والتي تقطنها القبائل العربية عموما فقد كانت تختلف حسب العلاقات الشخصية بين الشريف ورئيس القبيلة البدوية.
تميزت شرافة مكة عن معظم الولايات والدويلات التي انقسمت إليها الامبراطورية الإسلامية ( الدولة العباسية المتأخرة )، فهي لم تتطور تدريجياً من الحكم الذاتي إلى حالة متقدمة من الاستقلال . لكنها ولدت بصورة عفوية خلال فترة من الفوضى السياسية. وفي بغداد كما في كل العواصم المجاورة تقبل الناس ذلك التغيير ( صعود شرافة مكة ) كأمر واقع, بالتالي فشرافة مكة لم تحصل على اعتراف صريح مثلما أنها لم ترفض بصورة صريحة أيضاً باعتبارها غير قانونية . كما أن امتداد بقاءها لقرن كامل حمل معه أيضاً نوعاً من الشرعية العرفية ( غير المكتوبة )، وبسبب القبول الذي حازته من كثير من القبائل الإسلامية ( طبعاً العربية ), والتي تتمثل عادة بوفودها في مواسم الحج . وهؤلاء الزوار يحظون عادةً بالرعاية الطبية والمعالجة من الأمراض من قبل شرافة مكة.
وهم بالرغم من ذلك كانوا يحملون اعتقاداً بأن الحق في حكم مكة ينبغي أن يعود إلى فرع من النسب الهاشمي المقدس, وقد كانت تلك القناعة لديهم حقيقة بسيطة غير قابلة للجدل.
أما القوى الإسلامية الرئيسية ” كالسلاجقة والفاطميين ” والذين كان شرفاء مكة مجبرين على الخضوع لهم فقد كانوا دائماً يُبدون تحفظهم إلى جانب اعترافهم الضمني بشرافة مكة . وهكذا لم يكن شريف مكة حاكماً مستقلاً قط , وكان عليه في نهاية المطاف الاعتراف بسيادة الدولة المهيمنة.
كما سبق، فالفضل في حصول شرافة مكة على وضعهم المتميز يعود لتلك الظروف والأحداث التي رافقت ولادة حكمهم لمكة . ولم نشهد بعد ذلك أي تقدم لديهم مهما كان ضئيلاً يرتبط بالمكانة الفريدة لمكة بالنسبة للعالم الاسلامي الواسع.
ملاحظة1: ” يستعيد الباحث هنا ضمناً ما سبق أن أشار اليه من انعدام قدرة العائلة الهاشمية الحاكمة لمكة على الاضطلاع بالمهام الكبيرة وتواضع طموحهم وكفاءاتهم “.
منذ القرن العاشر الميلادي لم يمتلك أي من الأمراء المسلمين الآلية العسكرية والسياسية التي تتحكم بغرب شبه الجزيرة العربية ( الحجاز ) ولو بشكل غير كامل من النظام.
لكن أولئك الأمراء كانوا يتشابهون في نقطتين:
الأولى: تصميمهم على ذكر أسمائهم في الأدعية والصلوات في موسم الحج في مكة وكل واحد منهم كان يرغب بذكر اسمه قبل الآخر.
والثانية: أن تحصل الوفود التي تمثلهم في موسم الحج على ترتيب متقدم يناسب ما يتظاهرون به أمام الشعب من مكانة وهيبة.
في الصلاة والدعاء كان لإسم الخليفة المقام الأول دون منازع, حتى بعد أن أصبحت سلطته الفعلية أثراً بعد عين, لقد احتفظ أشراف مكة بالسلطة في مكة من العام 1000م وحتى 1200م بنهجهم نوعا من الحيادية, وبتوجيههم كان يتم الدعاء للخليفة في بغداد ومرة ثانية لمدعي الخلافة الفاطمي في مصر, وذلك وفقا لقوة كل منهم ولما يقدمه من أعطيات ومنح لشرافة مكة.
منذ العام 1200م وحتى اليوم ( تاريخ كتابة البحث حوالي 1916 ) تحرر شرفاء مكة من الاختيار بين الخليفة في بغداد ومنافسه الفاطمي حين سقطت الدولة الفاطمية وحين اجتاح المغول بغداد عام 1258م, وفي القرون التي تلت اكتفى شرفاء مكة بالدعاء للسلاطين في الصلاة, وبذلك ارتسمت العلاقة الرسمية بين شرافة مكة والسلاطين لأول مرة في أدعية الصلاة.
