دراسة حول ثورة الشريف حسين في الحجاز والعلاقة مع الحركات القومية في بلاد الشام

معقل زهور عدي

مدخل :

 

مايرمي إليه هذا البحث هو محاولة تتبع البيئة التاريخية والظروف التي أحاطت بالأحداث في تلك المرحلة التاريخية المصيرية  التي بدأت مع صعود جماعة الإتحاد والترقي القومية التركية للحكم  قبيل نهاية الدولة العثمانية وحتى انتهاء الحرب العالمية الأولى وقد  أسفرت تلك المرحلة عن إحكام الهيمنة الغربية على المشرق العربي وما نشأ بسبب ذلك ومن أجل استدامة تلك الهيمنة من تقسيم المشرق وبناء هياكل سياسية وعسكرية وظيفية، دون إهمال دور الإرادة الإنسانية والمسؤولية الناجمة عن اللجوء لأحد الخيارات المتاحة، لكن مع ترك مسافة كافية للقارىء ليحكم بنفسه  في النهاية، وليخرج بالنتائج التي يجدها أكثر مطابقة للواقع والحقيقة.

وقد بدأت بمراجعة بحث البروفسور الهولندي سنوك هرخرونييه بترجمة نص البحث المنشور بالانكليزية عام 1917  وإضافة بعض التعليقات عليه حيثما كان ذلك ضروريا، وسبب ذلك كون هذا البحث من الأبحاث  النادرة التي ألقت الضوء على نشأة وتاريخ  شرافة مكة بطريقة علمية.

وقد وجدت أن هذا يصلح ليكون المدخل المناسب، وبعد ذلك حاولت الاعتماد على المذكرات الشخصية، والأحداث الموثقة بعدة مصادر، كما وقفت عند بعض الشخصيات التي لعبت دورا استثنائيا في تلك المرحلة،  وغاية ما أرجوه أن يساعد هذا البحث في بناء صورة أكثر واقعية لعصر النهضة العربية وما رافقها من نهوض وانتكاسات ومن آمال وخيبات.

 

 

معقل زهور عدي – الشارقة

20/11/2022

 

ترجمة ومراجعة بحث ” الثورة في الجزيرة العربية “

The revolt in Arabia “

الكاتب : دي . سنوك . هرخرونييه

D.Snouck . Hurgronje

 

أستاذ ” بروفسور ” اللغة العربية في جامعة ليدن، مستشار وزارة المستعمرات في هولندا .

مع مقدمة لريتشارد . جي . هاء . غوثيل . جامعة كولومبيا – نيويورك .

طبع في نيويورك ولندن – دار نشر جي . بي . أبناء بوتمان – مطابع : كينكربروكر – 1917

( يمكن مراجعة السيرة الذاتية للكاتب في فهرس الأعلام والشخصيات في نهاية البحث)

(ملاحظة  : يستخدم الباحث في عنوان الكتاب كلمة “revolt” وهي تدل على ثورة أقرب لمفهوم التمرد المحدود في الزمان والمكان وذي أهداف محدودة وليس الثورة بمعناها الواسع “revolution” التي تحمل مضامين فكرية وسياسية  ناضجة وتعمل على قلب نظام الحكم وتتسم بأبعاد تاريخية ونتائج بعيدة المدى).

********************************************

مقدمة ريتشارد . جي . هاء . غوثيل . جامعة كولومبيا – نيويورك .

 Foreword by
Richard J. H. Gottheil
Columbia University
، New York

جاء خبر إعلان الشريف حسين الثورة ضد الدولة العثمانية مفاجئا للمهتمين في الغرب بالشؤون الإسلامية ، وقد انتشر الخبر عن طريق رسالة وردت من القاهرة بتاريخ 22 حزيران عام 1916،

ومفادها أن أمير مكة قد ثار على السلطة التركية وخلف ذلك الخبر العديد من التفسيرات والتوقعات لأسباب هذه الثورة  ولنتائجها المحتملة ، في الوقت الذي لم يكن معروفا لدى الدارسين سوى القليل عن شبه الجزيرة العربية حيث الحياة مازالت أقرب للعصور الوسطى .

لا أحد في الغرب على دراية بالإسلام وبتاريخ الحجاز أفضل من البروفسور سنوك ، وهو الذي أضاف لدراسته الأكاديمية المعمقة للتاريخ الإسلامي ملاحظاته الشخصية خلال السنة التي قضاها في مكة وجدة.

لذا فقد كان لديه القدرة للنظرمن الداخل لمختلف جوانب الأسئلة المتعلقة بالتاريخ ذي التركيبة المتداخلة لتلك المنطقة وصولا للوقت الراهن .

بالتالي وفي المقام الأول ما هو ضروري هو معرفة من هم الفرقاء الذين يسعون بالثورة نحو السلطة . وبتاريخ 14 تموز 1916 قدم سنوك تفسيرات واضحة للوضع الذي خلقه إعلان الثورة في الحجاز في بحث نشر بجريدة نيوروتردام كورنت .

أخيرا يلاحظ السيد ريتشارد باهتمام أن اعلان الشريف حسين الثورة ضد الدولة العثمانية لقي تأييدا من كل من عبد العزيز آل سعود في نجد ، والإمام يحيى في اليمن.

الفصل الأول

شرافة مكة

تظهر الطريقة التي أسرع فيها الرأي العام (طبعا الغربي)* إلى الاستنتاجات والتوقعات لدى سماعهم خبر الثورة في الحجاز كيف يميل الرأي العام للتسرع في إصدار الأحكام للأحداث الجارية ، تلك التوقعات التي هي محض افتراضات نظرية لأن صحة التقارير التي وردتنا حول ذلك لايمكن القول بمطابقتها للواقع سوى بصورة تقريبية حتى الآن .

وفقا لرسالة رويتر فإن الشريف المعظم لمكة قد أعلن الثورة ضد الحكم التركي ، وكقائد للعرب الموالين له فقد تمكن بالقوة من فرض الاستسلام على الحاميات العثمانية في كل من مكة والمدينة والطائف ، كما تمكن من عرقلة جدية لحركة القوات التركية التي تهدد قواته  بتدمير جزء من الخط الحديدي الذاهب من المدينة نحو الشمال .

في مقابل ماسبق، نشر مكتب وولف تقريرا للوكالة الوطنية التركية يفيد أن مقاتلين عربا من الذين يطلق عليهم عادة لقب قطاع الطرق قد تم حشدهم وتوجيههم من قبل قائدهم الذي شجعته مشاة البحرية الانكليزية قاموا بقصف مكة ، وأن الحامية التركية هناك قد استعادت بسرعة النظام ، وأن المهاجمين أنفسهم الذين تبين لهم أن قائدهم تم إغراؤه بالمال الانكليزي ليتصرف بمثل تلك النذالة ، قد قاموا بتسليم قائدهم للسلطة في مكة .

سواء كانت الأخبار الأولى لرويتر صادقة أم الأخبار الثانية للوكالة الوطنية التركية ، فينبغي فهم الأهمية السياسية لشرافة مكة وينبغي توضيح مايحمله مصطلح ” شريف مكة الأكبر” لجمهور القراء بعيدا عما تتخيله غالبية الناس .

ليست مكة هي المركز الذي انطلقت منه سلطة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم-  (هوبالطبع يذكر الرسول بالاسم فقط( على معظم شبه الجزيرة العربية ، بل إن عاصمة دولته كانت المدينة .

)هنا سأسمح لنفسي بالقفز فوق فقرة مطولة للكاتب حاول فيها شرح فكرته في أن مكة لم تكن منذ وقت مبكر من الإسلام ذات مركز سياسي هام ، خاصة بعد الهجرة ، وأن أهميتها السياسية قد استمرت في التقلص مع تحول عاصمة الخلافة لدمشق ثم بغداد ، بل إن أهمية الحجاز السياسية قد تقلصت بما في ذلك المدينة المنورة أيضا ، لكن تقلص الأهمية السياسية لم ينقص من أهميتها الدينية كونها مدينة الكعبة المشرفة والمسجد الحرام الذي يحج إليه المسلمون من كل أنحاء العالم ، ومثل ذلك يقال عن المدينة المنورة وبالتالي عن الحجاز عموما.(

ونظرا لأهمية موسم الحج كل عام فقد كان ضروريا الحفاظ على الأمن في مكة والمدينة ، وتزويد المدينتين بمايلزم من تجهيزات وتموين خاصة لموسم الحج ، وكانت تلك دائما من المهام الصعبة التي لابد للعالم الاسلامي من الإضطلاع بها .

* كافة الجمل بين هلالين كبيرين هي تعليقات من عندي .

ولكون المنطقة قد استمرت عبر القرون مسرحا للقبائل البدوية التي لاتخضع لسلطة أو نظام فقد كان لابد من يد قوية حازمة للحفاظ على الأمن والسلام في مكة والمدينة والحجاز عموما. وقد كانت المنطقة مفتقرة دائما لمثل تلك اليد القوية .

بعد أن ضعفت سلطة الإمبراطورية العباسية ، ازدادت المنافسة بين الدولة العباسية والدويلات التي نشأت ضمنها بحيث أصبحت سلطة الخليفة في تلك الدويلات مجرد ظل باهت، فلم تعد قادرة على ممارسة القوة في تلك الدويلات، وحتى تلك الدول الهامة التي كانت مؤهلة من خلال مركزها وموقعها للحفاظ على الأمن والنظام في الأراضي المقدسة  والتي كانت تلك مسؤوليتها لم تكن مستعدة لتزويد الحجاز بما يلزم من قوات من أجل استقرار الحكم .

هكذا تقلص الاهتمام بهذا الجزء من الامبراطورية الإسلامية الأقل إنتاجا والأكثر صعوبة على الحكم إلى الحد الذي أصبح معتادا تركه للفوضى باعتبار الفوضى إحدى خصائصه الأصلية . بالتالي فقد اقتصر اهتمام البلاد الإسلامية القوية نسبيا على تأمين قوافل الحجاج التي تنطلق من دولها نحو شبه الجزيرة العربية . وبما يخص تلك القوافل خلال نزولها هناك .

ومن رحم الفوضى في غرب شبه الجزيرة العربية الناتج عن انحلال الإمبراطورية الإسلامية ( يقصد العباسية ) ولدت ظاهرة ” شرافة مكة ” .

(ملاحظة : سنوك هنا يبحث في البيئة التاريخية  والشعبية – االقبلية الممزوجة بالمعتقدات المستمدة من التعلق ( الصوفي) بأثر وأهمية النسب للرسول عليه الصلاة والسلام ، وهو هنا غير مهتم بمناقشة مدى تطابق المعتقد الشعبي بالنص القرآني والحديث النبوي وروح الاسلام عموما .
عذره كباحث في التاريخ أن مايهمه هو كيف تتحول تلك المعتقدات إلى قوة معنوية يجري توظيفها في حقل السياسة).

من بين فروع السلالة الهائلة العدد التي تنحدرمن زواج فاطمة بنت النبي بعلي ابن عمه ، استقر قسم منهم في شبه الجزيرة العربية باعتبارهم أصحاب شجرة النسب مثل فرسان على رأس قبائل البدو قطاع الطرق . أو كمنافسين ضمن البيئة التي كان يزداد فيها باضطراد  تقديس النسب للدم النبوي . أما خارج الجزيرة العربية فقد انخرط أحفاد علي في ثورات سياسية على نحو يزيد أو ينقص.

أو أنهم ملؤوا أيديهم من حكام البلاد الاسلامية . لكن جشعهم المتسم بقصر النظر ، وافتقارهم العام للموهبة السياسية أحال بينهم وبين الاضطلاع بإنجاز أي مشروع هام . وكل نجاح أحرزوه كان يتصف بكونه مؤقتا .