احتلت مصر مكانة لا تقبل المنافسة بحيث يمكن القول إن سلاطينها ( يقصد الأيوبيين ثم المماليك ) مارسوا نوعاً من الوصاية على الحجاز من القرن الثالث عشر الميلادي وحتى القرن السادس عشر وقد كان الحجاز خلال تلك الفترة يعتمد على أرض النيل في الحصول على المواد الغذائية والحاجات الضرورية الأخرى . على أن سلاطين المماليك قبلوا استمرار حكم مكة من قبل الأشراف دون أن يتدخلوا في الصراعات التي لا تنتهي على السلطة والتي كانت تدور ضمن الهاشميين.
فقط عندما كان يلزم الأمر كان السلاطين المملوكيون يمارسون شيئاً من الجهد العسكري عبر فصائل مخصصة من الجيش لتعديل ميزان القوى بين المتنافسين على السلطة في مكة بحيث يتحقق لهم الخضوع في النهاية . وقد كان هناك دائما ذلك الفارق الكبير في القوة بين الجنود المدربين لأقوى دولة إسلامية ( مصر ) وبين قوة أشراف مكة المتواضعة المؤلفة عادة من بضع مئات من العبيد . ومثلهم من المرتزقة, ومن الدعم غير المنتظم من بعض القبائل البدوية . كما أن التمردات المحلية تطلبت دائما من قائد الحملات التأديبية التعاون مع أحد الفرقاء في هذه البلاد المضطربة.
ملاحظة2: في الحقيقة حتى قبل ” الثورة العربية الكبرى ” كانت القوة المتوفرة لشرافة مكة لا تزيد عما ذكره الكاتب ولم يكن من المتصور أن تتمكن من إلحاق الهزيمة بالجيش العثماني ذي الشهرة والتجربة القتالية الكبيرة لولا انشغاله بالجبهات المتعددة والمتباعدة آلاف الكيلومترات في ظروف الحرب العالمية الأولى, وخاصة لولا الأسلحة والأموال التي وصلتهم من بريطانيا بل والمعلومات الاستخبارية وكذلك التخطيط والتوجيه الذي اضطلع به ضباط انكليز ومنهم “توماس ادوارد لورانس” مع ذلك يمكن القول إن الجيش العثماني كان بإمكانه استرداد الشام والحجاز لولا تغلب الحلفاء واحتلالهم أجزاء واسعة من تركيا الحالية, بالتالي فقد انحصر كل الجهد القتالي لبقايا الجيش العثماني بطرد المحتلين واعادة توحيد الدولة التركية وهذا ما استطاع الحصول عليه بمشقة كبيرة بمعاهدة لوزان عام 1923م”.
في عام 1517م وعندما جرى الاستيلاء على مصر من قبل السلطان التركي سليم الأول تسلمت تركيا بصورة اوتوماتيكية الوصاية على الأراضي المقدسة في الحجاز.
أطلق كل واحد من السلاطين العثمانيين على نفسه بتواضع وفخر لقب ” خادم الحرمين الشريفين ” وفي الوقت ذاته كانت حاميتهم في مكة تظهر للأعين أنهم لا يرغبون في إشراك أحد بتلك الخدمة للديار المقدسة . ومنذ ذلك الوقت ( يقصد تسلم الوصاية على الحجاز بعد السيطرة على مصر ) ظلت أسماؤهم تسبق اسم شريف مكة الأكبر في الخطب والأدعية . وبعد ذلك ارتفع شرف مكانتهم حين أصبح لقب خليفة المسلمين يسبق أسماؤهم والذين كان يشبه الختم على قوتهم التي لا نظير لها في العالم الاسلامي.
لكن العثمانيين لم يبذلوا سوى جهد قليل لإصلاح الإدارة الغارقة في الفوضى للحجاز, مثلما كان عليه الحال بالنسبة لمن سبقهم بالوصاية على الأراضي المقدسة.
وفي ذلك التاريخ كانت شرافة مكة قد أكملت ثلاثمئة عام دون أن يُسائلها أحد عن مشروعيتها أو التأييد الذي تحظى به مؤسستها . وكانت الأساليب الادارية للعثمانيين بالكاد قد بدأت تتكيف مع المركزية الدائمة التي اتصفت بها الامبراطورية الإسلامية السابقة ( يقصد الدولة العباسية ).