(ملاحظة : هنا تبدو فكرة الكاتب غير واضحة فهو لايتحدث عن فترة زمنية محددة أو مجموعة سياسية محددة ومعلوم أن أحفاد علي بن أبي طالب وأتباعهم قد ظهرت ضمنهم فرق متعددة ، وأنهم أخفقوا تارة في الوصول للحكم ونجحوا تارة أخرى هم أو من يدعي الإنتساب اليهم مثل الفاطميين في مصر وشمال أفريقيا . وربما انصرف نظر الكاتب للثورات ضد الأمويين ثم ضد العباسيين خاصة الثورات التي كان الفشل نصيبها ، ونشير هنا إلى أن العباسيين في بداية ثورتهم ادعوا أنهم ورثة آل البيت أيضا ، واستخدموا تلك الراية للحشد والتعبئة ضد الأمويين لكنهم ابتعدوا عن التشيع تماما بعد استتباب حكمهم )

حوالي العام 1000 ميلادي أتاحت الظروف العالمية المحيطة بشبه الجزيرة العربية الفرصة لتحول جزء من الأراضي المقدسة لتصبح ولاية أشبه بالمملكة الفردية . حيث بدأ رؤساء عوائل محددة من بين أحفاد علي بن ابي طالب ( هم من أحفاد الحسن ) بتقوية مراكزهم في الحجاز وحيازة الأراضي ، ومنذ تاريخ 1200 ميلادي حتى اليوم ( يقصد العام 1916 ) فإن فرعا من سلالة علي بن أبي طالب على رأسه قتادة قد تمكن من المحافظة على السيادة في مكة .

(ملاحظة : في 1200 تقريبًا استولى الشريف قتادة بن إدريس على السلطة واعترف به السلطان الأيوبي كأمير، واحتفظت سلالته بالإمارة حتى ألغيت في عام 1925 م . المرجع : من كتاب :
Prothero، G.W. (1920) ، Arabia  ،  المكتبة الرقمية العالمية  )

 

وقفة:

(في الحقيقة ليس في الاسلام ما يمنح أحفاد الرسول عليه الصلاة والسلام أي امتياز ديني أو دنيوي ، وعلى النقيض من ذلك فهناك تأكيدات متعددة على أن عمل الانسان وخلقه وتقواه هو مايقربه من الله أو يبعده عنه ولاشيء آخر .
تأمل فيما جاء في القرآن الكريم : ” وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَٰكِمِينَ
فنوح لايسأل الله عز وجل لابنه سوى النجاة من الطوفان باعتباره من أهله ، فماذا كان الرد : ” قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيْرُ صَٰلِحٍۢ ۖ فَلَا تَسْـَٔلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ ۖ إِنِّىٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ

وفي الحديث الشريف : ” يا مَعْشَرَ قريشٍ ! اشْتَرُوا أنفسَكم من اللهِ ، لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا ، يا بني عبدِ مَنَافٍ ! اشْتَرُوا أنفسَكم من اللهِ ، لا أُغْنِي عنكم من اللهِ شيئًا ، يا عباسُ بنَ عبدِ المُطَّلِبِ ! لا أُغْنِي عنكَ من اللهِ شيئًا ، يا صفيةُ عَمَّةَ رسولِ اللهِ ! لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا ، يا فاطمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ ! سَلِينِي من مالي ما شِئْتِ لا أُغْنِي عنكِ من اللهِ شيئًا”

فإذا كان الله لم يمنح النسب أهمية في معرض حكمه على الانسان .

وإذا كان الرسول لم يمنح النسب أهمية في معرض القيمة والجزاء النهائي نزولا من قريش وحتى فاطمة بنت الرسول عليه السلام .
فكيف يمكن إعطاء النسب قيمة فيما هو أقل بكثير مما سبق من أمور التفاضل بين الناس في شؤون السياسة والمكانة الاجتماعية؟

وكل ماجرى من إعطاء النسب قدسية ومكانة دينية ودنيوية إنما هو اختلاق ومخالفة لروح الاسلام ونصوصه الثابتة ، اصطنعته الخلافات السياسية على الحكم ونفخت فيه ، ثم تداخل مع العقلية القبلية التي تنظر لرابطة الدم والنسب باعتبارها أهم الروابط على الاطلاق .
من أجل ذلك كان مناسبا للسيطرة على القبائل العربية في شبه الجزيرة أن يحكمها أحفاد الرسول ، فنسبهم كفيل بإعطائهم ميزة تقدمهم على أي منافس آخر ، وسيستمر ذلك حتى تفرض قوة قاهرة الحكم عليهم كما حدث لاحقا )

بالعودة لمتابعة نص الكتاب:

فالألقاب مثل الشريف الذي ترجم للانكليزية شيريف :

بمعنى “النبيل” ، و”السيد”  المرادف” لسنيورأو لورد” قد أصبحت شيئا فشيئا عناوين النبالة”shereef”

في العالم الاسلامي ، خاصة ضمن أحفاد النبي ، ورئيس العائلة في مكة أصبح شريف مكة كامتياز واضح والناس يدعونه سيدنا ، أما إلى أين تمتد سلطته خارج مكة فذلك يتبع عدة أمور .

فمن جهة حيثما توجد السلالة الهاشمية المحدودة العدد حول مكة ، ومن جهة أخرى وفقا للظروف العامة المناسبة فكلما ازدادت الفوضى والفراغ في القوة حول مكة وكلما كان الشريف أكثر ديناميكية وطموحا كلما استطاع مد سلطته خارج مكة في منطقة الحجاز . والعكس صحيح أيضا .

إن عيوب السلالة الهاشمية قد تركزت إلى حد كبير في الخصائص غير الملائمة للفرع الهاشمي في مكة

فقد كانوا عاجزين عن الإضطلاع بأي مهمة كبيرة .

وكان الحجاج يتعرضون للسلب لكل مايملكون من قبل الشريف وأتباعه حين لاترافقهم قوة عسكرية .

تماما كما هو الحال بالنسبة للبدو الذين اعتادوا على سلب الحجاج كل مايملكون من مال ومقتنيات كغنيمة إلهية حينما تجتاز قوافل الحجاج الأراضي التي يقيمون فيها .

وكان الأشراف يعتبرون أنفسهم  على حق في تعريض الحجاج لكل أنواع الاستغلال بينما ليس من حق الحجاج الاعتراض على ذلك .

وأبعد من ذلك ، فقد كان هناك بين أعضاء العرق النبيل نزاع على الميراث مرة بعد مرة ، لذا كان أمرا مألوفا أن يكون هناك رئيس  فرع هاشمي من بين فرعين متنافسين يترأس شرافة مكة في حين أن الآخر يحاصر مكة ، أو يقطع الطرق حولها . وبالنسبة للسكان المقيمين في مكة فقد جعلهم ذلك الصراع في حالة هلع دائم ، لذا كانت بركات الهدوء والسلام ترفا غير معهود لديهم .

عندما كان الحجاز يحكم من قبل المركز السياسي للدولة الإسلامية كانت عاصمته المختارة هي المدينة المنورة ، وكان ذلك مناسبا لشرافة مكة ، لأنه يبعد القوى العسكرية وملحقاتها عن مكة ، تلك القوى التي يمكن أن تعرقل نفوذهم وتقلص سيادتهم على الحجاز .

فقط من حين لآخر كان أشراف مكة يسيطرون على المدينة إضافة لمكة ، وذلك بسبب المسافة الكبيرة الفاصلة بين مكة والمدينة والوسائل المتاحة للسفر والانتقال بين المدينتين  .

أما بلدة الطائف الجبلية والتي اعتاد المكيون على اتخاذها مصيفا لهم على مسيرة ثلاثة أيام من مكة ، وكذلك جدة الساحلية على مسيرة يومين من مكة فقد كانت تتبع عادة لشريف مكة بانتظام .

(ملاحظة : لدي تحفظ على ما أورده الكاتب من انخراط شرافة مكة أحيانا بأعمال قطع الطرق ، فهو لم يأت بأدلة ومراجع لذلك ، كما يبدو ذلك مستغربا بالنسبة لسلطة أهم وظائفها حفظ الأمن في الأراضي المقدسة ، قد يضطر شريف مكة لنسج علاقة لابد منها مع بعض القبائل التي تقوم بقطع طرق الحجاج وسلبهم من وقت لآخر ، لكنه يفعل ذلك ليس كشريك لهم في النهب بل لتأمين طرق القوافل وربما يضطر لرشوتهم كي لايقوموا بالسلب وقطع الطرق .

كما يمكن تقدير أن شرافة مكة كانت تفرض على الحجاج رسوما معينة لقاء دخول الأراضي المقدسة ولقاء الخدمات التي تقدم لهم مثل المحافظة على الأمن والنظام أثناء موسم الحج ، وذلك أمر متوقع ويمكن تبريره ، كما يمكن توقع حدوث استغلال أحيانا من قبل بعض الأشراف ، فهم في النهاية بشر فيهم الصالح والطالح .

وعلينا أن نكون حذرين دائما في مايقدمه الكاتب ، رغم أن ماقام به من محاولة رسم الخلفية التاريخية لنشأة شرافة مكة يستحق التقدير ، ويندر أن تجد مثل تلك الدراسة العلمية في المؤلفات العربية للأسف الشديد).

وهناك عدة موانىء أصغر من جدة كانت تتبع أيضا لشريف مكة . أما العلاقة مع الداخل في  شبه الجزيرة العربية والتي تقطنها القبائل العربية عموما فقد كانت تختلف حسب العلاقات الشخصية بين الشريف ورئيس القبيلة البدوية .

تميزت شرافة مكة عن معظم الولايات والدويلات التي انقسمت إليها الإمبراطورية الإسلامية ( الدولة العباسية المتأخرة ) فهي لم تتطور تدريجيا من الحكم الذاتي إلى حالة متقدمة من الإستقلال . لكنها ولدت بصورة عفوية خلال فترة  من الفوضى السياسية. وفي بغداد كما في كل العواصم المجاورة تقبل الناس ذلك التغيير ( صعود شرافة مكة ) كأمر واقع ، بالتالي  فشرافة مكة لم تحصل على اعتراف صريح مثلما أنها لم ترفض بصورة صريحة أيضا باعتبارها غير قانونية . كما أن امتداد بقاءها لقرن كامل حمل معه أيضا نوعا من الشرعية العرفية ( غير المكتوبة ) وبسبب القبول الذي حازته من كثير من القبائل الاسلامية ( طبعا العربية ) ، والتي تتمثل عادة بوفودها في مواسم الحج . وهؤلاء الزوار يحظون عادة بالرعاية الطبية والمعالجة من الأمراض من قبل شرافة مكة .

وهم بالرغم من ذلك كانوا يحملون اعتقادا بأن الحق في حكم مكة ينبغي أن يعود إلى فرع  من النسب الهاشمي المقدس ، وقد كانت تلك القناعة لديهم حقيقة بسيطة غير قابلة للجدل .

أما القوى الاسلامية الرئيسية ( كالسلاجقة والفاطميين ) والذين كان شرفاء مكة مجبرين على الخضوع لهم  فقد كانوا دائما يبدون تحفظهم إلى جانب اعترافهم الضمني بشرافة مكة .وهكذا لم يكن شريف مكة حاكما مستقلا قط  ، وكان عليه في  نهاية المطاف  الاعتراف بسيادة الدولة المهيمنة .

كما سبق فالفضل في حصول شرافة مكة على وضعهم المتميز يعود لتلك الظروف والأحداث التي رافقت ولادة حكمهم لمكة . ولم نشهد بعد ذلك أي تقدم لديهم مهما كان ضئيلا يرتبط بالمكانة الفريدة لمكة بالنسبة للعالم الاسلامي الواسع .

(ملاحظة : يستعيد الباحث هنا ضمنا ماسبق أن أشار اليه من انعدام قدرة العائلة الهاشمية الحاكمة لمكة على الإضطلاع  بالمهام الكبيرة وتواضع طموحهم وكفاءاتهم )

منذ القرن العاشرالميلادي لم يمتلك أي من الأمراء المسلمين الآلية العسكرية والسياسية التي تتحكم بغرب شبه الجزيرة العربية ( الحجاز ) ولو بشكل غير كامل من النظام .

لكن أولئك الأمراء كانوا  يتشابهون في نقطتين:

الأولى: تصميمهم على ذكر أسمائهم في الأدعية والصلوات في موسم الحج في مكة وكل واحد منهم كان يرغب بذكر اسمه قبل الآخر .

والثانية: أن الوفود التي تمثلهم  في موسم الحج تحصل على ترتيب متقدم يناسب ما يتظاهرون به أمام الشعب من مكانة وهيبة .

في الصلاة والدعاء كان لاسم الخليفة المقام الأول دون منازع ، حتى بعد أن أصبحت سلطته الفعلية أثرا بعد عين ، لقد احتفظ أشراف مكة بالسلطة في مكة من العام 1000م وحتى 1200م  بنهجهم نوعا من الحيادية ، وبتوجيههم كان يتم الدعاء للخليفة في بغداد ومرة ثانية لمدعي الخلافة الفاطمي في مصر ، وذلك وفقا لقوة كل منهم ولما يقدمه من أعطيات ومنح لشرافة مكة .

منذ العام 1200 م وحتى اليوم ( تاريخ كتابة البحث حوالي 1916 ) تحرر شرفاء مكة من الإختيار بين الخليفة في بغداد ومنافسه الفاطمي حين سقطت الدولة الفاطمية وحين اجتاح المغول بغداد عام 1258 م ، وفي القرون التي تلت اكتفى شرفاء مكة بالدعاء للسلاطين في الصلاة ، وبذلك ارتسمت العلاقة الرسمية بين شرافة مكة والسلاطين لأول مرة في أدعية الصلاة .

احتلت مصر مكانة لاتقبل المنافسة بحيث يمكن القول إن سلاطينها (  يقصد الأيوبيين ثم المماليك ) مارسوا نوعا من الوصاية على الحجاز من القرن الثالث عشر الميلادي وحتى القرن السادس عشر وقد كان الحجاز خلال تلك الفترة يعتمد على أرض النيل في الحصول على المواد الغذائية والحاجات الضرورية الأخرى . على أن سلاطين المماليك قبلوا استمرار حكم مكة من قبل الأشراف دون أن يتدخلوا في الصراعات التي لاتنتهي على السلطة والتي كانت تدور ضمن الهاشميين .

فقط عندما كان يلزم الأمر كان السلاطين المملوكيون يمارسون شيئا من الجهد العسكري عبر فصائل مخصصة من الجيش لتعديل ميزان القوى بين المتنافسين على السلطة في مكة بحيث يتحقق لهم الخضوع في النهاية. وقد كان هناك دائما ذلك الفارق الكبير في القوة بين الجنود المدربين لأقوى دولة إسلامية ( مصر ) وبين قوة أشراف مكة المتواضعة المؤلفة عادة من بضع مئات العبيد، ومثلهم من المرتزقة ، والدعم غير المنتظم من بعض القبائل البدوية . كما أن التمردات المحلية تطلبت دائما من قائد الحملات التأديبية التعاون مع أحد الفرقاء في هذه البلاد المضطربة .

في عام 1517 م وعندما جرى الإستيلاء على مصر من قبل السلطان التركي سليم الأول تسلمت تركيا بصورة اوتوماتيكية الوصاية على الأراضي المقدسة في الحجاز .

أطلق كل واحد من السلاطين العثمانيين على نفسه بتواضع وفخر لقب ” خادم الحرمين الشريفين ” وفي الوقت ذاته كانت حاميتهم في مكة تظهر للأعين أنهم لايرغبون في  إشراك أحد بتلك الخدمة للديار المقدسة .
ومنذ ذلك الوقت ( يقصد تسلم الوصاية على الحجاز بعد السيطرة على مصر ) ظلت أسماؤهم تسبق اسم شريف مكة الأكبر في الخطب والأدعية . وبعد ذلك ارتفع شرف مكانتهم حين أصبح لقب خليفة المسلمين يسبق اسماؤهم والذين كان يشبه الختم على قوتهم التي لانظير لها في العالم الاسلامي .

لكن العثمانيين  لم يبذلوا سوى جهد قليل لإصلاح الادارة الغارقة  في الفوضى للحجاز ، مثلما كان عليه الحال بالنسبة لمن سبقهم بالوصاية على الأراضي المقدسة .

وفي ذلك التاريخ كانت شرافة مكة قد أكملت ثلاثمئة عام دون أن يسائلها أحد عن مشروعيتها أو التأييد الذي تحظى به مؤسستها . وكانت الأساليب الادارية  للعثمانيين بالكاد قد بدأت تتكيف مع المركزية الدائمة التي اتصفت بها الإمبراطورية الإسلامية السابقة ( يقصد الدولة العباسية ) . وسرعان ما بدأت مختلف الولايات تأخذ شكل ادارات ذاتية ، كل واحدة منها مستقلة عن المركز إلى حد كبير .

كان كل من باشوات القاهرة ودمشق وبغداد يتنافسون في من سيكون له المرتبة الأولى من الحضور في مكة . وكانت شرافة مكة تستفيد من ذلك التنافس ، بالمقابل كانت الدول التي تتنافس على السيادة على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة تستفيد من النزاعات بين أشراف مكة.

لم يعان أشراف مكة في القرن الثامن عشر من ضغوط خارجية عليهم ، لكنهم كانوا مضطرين  للاعتماد على أنفسهم ، ونظرا لعدم امتلاكهم مايكفي من العتاد فقد شكل ذلك خطرا عليهم في حال ظهور عدو غير متوقع يهدد بتدمير سلطتهم في الحجاز .

في ذلك الوقت ظهر الوهابيون في الجزء الداخلي من شبه الجزيرة العربية ، يحملون بحماس وتشدد راية الإصلاح و تخليص الاسلام مما لحق به من شوائب .

هذه الحرب المقدسة المتجهة بصورة رئيسية ضد الهيمنة التركية ( الدولة العثمانية ) نجحت في إشعال حماسة دينية في أجزاء واسعة من شبه الجزيرة العربية تشبه تلك الحماسة الدينية التي أيقظها محمد (عليه الصلاة والسلام) قبل اثني عشر قرنا. ومع نهاية القرن الثامن عشر ومطلع القرن العشرين تمكن الوهابيون من السيطرة على مكة والمدينة وفرض الاعتراف بسلطتهم على أشراف مكة .

لاحقا استطاع باشا مصر محمد علي والذي أصبح الخديوي الأول فيما بعد وبجهود عسكرية مضنية استعادة الأماكن المقدسة من يد الوهابيين منفذا بذلك المهمة التي أوكله بها السلطان العثماني .
من أجل ذلك تمت معاقبة شريف مكة لتخاذله في التصدي للوهابيين ضمن ولايته مع بعض أعضاء عائلته ، كما منح السلطان العثماني مركز الشريف المعزول لفرع ثان من الأشراف.

لكن وحتى في هذه الكارثة ( استيلاء الوهابيين على الأراضي المقدسة وطردهم الأتراك ثم استعادة سلطة الدولة العثمانية على تلك الأراضي بجهود الباشا محمد علي ) لم يجر الحديث عن إلغاء شرافة مكة .
(ملاحظة : في الحقيقة أظهرت الدولة العثمانية دائما احتراما كبيرا لكل ما يتعلق بآثار الرسول وكل من يقول إنه منسوب اليه ويثبت نسبه لديهم وفق مايتوفر من أدوات محدودة  للتحقق من النسب).

ومع طرد الوهابيين من الحجاز عام 1813 م بدأت آخر مرحلة تاريخية لشرافة مكة ، فالوصاية التي مارسها الخديوي الأول لمصر محمد علي باشا والتي استمرت حتى العام 1840 م ، بالتعاون تارة مع الدولة العثمانية وبمنافستها تارة أخرى كانت فعالة بصورة كلية ، حيث كان السلطان العثماني ممثلا بصورة منتظمة من قبل حاكم للولاية معين من استانبول ، وهكذا فالأيام الجميلة السابقة التي تمتعت بها شرافة مكة من قبل والتي كانت فيها مطلقة اليدين في مكة قد ذهبت بغير رجعة .

لم يكن التفاهم بين شرافة مكة وبين السلطنة العثمانية وديا في أي وقت ، فتطلعات واهتمامات كل من الطرفين كانت مختلفة بصورة جوهرية ، فالسلطان العثماني كان ينظر لشرافة مكة كشر لابد منه يمنع وضع الحجاز كولاية عثمانية مثل سائر الولايات ، فهم كانوا يحتفظون هناك بحامية عسكرية وبموظفين مدنيين ، لكنهم لم يتمكنوا من إدارة الحجاز كما هو حال بقية الولايات ، فقد كان نفوذ وسلطة الإدارة العثمانية معاقا من قبل نفوذ وقوة شرافة مكة الذي بقي بدون ضوابط وحدود واضحة .

كان شريف مكة يعين من قبل السلطة السائدة ، ولم يعد بمقدور أي منافس له من الأسرة الهاشمية إزاحته بالقوة كما كان الحال سابقا . مما اضطر المنافسين إلى اللجوء لأسلحة الدسائس مع السلطان وحاشيته المقربة .

مع ذلك ، ومع مظاهر الإستقرار الإداري للحجاز تحت سلطة الدولة العثمانية ، فقد تطلب الأمر سنوات عديدة حتى العام 1880 م لتقتنع شرافة مكة نهائيا بعدم جدوى أي مقاومة  مسلحة للحاكم العثماني للحجاز وسلطته المفروضة عليهم . وبذلك أصبحت السردية الشائعة لدى أشراف مكة أن السلطان العثماني ينبغي أن يطاع ، لكن موظفيه في الحجاز غير مخلصين ولايمكن قبولهم . وأصبح معتادا أن يتم الاحتفاظ ببعض الأشراف في استانبول كرهائن في الواقع لكن مع الاحترام وتأمين حياة كريمة لهم .

وذلك لضمان ولاء الشريف في مكة للسلطان ، وأيضا بصورة جزئية لإزالة مخاوف شريف مكة من وجود منافسين بالقرب منه . ومن الواضح أن هؤلاء الرهائن هم البديل الجاهز أيضا لشريف مكة حال ظهور أي نزعة تمرد عنده.

(ملاحظة : تبدو هذه المرحلة من تاريخ شرافة مكة وكأنها مرحلة عشية ” الثورة العربية الكبرى ” ويظهر فيها بوضوح التوتر الدائم والصامت بين شرافة مكة والسلطان العثماني ، هذا التوتر الناشىء بعد أن فقدت شرافة مكة تلك الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها في العهود السابقة ، وخصوصا بسبب وجود معسكرات الجيش العثماني الدائمة بجانبها ، وتعيين مسؤول عثماني ممثل للسلطان لحفظ النظام وادارة الأراضي المقدسة ، مما يعني وجود ازدواجية في ممارسة السلطة الأرجحية فيها ستكون دائما للإدارة العثمانية وممثلها بضمان القوة العسكرية المرابطة ، ورغم كون شرافة مكة منافسا هزيلا نسبة إلى قوة الدولة العثمانية لكنها متجذرة في العادات والتقاليد المحلية وبعلاقاتها القبلية واستتثمار العنصر الديني العاطفي في الشعور بالمقدس تجاه مايعتبر سلالة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) .

ويمكن النظر لذلك التوتر ايضا من زاوية الإختلاف في طرق ممارسة السلطة بين دولة كبرى تمتلك تقاليد عريقة في الإدارة والسياسة عرفت عنها الدولة العثمانية وبين سلطة محلية غارقة في العزلة ذات

طبيعة عشائرية بعيدة عن منطق الدولة الحقيقية . وهو الاختلاف البنيوي الذي تم التمويه عليه لاحقا بأفكار قومية مصدرها بلاد الشام والعراق ومصر أيضا ، وفي مرحلة لاحقة ظهر ذلك الاختلاف في هشاشة التحالفات السياسية التي أنشأها الشريف حسين مع انكلترا وعكست الجهل المطبق بالسياسات الدولية ، والسهولة التي تم فيها توظيف حركة الشريف حسين لصالح الجهد العسكري البريطاني في الحرب العالمية الأولى ، ثم تمزيق تلك الحركة واستخدام أشلائها في تنفيذ المخطط الغربي لتقسيم المنطقة والسيطرة عليها).

لم تكن مهمة الحكام الأتراك المنتدبين للحجاز سهلة أبدا ، فالشريف القوي سيكون دائما مستعدا لتخفيض سلطتهم إلى أقل حد ، أما الشريف الضعيف فهو وإن يكن مطيعا لهم لكنه سيبقى عاجزا عن السيطرة على منافسيه الطامعين من الأشراف من عائلته، وبصورة عامة سيبقى في حالة خوف من مكائد المعارضة .

أما التعاون بين الحكام والأشراف لحفظ الأمن والنظام فقد كان حلما بعيد المنال ، فالطرق بين مكة والمدينة وجدة والطائف كانت في حالة مزمنة من انقطاع حبل الأمن . ولم يكن من النادر أن يتمتع قطاع الطرق من البدو بدعم الشريف بالسر .

بالنسبة للشريف عون  الذي شغل منصب الشرافة بين الأعوام 1882-  1905 فقد كان من النوع القوي الفعال ، لكنه كان في الوقت ذاته طاغية جشعا ، وتوحي أفعاله بطموح قيصر المجنون .

فمن حاكم عثماني لآخر يخلفه ، كان الجميع يجدون أنفسهم منضوين تحت نفوذه وكان عليهم البقاء في ظله ، ولم يختلف الأمر سوى عندما جاء الحاكم العثماني أحمد راتب الذي تسلم حكم الديار المقدسة منذ العام 1892 وحتى وفاة عون عام 1905 فقد أغمض عينيه عن الأفعال غير القانونية لعون مقابل شراكة في المنافع التي تحصلها الادارة من المخالفات .

بعد ذلك تم تعيين عبد الله شقيق عون كشريف بديل لمكة والحجاز ، لكنه توفي قبل بدء رحلته لبلاده .

ثم عين السلطان الشريف علي ابن عم عون “كأمير على مكة” وكان  ذلك هو اللقب الذي منح لهؤلاء الأمراء من قبل ممثل الدولة العثمانية  بعيدا عن الاحترام للحساسية الممكنة لهذا الموضوع .

وعندما حدثت الثورة في تركيا عام 1908 استسلم كل من الشريف علي وأحمد راتب وخضع أحمد راتب للمسائلة المالية قبل النفي ، أما الشريف علي فقد خلع من منصبه وذهب ليستقر في القاهرة .

وحل مكانه في المنصب ابن عمه الحسين ، وسرعان ماظهر أن الحسين هذا كان يتطلع إلى استعادة سمعة ومكانة شرافة مكة مستفيدا من الظروف السياسية التي استجدت في الدولة العثمانية .

من المعروف جيدا أن الجزيرة العربية قد نالت نصيبها من الصعوبات العديدة التي كان على حكومة تركيا الفتاة مواجهتها منذ بداية صعودها للسلطة . وهكذا وجد النظام الجديد أن من الأفضل إبقاء الحسين الذي سبق تعيينه وأن يعطى شيئا من الحرية وقد عمل الحسين على الاستفادة القصوى من تلك الحرية التي أعطيت له .

خلال الحرب التركية – الايطالية كانت سلطة الاحتلال التركي في حالة فوضى ، خاصة في القسم الجنوبي من شبه الجزيرة العربية ، وقد طلبت الحكومة التركية من الحسين المساعدة في فك الحصار عن الحامية العثمانية المحاصرة في أبها ، في مقاطعة عسير الجبلية ، وبالفعل تمكن الحسين بجيشه المكون من بعض القبائل البدوية والعبيد الأرقاء والمرتزقة والمسلح بأسلحة قديمة من إنجاز المهمة وإنقاذ الحامية المحاصرة في أبها ، وبدون شك فقد ساهمت تلك المهمة في تغيير شعور الحسين بالتبعية للسلطة العثمانية .

نشرت الوكالة الوطنية للأخبار التركية خبرا مناقضا لما جاء في وكالة رويتر بما يتعلق بالثورة في الجزيرة العربية  مفاده أن تمردا لمجموعات من قطاع الطرق الذين أغرتهم بريطانيا بالمال قد تم سحقه بسرعة  ولاحقا نشرت الوكالة أن الشريف حسين قد تم عزله وإسناد منصبه للشريف علي .

وهنا يقفز التساؤل: هل تعني الوكالة الوطنية التركية للأخبار أن الشريف حسين هوذاته قائد ما أسمته بتمرد مجموعات قطاع الطرق ؟ وهل سيتمكن الشريف علي الذي يعيش حاليا خارج مكة من الوصول  لمكة ؟ كما ليس واضحا من خبر الوكالة الوطنية فيما إذا كان الشريف علي الذي يوالي الدولة التركية والذي سينهي مرة واحدة تمرد قطاع الطرق هو ذاته الشريف علي الذي عزلته سابقا الحكومة التركية وعينت الشريف حسين مكانه في المنصب .؟ لكن من المحتمل جدا أنه هو ذاته ، ووفي هذه الحالة يفترض أن يكون الشريف علي قد غادر القاهرة قبل الحرب واستقر في استانبول .

هنا نشاهد إعادة لذات اللعبة التي عملت عليها الدولة العثمانية من استخدام شريف ضد آخر ، تماما كما فعلت في الماضي ، والمحصلة تعتمد على من من الشريفين سيتمكن من جمع القوة الأكبر مما سمي بقطاع الطرق ، هل هو علي بما لديه من دعم الأتراك وأصدقائه ؟ أم حسين المدعوم من قبل الأطراف المعارضة ، وبالتأكيد بغض النظر الرابح والخاسر فهو يوضح أن ثورة ضد الدولة العثمانية التركية تجري ضمن الظروف الحالية .

على افتراض أن المهاجمين من قطاع الطرق الذين أشارإليهم البيان التركي – الألماني وشريف مكة الذي ورد اسمه في وكالة رويتر هم جهة واحدة ، بالتالي يكون الشريف حسين شريف مكة قد أعلن وقوفه ضد سلطة الدولة العثمانية ، وهنا يأتي السؤال : ماذا يعني الشريف حسين بمعارضته سلطة الدولة العثمانية ؟

هناك العديد من الكتاب المتخصصين بالإسلام  الذين تطرقوا لعدم شرعية اسناد منصب الخلافة للسلطان العثماني – التركي وفقا للشريعة الاسلامية ، هذا المنصب الذي اعتبر منذ أكثر من تسعة قرون من قبل العالم الاسلامي محصورا بالعرب من  قريش الذين انحدر منهم النبي (صلى الله عليه وسلم)، وكل ما قدم من تبرير وتسويغ لإاسناد منصب الخلافة للسلطان العثماني منذ القرن السادس عشر لم يكن أبدا أمرا متفقا عليه على وجه العموم.

أما كونهم (العرب) لم يقوموا بثورة عنيفة لمعارضة سلبهم منصب الخلافة فذلك عائد لقوة الامبراطورية العثمانية وقت أن اتخذ السلطان العثماني لقب خليفة المسلمين ، وجزئيا لكون للظروف التاريخية التي لم تكن تسمح للعرب حتى لو استعادوا كرامتهم المغتصبة ( يقصد منصب الخلافة ) باستثمار ذلك في إحراز إنجازات هامة .

في حين أن لقب الخليفة لايضيف أي شبر من الأرض للمساحة التي انتزعها السلطان  بالسيف ، كما أن السلطة الروحية لم تمنح قط من قبل جماعات المسلمين للخليفة ( المقارنة هنا بين الخليفة عند المسلمين والبابا في الكنيسة الكاثوليكية الذي يمتلك سلطة روحية كاملة ) لكن السلطان العثماني باتخاذه أعلى تسمية يمكن أن يحوز عليها حاكم مسلم بعد الرسول (ص ) قد أعلن أن أي أمير أو حاكم مسلم لايمكن أن يسمح له باعتبار نفسه مساويا في المكانة لذلك السلطان- الخليفة .

لم يتأثر المسلمون الخاضعون لسلطة السلطان العثماني باتخاذه لقب الخليفة تأثرا ذا قيمة ، كما أن المسلمين الخاضعين لحكام مسلمين آخرين كانوا أقل تأثرا ، وأقل من الجميع كان تأثر المسلمين الخاضعين لحكومات غير إسلامية ( الاشارة هنا للأقليات المسلمة وأيضا للدول تحت الاحتلال الأوربي وهي إشارة مطمئنة خاصة للدول الإستعمارية من أن لقب الخلافة لايقدم ولا يؤخر في الشعوب الإسلامية التي يستعمرونها).

لقد كان بالامكان دائما وبكثرة رؤية الحقائق السابقة المتعلقة بتأثير لقب الخلافة في المسلمين في التاريخ الإسلامي وعبر مئات السنين ، وقد ازدادت وضوحا في القرون الأخيرة .

مع ذلك فإن  الخليفة القوي يفترض فيه نظريا أن يضمن الوحدة السياسية لجميع المؤمنين .

ينظر للخليفة كتجسيد حي لوحدة المسلمين وبصورة  رئيسية كقائد لجيوشهم ضد أعداء الايمان ، أو أنه يحمل لقبا مجردا من أي معنى حقيقي .

وفي النظام العالمي الحالي لايمكن تحمل تلك المؤسسات التي تعود للقرون الوسطى ( يقصد الخلافة الإسلامية )  ، وبالنسبة لتركيا فلايمكنها العيش بسلام مع بقية دول العالم التي تعيش فيها تجمعات إسلامية مالم تتخلى بصورة نهائية عن أية ادعاءات تحملها فكرة الخلافة، حتى لو بقي لقب الخلافة كمنصب فخري.

وقد فهم ذلك رجال الدولة الأتراك في الفترة الأخيرة بصورة جيدة ( يقصد الإتحاديون ). فإما أنهم استبعدوا فكرة الخلافة في جميع لقاءاتهم الدولية أو هم تسامحوا مع النظرة الخاطئة لزملائهم الأوربيين القائمة على مماثلة الخليفة بالبابا الذي يعتبر رأس الكنيسة باعتبار أن استمرار مثل ذلك المفهوم لايضر شيئا في الواقع .

بالنسبة لعامة المسلمين غير المثقفين ممن لايقيمون وزنا للآراء المعاصرة والذين استمروا في إعطاء مكانة هامة لفكرة الخلافة البالية ضمن الإطار النظري لنظامهم السياسي فقد ظهروا غالبا على أية حال حاملين لرؤيا إسلامية عامة تهدف لاستعادة ما انتهى منذ زمن بعيد من الحياة الواقعية ولو بصورة أوهام . وغالبا ما كانت تلك الرؤيا محملة  بالطموح .

أما ماهي فرصة فكرة الخلافة للصعود ثانية على مسرح العلاقات الدولية المعاصرة فقد ظهرت عندما استحضرت  الحكومة التركية والتي شجعها تحالفها مع الألمان فكرة الخلافة من التاريخ وهكذا كان الإعلان عن ” الحرب المقدسة ” ( يقصد إعلان الجهاد ) ضد التحالف أول إشارة لنهوض فكرة الخلافة من جديد ، هذا الإعلان الذي جاء مرفقا مع نداء لجميع المسلمين في العالم للمساهمة في تلك الحرب المقدسة . بغض النظر عن السلطات السياسية الملزمين بطاعتها . ( لاشك أن الكاتب يعتبر سلطات الإحتلال الاستعماري ضمنها أيضا ) .

بعد ذلك ظهرت سلسلة من المطبوعات الرسمية وشبه الرسمية تدور كلها حول نظرية مفادها أن السلطان – الخليفة التركي هو وحده وتحت كل الظروف الرجل الذي بيده صلاحية وضع السياسة واتخاذ القرار في العالم الإسلامي ولجميع المسلمين .

لذا ومع أخذ كل ماسبق بعين الاعتبار فقد أصبح من الضروري بالحاح الإجابة على السؤال حول ما إذا كان شريف مكة يحاول أن يكون منافسا للسلطان محمد رشاد على الخلافة .

إن نظرية الخلافة بغض النظر عمن يحمل ذلك المنصب لاتتفق كليا مع الظروف السياسية الواقعية المعاصرة ، وذلك سيكون صحيحا بعد انتهاء الحرب ( يقصد الحرب العالمية الأولى ) مثلما أنه كان صحيحا قبلها . ولايمكن تحمل مثل تلك الفكرة سوى بكون المنصب الذي يمثلها لاقيمة له تماما بل مجرد منصب فخري فارغ المضمون .

وما تبقى هو أنه ومن خلال ماسبق كتابته حول تاريخ شرافة مكة وظروفها الحالية فإن أية تطلعات نبيلة لشرافة مكة ( يقصد الانفصال عن الدولة العثمانية ) من أجل إمارات محلية لن تواجه ظروفا مناسبة .

وفكرة حصول شرافة مكة على الخلافة قد طرحت أكثر من مرة من قبل مستشرقين أوربيين متخصصين  بالمواضيع الإسلامية ، لكن لم تتم مقاربتها في العالم الاسلامي ، ومنذ العام 1200 م لم يفكربتبنيها  أي شريف لمكة من أحفادة قتادة وحتى في الأنحاء الأخرى من جزيرة العرب على وجه الاطلاق . ومن غير المناسب أن تتم ممارسة التأثير على شريف مكة لدفعه نحو المراهنة على الخلافة حتى من جهات أوربية . وجميعهم يعرفون جيدا كم سيكون حظه بالنجاح ضئيلا جدا . كما أنهم مقيدون بالتقاليد الغربية ( الموقف التقليدي ألأوربي المستمد من العلمانية ) وأيضا بالموارد المحدودة للحجاز .

( يقصد عدم قدرة الحجاز على أن يصبح العاصمة السياسية لوحدة إسلامية إفتراضية )

لعلنا لانقوم بعمل غير ضروري في نقدنا  للخطأ الذي يقع فيه كثيرون وهوالرأي القائل بأن انتزاع الحجاز من سلطة الدولة العثمانية يمكن أن ينهي الخلافة التركية بصورة أوتوماتيكية ، باعتبار أن الخليفة إنما يؤسس ادعاءه لذلك المنصب على كونه الحامي للمدينتين المقدستين ، فمثل ذلك الرأي لاتدعمه القوانين الإسلامية ولا التاريخ.

فقد عايشت مكة والمدينة حقبة كانت المدينتان فيها بيد القرامطة الخارجين عن الإسلام ، وعندما تخلى القرامطة عن المدينتين لصالح مدعي الخلافة الفاطمي ، ومرة ثانية عندما تم تجميد كافة العلاقات مع منصب الخلافة أثناء سيطرة الوهابيين على الحجاز وطردهم الأتراك من مكة والمدينة . وفي كلتا الحالتين السابقتين لم يتعرض أي مسلم لحق الخليفة في حيازته لشرف الخلافة ، فمنصب الخلافة استقل عن العلاقة بالمدينتين المقدستين أكثر من مرة .

وبعيدا تماما عن الطموح السياسي فهناك أسباب كافية شجعت الشريف حسين على شق عصا الطاعة للدولة العثمانية ، فمن المعروف جيدا أن العلاقة بين السلطان العثماني والشريف حسين كانت رسمية ولم تكن أبدا ودية ، ودائما كان الأشراف يشعرون بوطأة الوصاية التركية ، كما أن الأتراك لم يبذلوا جهدا في التقرب من الشعب هناك كي يشعر أنه يجني فائدة من وجود هؤلاء المحتلين. فهم لم يقدموا شيئا ، ولم  يكونوا قادرين حتى على تأمين الطرق الموصلة لمكة والمدينة خلال أسابيع الحج .

وفي الجزيرة العربية كما في كل مكان آخر لم  يبذل الأتراك جهدا له قيمة لكسب ود الشعب ، لقد كانوا غير شعبيين إلى أقصى حد .

( ربما يتحدث الكاتب هنا عن آخر مرحلة في عمر الدولة العثمانية التي شهدت تفكك الدولة وانتشار الفساد واختلال حبل الأمن وفرض ضرائب باهظة لتمويل الجهد العسكري ولتمويل مظاهر البذخ مثل قصري دولمة بهجة ويلدز ، لكن من غير الإنصاف تعميم هذه الحالة على كامل تاريخ الدولة العثمانية )

بالنسبة لجمعية الإتحاد والترقي التي أصبحت في سدة الحكم فعليا للدولة العثمانية منذ العام 1908 فلم تكن متعلقة كثيرا بالمكيين وأمرائهم الهاشميين .ومن كان يزور استانبول من المكيين بعد العام 1908 كانوا يعودون بمشاعر الصدمة والدهشة من القيم والآراء والتصرفات لتركيا الفتاة.

لقد كان كل اهتمامهم بمكة ومسائل الحج يتركز حول الفائدة التي يمكن للدولة العثمانية أن تجنيها من تلك الوظيفة ، تماما كما يهتم المزارعون بتقديراتهم لمحصول الحصاد .

بالنسبة للجمعية ( الإتحاد والترقي ) التي رفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة كمبادىء لها فسرعان ما انخرطت بالممارسات الإستبدادية في  الحكم كتلك التي كانت في عهد السلطان عبد الحميد ، أما في مكة فقد اعتبرت مسؤولة عن مشاركة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى والتي كانت لها نتائج سلبية واضحة على مكة والمدينة فقد توقف الحجاج عن القدوم للحج كما جرى تقييد توريدات الأغذية ، حتى الشعب في غرب الجزيرة العربية ( ربما يقصد بلاد الشام ) والذي سبق أن تقبل طواعية سيادة الدولة العثمانية فهو يلعن الآن النظام التركي الحالي .

فلاغرابة في أنهم مستعدون لمناشدة قوة عدوة للتحالف التركي – الألماني وهذا ما أشار إليه التلغراف الوارد من رويتر التي تقع إحدى وكالاتها في جدة .

لايمكن تصور دور لشرافة مكة في الحرب العالمية العظمى فالقوة التي تحت تصرفها لاتزيد عن عدد من الحراس الشخصيين ، وبعض المرتزقة ، والمشاركة الممكنة لبعض القبائل البدوية ، ومن الصعب دمجها بقوة واحدة منسقة ، وهم غير منضبطين وغير مدربين ، وليس من الممكن تجنيد جيش من سكان مكة أو المدينة في حين يمكن للشريف علي الموالي لتركيا أن يجد بينهم بعض الأتباع .

بالنسبة لجزيرة العربية فهي الآن كما كانت في الماضي منقسمة بطريقة لا أمل فيها تتنازعها العداوات منذ مئة سنة ( يقصد حملة الوهابيين في نجد على الحجاز ثم هزيمتهم أمام جيش محمد علي باشا

وعودتهم ثانية لنجد مع بقاء التناقض بينهم وبين الهاشميين إضافة للنزاعات القبلية الأخرى ) بالتالي فهي ( الجزيرة العربية ) غير مستعدة للمهام الكبيرة .

لكن في الوقت الحاضر فإن تمردا ضد الأتراك بقيادة الشريف حسين وبدعم من انكلترا يمكن أن يسبب مشكلة جدية للدولة العثمانية خاصة أنه يحدث في مكة الشهيرة والمقدسة لدى المسلمين في العالم .

مثل تلك الحملة إذا ماخطط لها جيدا ، ونفذت باقتدار ، ستكون ضربة قوية كرد على محاولة حكومة تركيا الفتاة المؤيدة بالحكومة الألمانية لاثارة التعصب الإسلامي ضد أتباع الديانات الأخرى ( يقصد الغرب المسيحي المتحالف ضد ألمانيا وتركيا ) واستخدام تلك المشاعر كأداة للفتنة .

على أية حال فعلى أولائك الذين يكرهون اللعب بنيران التعصب الديني قياسا على ما وصفوا به أنفسهم ( يقصد تركيا الفتاة ) ألا يغضبوا من نهوض العرب ضدهم ، وكل ذلك سيقود إلى وضع نهاية لتلك الضجة المفتعلة التي لاقيمة لها حول ” الخلافة ” و ” الجهاد ” والتي كان يمكن أن تؤخذ بجدية .

(ملاحظة : لم يتعرض الشريف حسين لمنصب الخليفة العثماني في الإعلان الذي شرح فيه أسباب الثورة عام 1916 لكن وفي 4 آذار 1924 وبعد ان أعلن المجلس الوطني التركي قراره بإلغاء الخلافة في مطلع آذار 1924 قامت وفود عربية من مختلف دول بلاد الشام والعراق والحجاز بمبايعة الحسين بن علي بالخلافة في عمان ،  وفي الخامس من شعبان 1342 الموافق 11 آذار 1924 صدر منشور باسم الخليفة أمير المؤمنين الحسين بن علي جاء فيه : ” إن إقدام حكومة أنقره على إلغاء منصب الخلافة الإسلامية هو الذي جعل أولي الرأي والحل والعقد من علماء الدين المبين في الحرمين الشريفين والمسجد الاقصى وما جاورها من البلدان والأمصار يفاجئوننا ويلزموننا ببيعتهم حرصا على إقامة شعائر الدين وصيانة الشرع المبين ).

***************************************

إلى هنا ينتهي البحث المخصص أساسا للخلفية التاريخية لشرافة مكة منذ بدء صعودها كظاهرة سياسية في الحجاز مبتعدة عن أصولها الاجتماعية – التقليدية المرتبطة بالمعتقد الديني . وذلك محل الإهتمام إذ من الضروري لفهم كل الأحداث اللاحقة امتلاك فكرة واضحة إلى حد ما عن خلفية ظاهرة شرافة مكة وتاريخ تلك الظاهرة ، وعلاقاتها الاجتماعية والسياسية المعقدة .

فالأصل في لقب ” الشريف ” لم يكن أبدا الحاكم السياسي لكنه مجرد إشارة للنسب الشريف ، ومن الجلي كيف أن تلك الصفة قد جرى استغلالها لتثبيت حكم عائلة بفروعها المختلفة للمدينتين المقدستين وللحجاز عموما ، وكيف تم ذلك التحول في زمن الفوضى السياسية للدولة العباسية ، ثم أصبح مع الزمن أمرا واقعا مسلما به بفضل عدة عوامل منها مايتعلق بضعف الأهمية الاقتصادية والاستراتيجية للحجاز مما لم يجعله محط المنافسة للسيطرة عليه ، بل على النقيض من ذلك ، فطبيعته القاحلة وكونه مسرحا للقبائل البدوية التي لايمكن السيطرة عليها سوى بصعوبة بالغة جعلته عبئا على مختلف الدول التي تعاقبت على العالم الإسلامي ، بينما كان على تلك الدول الإهتمام مجبرة بمكة والمدينة لما للمدينتين من مكانة مميزة عند جميع المسلمين وكذلك بتأمين طرق الحج التي ظلت دائما عرضة لغارات البدو ، وكذلك تأمين انتظام أعمال الحج والقيام بأعبائه ولو بالحد الأدنى ، وكل ذلك أعطى ظاهرة شرافة مكة الفرصة السانحة للظهور والإستمرار .

يضاف لما سبق حاجة القبائل في الحجاز وحولها لزعامة معنوية تكون بمثابة عنوان لهم للتعامل مع الكيانات الدولية المحيطة بهم ولفض نزاعاتهم المزمنة ، وربما لإضفاء شيء من الشرعية المستمدة  من الموروث على طبيعة أعمالهم التي اتصفت دائما بالغزو والسلب للقوافل بما فيها قوافل الحج .

تظهر الإستنتاجات الأخيرة للباحث المرتبطة بالمآلات المتوقعة لثورة الشريف حسين حدود تلك الثورة بناء على الوضع السياسي والاقتصادي والعسكري للحجاز ، فهي لن تخرج عن كونها فرصة لفتح جرح في قدم الدولة العثمانية المتحالفة مع الألمان في الحرب العالمية الأولى ، ومثل ذلك الجرح سيعرقل المجهود العسكري العثماني ويخلق نوعا من الإرباك للحكم في استانبول .

ومن الواضح أن البروفسور سنوك لم يكن يتصور نجاح تلك الثورة ، كما كان بعيدا نوعا ما عن المخططات السياسية البريطانية – الفرنسية التي كانت قد رسمت بوضوح خارطة المنطقة لما بعد الحرب العالمية الأولى آخذة بالاعتبار تقاسم أراضي الدولة العثمانية الآيلة للانهيار .

لكن تحليل البروفسور سنوك يلقي الضوء بصورة غير مباشرة على حقيقة أن ” الثورة العربية الكبرى” لم تكن لتستطيع  أن تفعل شيئا أكثر من عرقلة جزئية ومؤقتة لجيوش الدولة العثمانية وأن كل مازاد على ذلك لم يكن سوى محصلة تخطيط ومشاركة الدولة البريطانية التي استخدمت تلك الثورة لغاية مزدوجة عرقلة المجهود العسكري العثماني واستنزافه في جبهاته الخلفية وصناعة واجهة عربية – إسلامية تفتح الطريق أمام احتلال المنطقة العربية وتقسيمها وفق اتفاق سايكس بيكو سيء الذكر .

الفصل الثاني

قراءة في  إعلان الشريف حسين الثورة على حكم الدولة العثمانية

أول ما يلفت النظر في الإعلان كونه موجها ليس لأهل الحجاز ولا للعرب ولكن للمسلمين ، فهو يستبطن هنا كونه يصدر عن جهة لها مكانتها لدى جميع المسلمين وأعني بذلك شرافة مكة الممستأمنين على الحرمين الشريفين في مكة والمدينة ، وهو بذلك يشير ضمنا إلى جدارتهم في منافسة الدولة العثمانية التي كانت تعتبر لدى كثير من المسلمين دولة الخلافة الاسلامية وبالتالي لايجوز ” شرعا” الخروج عليها وعصيانها .

ويظهر ذلك التأثير المحدود للأفكار القومية على الأسرة الهاشمية في تلك اللحظة ، واختلاط تلك الأفكار بالعناصر الدينية التي يستمد منها الشريف حسين مكانته السياسية .

ينتقل الخطاب بسرعة إلى التذكير باعتراف أمراء مكة ” الأشراف ” بالدولة العثمانية وانضوائهم تحت رايتها بأسلوب يوحي بأن ذلك الاعتراف والتأييد جاء عن قناعة ورضى

وليس عن فرض إرادة القوي على الضعيف ، وأنهم دافعوا عن الدولة العثمانية حتى ضد أبناء جلدتهم العرب حين أرسلوا جنودهم لقتال التمرد الذي حصل في جنوب الجزيرة في منطقة أبها .

فهم لم يبيتوا العصيان والتآمر على الدولة العثمانية بل قاتلوا من أجل هيبتها وشرفها .

فماذا حصل إذن لإعلان الثورة اليوم ؟

يجيب المنشور بطريقة مباشرة وصريحة :

أنتم الذين تغيرتم ، فلم تعد الدولة العثمانية تلك الدولة التي ارتضينا رايتها ودافعنا عنها بالدم .

الدولة العثمانية اليوم تحت قبضة جمعية الإتحاد والترقي ذات التوجه القومي العنصري التركي ، وهي تتنكر للإسلام الذي قامت تحت رايته .

هذه الجمعية ذات السياسات المتخبطة الفاشلة التي تسببت في خسارة البلقان وتقويض عظمة الدولة العثمانية ، وأخيرا الزج في الدولة في معمعان الحرب العالمية مما وضع الدولة في موقف ” الهلكة ” .

لقد تسببتم في هلاك الكثيرين من مواطني الدولة ورعاياها ، وأفقرتم الملايين حتى اضطر الناس إلى بيع أبواب بيوتهم وأسقفها لشراء ما يقتاتون به من الجوع .

ماذا بعد ؟

ثم إنكم تنكرتم للإسلام والشريعة ، ودليل ذلك ما كتب في الصحيفة التي تنطق باسمكم من أن سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام هي شر السير ، على مرأى ومسمع الوزير الأعظم وجميع المسؤولين ، ثم أبطلتم حكم الإسلام في ميراث المرأة بإحداث ميراث يعطي الأنثى مثل الذكر ، وحللتم الفطر في رمضان للجنود المقيمين في مكة أو المدينة أو الشام بدعوى أن رفاقهم يقاتلون في حدود الروس !

وقيدتم أيدي السلطان فلم يعد بيده من الأمر شيء حتى تعيين رئيس الكتاب لديه ، فكيف يقدر على الإضطلاع بمهام خلافة المسلمين وهو مسلوب الإرادة ، سجين القصر .

وهنا يتعرض المنشور لنقطة بالغة الحساسية وهي أن الخلافة لم تعد قائمة لانتفاء شرطها وهو امتلاك السلطة والقرار ، فكيف تطالبون المسلمين بطاعة خليفة غير موجود ؟

وقد صبرنا على هذه الحالة زمنا حتى تبين تماما أن الدولة أصبحت بيد جمال باشا وأنور باشا وطلعت بيك .

وقد بلغ الظلم حده بإعدام واحد وعشرين من عظماء أفاضل المسلمين ونوابغ العرب منهم الأمير عمر الجزائري والأمير عارف الشهابي وعبد الحميد الزهراوي وشكري بيك العسلي وغيرهم .

وبعد إعدامهم سلبتم أموالهم وأملاكهم وشردتم عوائلهم ونفيتموهم من بلادهم .

ثم أشار المنشور إلى إطلاق القوة العثمانية القنابل التي سقطت بجوار الكعبة ويبدو أن ذلك قد حصل أثناء المواجهة بين الحامية العثمانية في مكة وقوات الشريف حسين .

وقبل أن يصل المنشور إلى نهايته يقول : لذلك كله لن نترك كياننا الديني والقومي ألعوبة بيد الإتحاديين .

أخيرا  يقرر: أن ” البلاد ” قد استقلت فعلا استقلالا تاما بعيدا عن أي تدخل أجنبي . ويبدو واضحا أن الإعلان قد صدر بعد الإستيلاء على مكة وربما الطائف وجدة ، بالتالي فهو يعني بالبلاد الحجاز على وجه التحديد وليس شيئا آخر في تلك المرحلة التاريخية .

قد يصدم ذلك الإعلان وماجاء فيه السردية النمطية التي انتشرت مؤخرا في قطاع من الرأي العام في سورية ، هذه السردية التي تهمل أن الدولة العثمانية في أواخر عهدها وقبل ثورة الشريف حسين لم تعد دولة الخلافة التي مازالت محل اعتقاد البعض ، وعلى النقيض من ذلك فجماعة الإتحاد والترقي هي البيئة الثقافية – السياسية الأصلية التي ولدت منها الأتاتوركية العلمانوية .

لقد انقلبت على يد تلك الجماعة سياسة الدولة العثمانية رأسا على عقب ، وأنزلت بالعرب وغيرهم من المظالم ما لايطاق ، وزجت بأبنائهم في حروب لم تكن ضرورية وخاسرة .

فكيف لايمكن توقع صدور ردود فعل لذلك النهج الذي لايمت بصلة لنهج الدولة العثمانية السابق ؟

هل يبرر ذلك الثورة ضد الدولة العثمانية أثناء تكالب دول التحالف ضدها وخلال أشد فترات الحرب ؟

هل يبرر ذلك التحالف مع الدولة الإستعمارية الأكبر والأخطر في وقتها أعني بريطانيا ؟

لعل التاريخ اللاحق يعفينا من مشقة البحث عن الإجابة عما سبق .

لم تسفر ثورة الشريف حسين لا عن التحرر ولا عن الاستقلال الحقيقي ، بل عن الوقوع فريسة بيد الإستعمار الغربي ثم التقسيم ونكبة فلسطين .

لابد من الاشارة هنا لرأي المفكر والسياسي العروبي الفذ شكيب أرسلان ، الذي بالرغم من تفهمه العميق لدواعي التذمر لدى المثقفين العرب لكنه كان يدرك ببصيرة نافذة أن شعار الإنفصال عن الدولة العثمانية في تلك اللحظة التاريخية الحرجة لم يكن يعني واقعيا سوى الوقوع فريسة الذئاب الغربية المتربصة ، وأن الحل في الكفاح لتحويل الرابطة العثمانية لمايشبه الإتحاد الفدرالي الذي ينصف العرب ولا يكشفهم أمام القوى الاستعمارية الغربية .

وكذلك نرى أن الشيخ محمد عبده أحد رواد التجديد للفكر الاسلامي في نهاية القرن التاسع عشر يقول لرشيد رضا  في 1897 : إن العرب إذا حاولوا الإنفصال عن السلطنة ، فمن الممكن أن تتدخل أوربة وتخضعهم وتخضع الأتراك معهم ( الفكر العربي في عصر النهضة – البرت حوراني – ص 321 )

صحيح أن الحركات القومية العربية لم تكن ترفع شعار الانفصال عن الدولة العثمانية بل الحكم اللامركزي وإعطاء العرب حقوقهم القومية ، لكن ” ثورة ” الشريف حسين أعلنت الاستقلال التام عن الدولة العثمانية ، ودفعت الحركات القومية في بلاد الشام نحو ذات الموقف ، ولابد من القول إن التعصب القومي لحكومة الاتحاديين وكذلك بطش جمال باشا بالمثقفين العرب ساهم أيضا بالقطيعة مع الدولة العثمانية وحدث ما توقعه شكيب أرسلان ومحمد عبده فخضع العرب للهيمنة الغربية .

*****************************************

الفصل الثالث

قراءة في مراسلات حسين – مكماهون

أثناء الجدل الذي دار بين الإمبرياليتين الانكليزية والفرنسية قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى بصدد تقاسم الغنائم بينهما ، حاول نيكسون الوزير البريطاني الذي ترأس مرة الاجتماع مع جورج بيكو الفرنسي طمأنة بيكو بالتقليل من أهمية الوعود التي قطعتها بريطانيا للشريف حسين بدعم إنشاء كيان عربي يشمل بلاد الشام حتى أضنة ومرسين والموصل من الشمال وحتى سيناء من الجنوب مع كامل شبه الجزيرة العربية ماعدا عدن التي احتفظ فيها الانكليز مبكرا بقاعدة لهم وبالقول : ” إن تلك الدولة العربية لامعنى لها يشكل واضح ، فالعرب مجموعة من القبائل المشتتة من دون رابط أو تنظيم ” وكذلك فعل اللورد كرو الوزيرالبريطاني بالقول ” إن بريطانيا ليس لها نية في تنظيم تلك الدولة العربية “

ولقد ترك ذلك لدى بيكو الانطباع بأن ” مايريده البريطانيون هو فقط تضليل العرب ” .

جرى ذلك أثناء المفاوضات المكثفة بين بريطانيا وفرنسا للإتفاق على تقاسم إرث الدولة العثمانية بين عامي 1915 و1916 بينما كانت بريطانيا وفي الوقت ذاته تقدم تعهدا للشريف حسين بدعم إنشاء الدولة العربية وفق تصوره الذي قدمه مع تحفظات محدودة وغامضة .

تقدم الشريف حسين بالمطالب الآتية وفقا لنص المراسلات بين حسين ومكماهون في الرسالة الأولى بتاريخ 14 تموز / يوليو عام 1915 :

”  أولا ً- أن تعترف إنجلترا باستقلال البلادالعربية من مرسين – ادنه، حتى الخليج الفارسي شمالاً ومن بلاد فارس حتى خليج البصرة شرقًا، ومن المحيط الهندي للجزيرة جنوباً يُسْتَثْنَى من ذلك عدن التي تبقى كما هي – ومن البحر الأحمر،والبحر المتوسط حتى سيناء غربًا. على أن توافق إنجلترا أيضاً على إعلان خليفة عربي على المسلمين.”

جاء الجواب من السير هنري مكماهون إلى الشريف حسين بتاريخ 30 آب/ أغسطس عام 1915 كالتالي : ” … فنحن نؤكد لكم أقوال فخامة اللورد كتشنر التي وصلت إلى سيادتكم عن يد علي أفندي وهي التي كان موضحاً بها رغبتنا في استقلال بلادالعرب وسكانها مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها.”

أما حدود الدولة فقد راوغ مكماهون في الإعتراف بها قائلا : ” … وأما من خصوص مسألة الحدود والتخوم فالمفاوضة فيها تظهر أنها سابقة لأوانها – وتصرف الأوقات سدى في مثل هذه التفاصيل في حالة أن الحرب دائرة رحاها..”

في الرسالة الثانية من الشريف حسين إلى السير هنري مكماهون المؤرخة ب 9 ايلول / سبتمر عام 1915 عبر الشريف حسين عن استيائه من تهرب بريطانيا من الإتفاق على حدود الدولة العربية وأكثر من ذلك فقد عبر عن التمسك الكامل بكل قطعة أرض من المنطقة التي هي أرض للعرب حسب تعبيره .

” .. فإن هذه الحدود المطلوبة ليست لرجل واحد نتمكن من إرضائه ومفاوضته بعد الحرب بل هي مطالب شعب يعتقد أن حياته في هذه الحدود وهو متفق بأجمعه على هذا الإعتقاد. وهذا ما جعل الشعب يعتقد أنه من الضروري البحث في هذه النقطة قبل كل شيء مع الدولة التي يثقون بها كل الثقة ويعلقون عليها كل الآمال وهي بريطانيا العظمى……. وعلى هذا لا يمكن السماح لفرنسا بالاستيلاء على قطعة صغيرة من تلك المنطقة.”

فكيف جاء رد مكماهون ؟

” إن ولايتي مرسين وإسكندرونة وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام وحمص وحماه وحلب لا يمكن أن يقال إنها عربية محضة، وعليه يجب أن تستثنى من الحدودالمطلوبة.”

هنا يراوغ مكماهون مبتدئا بمرسين واسكندرونة وهما بلدتان تضمان بالفعل خليطا

سكانيا من العرب وغير العرب في ذلك الوقت ” في اسكندرون كان العرب يشكلون الأغلبية “، لكنه يبتدىء بهاتين البلدتين كمقدمة  لإخراج  كامل شواطىء بلاد الشام من حدود الدولة العربية لمعرفته بمطالبة فرنسا بها وللتمهيد لاحتلال فلسطين وتمكين الحركة الصهيونية من إقامة كيان فيها وفق التفاهمات التي صيغت لاحقا بوعد بلفور عام 1917 .

الفقرة التالية الأخطر ، وفيها تظهر براعة الديبلوماسية البريطانية في الالتفاف على الطرف الآخر وتركه في حالة لاتساعده على الرفض دون أن تتضمن العبارة التزاما أو رفضا صريحا .

” وأما من خصوص الأقاليم التي تضمها تلك الحدود حيث بريطانيا العظمى مطلقة التصرف بدون أن تمس مصالح حليفتها فرنسا فإني مفوض من قبل حكومة بريطانيا العظمى أن أقدم المواثيق الآتية وأجيب على كتابكم بما يأتي: أنه مع مراعاة التعديلات المذكورة أعلاه فبريطانيا العظمى مستعدة بأن تعترف باستقلال العرب وتؤيد ذلك الاستقلال في جميع الأقاليم الداخلة في الحدود التي يطلبها دولة شريف مكة.”

بعد إخراج كامل سواحل بلاد الشام من الاسكندرونة وحتى غزة وبعمق من الشرق حتى تخوم حلب وحماة وحمص ودمشق ، فإن بريطانيا تستثني أيضا  ضمنا ما تتفق عليه مع فرنسا بالقول ” دون أن تمس مصالح حليفتها فرنسا ” دون تحديد تلك المصالح التي ستظهرالأيام القادمة  أنها تتضمن تقاسم المشرق العربي مع فرنسا بإعطاء فرنسا سورية ولبنان وفق معاهدة سايكس بيكو التي كان يجري التفاوض عليها في ذات الوقت .

وهناك إشارة أخرى غامضة :

” مع هذا التعديل وبدون تعرض للمعاهدات المعقودة بيننا وبين بعض رؤساء العرب نحن نقبل تلك الحدود”

فمن هم بعض رؤساء العرب الذين عقدت معهم بريطانيا مسبقا المعاهدات ؟”

طالما أن الحديث كله يدور حول الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق فالرؤساء المفترضون هم زعماء قبليون على الأغلب وسيتضح لاحقا أن  المقصود بذلك بعض زعماء العشائر العربية وسط  وجنوب العراق .

أخيرا استثنت الرسالة بغداد والبصرة من أن تكون تحت حكم الدولة العربية الكامل بما يعني أن بريطانيا ستفرض على تلك المنطقة من العراق نوعا من الوصاية دون أن تنتزعها نهائيا من مشروع الدولة

العربية وهو لغم آخر يمكن أن يساعد لاحقا في تمزيق ذلك التعهد البريطاني في الإعتراف بالدولة العربية وفق ما يطلب الشريف حسين .

في رده على الرسالة السابقة يتساهل الشريف حسين في شطب أضنة ومرسين من حدود الدولة العربية لكنه يصر على سواحل بلاد الشام .

” نترك الإلحاح في إدخال ولايات مرسين وأطنة في أقسام المملكة العربية وأما ولايتي حلب وبيروت وسواحلهما فهي ولايات عربية محضة”

وبصدد بغداد والبصرة يقدم الشريف حسين حلا براغماتيا في السماح لبريطانيا بإدارة ذلك الجزء من العراق لفترة محدودة مقابل عائد مالي ويأتي ذلك التنازل لمعرفة الشريف حسين بالوجود العسكري البريطاني في البصرة والأهمية التي توليها بريطانيا لذلك الوجود كحلقة وصل لقواتها في الهند .

كما يتضح أن رؤساء القبائل الذين أشار إليهم مكماهون سابقا هم رؤساء قبائل عربية وسط وجنوب العراق .

” يمكنا الرضا بترك الجهات التي هي الآن تحت الإشغال البريطاني إلى مدة يسيرة و البحث فيما يقبل عن قدرها دون أن يلحق حقوق الجانبين مضرة أو خلل. سيما العربية بالنسبة لأمر مرافقها ومنابعها الاقتصادية الحياتية، وأن يدفع للمملكة العربية في مدة الاشغال المقدار المناسب من المال مع احترامنا لوفاقاتكم المشار عليها مع مشايخ تلك الجهات وبالأخص ما كان منها ً جوهريا.”

نأتي لرد مكماهون :

” أما بشأن ولايتي حلب وبيروت فحكومة بريطانيا العظمى قدفهمت كل ماذكرتم بشأنهما ودونت ذلك عندها بعناية تامة – ولكن لما كانت مصالح حليفتها فرنسا داخلة فيهما فالمسألة تحتاج إلى نظردقيق،وسنخابركم بهذا الشأن مرة أخرى في الوقت المناسب.”

والفهم هنا لايعني الموافقة بالطبع وهي مجرد صيغة ديبلوماسية لإرضاء الآخر دون التعهد بشيء ، وإعادة التأكيد هنا على مصالح الحليفة فرنسا هو التمهيد لتمرير اتفاق سايكس بيكو بأقل قدر من الصدمة ورد الفعل .كما ينبغي التوقف عند ذكر حلب باعتبارها منطقة يمكن أن تكون ضمن اهتمام الحليفة فرنسا مع بيروت .

رد حسين برسالته المؤرخة في 2 كانون الثاني / يناير عام 1916 بالتالي :

” أما ما جاء بالمحررات الموقرة فيما يتعلق بالعراق من أمر التعويض مدة الأشغال فلزيادة إيضاح وقول بريطانيا العظمى بصفاتنا في القول والعمل في المادة والمعنى وإعلامها بأكيد اطمئنانا باعتماد حكومتها المفخمة نترك أمر تقدير مبلغه لمدارك حكمتها ونصفتها”

هكذا تم الاتفاق على تأجير  وسط وجنوب العراق لبريطانيا لفترة محدودة مقابل عائد مالي ترك تقديره لبريطانيا العظمى !

أما بالنسبة لسواحل وشمال بلاد الشام ( حلب ):

” أما الجهات الشمالية وسواحلها فما كان في الإمكان من تعديل أتينا به في رقيمنا السابق. هذا، وما ذاك إلا للحرص على الأمنيات المرغوب حصولها بمشيئة الله تبارك وتعالى وعن هذا الحس والرغبة هما التي ألزمتنا بملاحظة اجتناب ما ربما أنه يمس حلف بريطانيا العظمى لفرنسا واتفاقهما إبان هذه الحروب والنوازل إلا أننا مع هذا نرى من الفرائض التي ينبغي لشهامة الوزير صاحب الرياسة أن يتيقنها بأن عند أول فرصة تضع فيها أوزار هذه الحروب سنطالبكم بما نغض الطرف عنه اليوم لفرنسا في بيروت وسواحلها”

معنى ذلك التمسك بشمال وسواحل بلاد الشام ضمن الدولة العربية مع التساهل في الوجود الفرنسي في بيروت وسواحلها  ضمن مدة الحرب . لكن بريطانيا لم تكن تعني الوجود العسكري الفرنسي لأغراض الحرب بل أبعد من ذلك وهنا حاول الشريف حسين وضع تعريف من عنده للمصالح الفرنسية والحقيقة أن ذلك لم يكن سوى خداع للنفس طالما لم تحدد بريطانيا ما تقصده بعبارة المصالح الفرنسية باعتبارها الطرف الأقوى القادر على فرض تفسيراته في النهاية .

وللإنصاف فقد حاول الشريف حسين لاحقا إفهام مكماهون اصراره التام على تبعية السواحل الشامية للدولة العربية .

” وعليه يستحيل إمكان أي تساهل يكسب فرنسا أو سواها شبرًا من أراضي تلك الجهات”

مانشهده في الرسائل التالية بين حسين ومكماهون هو الانتقال للمسائل التنظيمية واللوجستية للتحضير للثورة ضد العثمانيين ، وكأن الطرفين قد اكتفيا بما تم الاتفاق عليه بالرسائل السابقة مع ما يتضمنه من غموض ، خاصة في تحديد ” مصالح الدولة الفرنسية الحليفة في المنطقة ” .

اكتفى الشريف حسين بتعهد عام بدعم إنشاء دولة عربية تتضمن بلاد الشام والموصل ولاحقا وسط وجنوب العراق ( بعد انتهاء تأجير الوسط والجنوب لبريطانيا !) وكذلك شبه الجزيرة العربية ما عدا عدن ، وترك مصير السواحل الشامية عمليا لما تقرره بريطانيا وفرنسا مع تأكيد لفظي من قبله لانتماء تلك السواحل للدولة العربية وهو تأكيد لم يقابله تأكيد بريطاني مماثل قط .

والملاحظ أن الشريف حسين اكتفى بسذاجة بتلك المراسلات من السير هنري مكماهون فلم يطلب وثيقة رسمية موقعة من الحكومة البريطانية ، لذا كان من السهل على الحكومة البريطانية نقض العهد الذي أعطته عن طريق السير هنري مكماهون ، خاصة أن تلك المراسلات اتخذت طابعا سريا بين الطرفين ولم يتم الافصاح عنها إلا بعد زمن طويل .

كان ذلك أشبه مايكون بزواج عرفي بين رجل ثري وقوي وبين شابة من عائلة فقيرة وضعيفة بدون وثيقة اثبات قانوني ذات قيمة وحتى بدون إشهار لذلك الزواج البائس فهل كان حقا مفاجئا رمي تلك الزوجة خارج البيت  بعد انتهاء شهر العسل ؟

**************************************************

الفصل الرابع :  لورنس و” الثورة العربية الكبرى “

ولد توماس ادوارد لورنس في ويلز ببريطانيا عام 1888 والده السير توماس شابمان وهوابن لأحد ملاكي الأراضي من عائلة شابمان أما والدته فقد كانت تعمل مديرة منزل العائلة حيث ارتبط بها والده بعلاقة غير شرعية أنجب منها خمسة أبناء وقد اضطر والده بسبب ذلك للهجرة من بلدته الأصلية إلى اوكسفورد بعد أن رفضت زوجته الشرعية  ايديث تسجيل أبنائه الخمسة باسمها مما خلق مشكلة كبيرة للعائلة حسب قوانين تلك الفترة الزمنية. .

و أضفت بنيته الهزيلة سببا آخر لانطوائيته التي عرف بها في طفولته ومراهقته . رغم أن سجل حياته اللاحق يدل أن خلف هزال جسمه بنية قوية استطاعت تحمل أعباء مغامراته القاسية. .

ظهر ولع لورنس بالتاريخ والآثار مبكرا فكان يقضي وقتا طويلا في قراءة التاريخ خصوصا تاريخ الحروب الصليبية والعصور الوسطى ويبدو أنه تأثر عاطفيا بعمق بعلاقة أوربة بالشرق العربي – الاسلامي في العصور الوسطى وظهر ذلك لاحقا في الرحلات التي قام بها إلى سورية وهو في أوائل العشرينات ، حيث تنقل بين الحصون التي تركها الصليبيون في ساحل بلاد الشام مذهولا بها ووصف قلعة الحصن بأنها أجمل وأكمل قلعة يمكن تصورها.

لا أدري تماما فيما إذا كان ذلك الإهتمام وما رافقه من مشاعر قوية قد قاده للتفكير في ” كيف يمكن استعادة تلك المنطقة ؟ ” فلورنس كان دائما حريصا على إخفاء مشاعره الدفينة لكن لنتأمل قليلا فيما كتبه لورنس بنفسه في ” أعمدة الحكمة السبعة ” صفحة 453 حين دخل القدس مع الجنرال البريطاني اللنبي في 11 كانون أول عام 1917 في الاحتفال باحتلال القدس بعد أن طغت عليه مشاعره الكامنة : ” لقد كانت تلك قمة لحظات الحرب “. ولايوجد أي معنى لوصفها كذلك من وجهة النظر العسكرية والاستراتيجية فأهم لحظات الحرب التي خاضها لورنس  كانت احتلال العقبة ولا حقا معركة سهل مجيدو ولايبقى لتفسير كلامه سوى المدلول العاطفي التاريخي ، وقد عبر عنه بصراحة أكبر الجنرال اللنبي بعد دخوله القدس حين قال ” اليوم انتهت الحروب الصليبية”.

شكل رفض الجيش البريطاني قبول لورنس في صفوفه كونه غير لائق جسديا حافزا إضافيا عميقا في البنية النفسية للورنس دفعه لإثبات جدارته بتقديم إنجازات كبيرة لبريطانيا مما أجبر القيادة العسكرية بالفعل على منحه رتبة عسكرية عليا بعد أن خطط وقاد معركة كان لها أثر بالغ في الحرب ضد الدولة العثمانية والألمان في المشرق وهي معركة العقبة..

في عام 1916 وأثناء الحرب العالمية الأولى وانشغال الدولة العثمانية بالحرب التي دخلتها متحالفة مع الألمان قام الشريف حسين وأولاده فيصل وعبد الله وزيد وعلي بجمع بعض القبائل وإعلان العصيان والثورة ضد الحكم العثماني وطرد الجيش العثماني من مكة  ثم من الطائف وجدة ويبدو أن الوجود العسكري العثماني في مكة  لم يكن كبيرا فتمت السيطرة عليها دون عناء كبير وأصدر الشريف حسين بيانه الموجه إلى كافة المسلمين من حيث الشكل وإلى العرب من حيث المضمون يشرح فيه أسباب الثورة وأهم ماجاء فيه:

  • أن أمراء مكة كانوا أول من اعترف بالدولة العثمانية حين نشأت ووحدت المسلمين بدولة واحدة .
  • وأنه وأولاده قادوا حملة عسكرية دعما للدولة العثمانية للقضاء على التمرد الذي حصل بمنطقة عسير .
  • أن الدولة العثمانية لم تعد دولة الخلافة بعد كف يد السلاطين العثمانيين فيها حتى لم يعد لهم من السلطة شيء ، وأصبحت السلطة كلها بيد جماعة الاتحاد  والترقي التي تنتهج نهجا مغايرا تماما لنهج الدولة العثمانية في فرض التتريك وعدم احترام القرآن والسنة واضطهاد العرب .
  • ذكر البيان أن سلطة الاتحاد والترقي يمثلها اليوم الثلاثي ( جمال باشا وأنور باشا وطلعت بيك) أما السلطان فلايستطيع حتى تعيين كاتب في ديوانه. .

لم يعلن البيان الحرب على الدولة العثمانية ولا عزم تحرير بلاد الشام والعراق واكتفى بشرح أسباب الثورة والتأكيد أن بلاد الحجاز قد تحررت وأنها الآن مستقلة تماما تحت خكم الهاشميين برضى الشعب وممثليه وعلمائه وشيوخ القبائل..

من الواضح أن الهاشميين كانوا حذرين تماما من الدخول في صراع مفتوح مع الدولة العثمانية  وربما كان ما يهدفون اليه فعليا هو دولة في الحجاز مستقلة عن العثمانيين ومن هنا بدأ تدخل السياسة البريطانية التي ساندتهم في ” الثورة” ووضعتهم بعد السيطرة على الحجاز أمام خيارات صعبة فإما أن يتعمق تحالفهم مع بريطانيا وبالتالي يدخلوا الحرب مع الحلفاء أو أن  تتخلى بريطانيا عنهم ليصبحوا هدفا لانتقام الجيش العثماني وهم يعلمون تماما محدودية قدرتهم على مواجهته.

مقابل التصور الهاشمي لمستقبل الثورة على العثمانيين والذي لم يكن تصورا مكتملا بل يتصف بشيء من البساطة والمغامرة ، كان هناك مخطط بريطاني مدروس بعناية ودقة لتمرد في الحديقة الخلفية للدولة العثمانية وضعت عناصره العسكرية – الاستراتيجية بعد دراسة معمقة للمنطقة قدمتها المستشرقة وعالمة الآثار غيرترود بل خريجة جامعة اوكسفورد حصيلة 17 عاما من التنقل والارتحال  في المشرق العربي من جنوب بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية إلى شمال بلاد الشام والعراق لم تترك في رحلاتها مدينة أو بلدة أو قبيلة أو طائفة ولا زعيما أوشيخا مشهورا وذا نفوذ الا وشملتهم بدراستها وبحثها المثير للإعجاب. .

أما الاستراتيجية التي تبنتها الإدارة العسكرية البريطانية في القاهرة  للتمرد المخطط له فقد ضمت عناصر كثيرة منها::

  • أن التمرد ينبغي أن يؤمن قاعدة محصنة ليس فقط لتأمين التمرد من هجوم معاكس بل من المخاوف من ذلك الهجوم
  • مثل تلك القاعدة يمكن تأسيسها في الصحراء وفي عقول الناس الذين ننجح في جذبهم لطرفنا
  • يجب أن يكون لتلك القاعدة للتمرد رأي عام متعاطف معها . ليس من الضرورة أن يكون فعالا ولكن فقط متعاطف بحيث لايفشي تحركات التمرد للأعداء
  • يمكن صنع التمرد بعناصر لاتزيد عن 2 بالمئة من السكان الفاعلين المستعدين للقتال و98 بالمئة من المتعاطفين السلبيين
  • عناصر التمرد ينبغي أن تتمتع بسرعة الحركة والتحمل والانتشار السريع وتأمين التغذية والتموين وعليها امتلاك التجهيزات لتدمير أو إعاقة نظام المواصلات والاتصالات للعدو

هكذا رسمت الادارة البريطانية في القاهرة والتي كان يعمل فيها لورنس الهدف الرئيسي للثورة العربية الكبرى ، تمرد في منطقة صحراوية بعيدة عن مركز الدولة العثمانية مهمتها العمل في الخطوط الخلفية للجيش العثماني لتشتيت جهده وقطع طرق مواصلاته وبالتالي تسهيل عمل جيوش الحلفاء خاصة الجيش البريطاني في طرد العثمانيين من بلاد الشام والعراق تمهيدا لاقتسام تلك المنطقة مع فرنسا وفقا للمحادثات السرية التي توجها اتفاق سايكس بيكو وفضحتها الثورة البلشفية الروسية.

في 5 حزيران عام 1916 بدأ الشريف حسين ثورته ضد العثمانيين عندما هاجم بقوات يقودها أبناؤه الحامية التركية في المدينة المنورة ليسيطر على محطة القطار هناك ثم أعلن رسميا الثورة على الدولة العثمانية في 10 حزيران حيث قاد قواته للسيطرة على مكة بنجاح.

وقد سبق ذلك تنسيق مع الإدارة البريطانية في القاهرة حيث كانوا يرسلون له المعدات العسكرية سرا خلال عام  1915 ..

خلال ذلك جرى تبادل رسائل عديدة بين الشريف حسين ووزارة الدولة البريطانية للحرب وقد طلب خلالها اللورد هيربرت كيتشنر شخصيا من حسين مساندة التحالف في الحرب واشترط حسين شرطا واحدا هو الاعتراف باستقلال العرب وحسب الوثائق البريطانية فقد اختلف الطرفان حول معنى ” استقلال العرب ” وكيف يمكن تطبيقه وفي النهاية وافق كيتشنر على فكرة ” الأمة العربية” وعرض الاعتراف السياسي بوجود تلك الأمة مقابل المساعدة في المجهود الحربي ضد الأتراك.

والحقيقة أن ادعاء الاختلاف حول تحديد ماهية ” استقلال العرب ” وكيفية تطبيقه ليس سوى محاولة بائسة للتغطية على عملية الخديعة الكبرى للشريف حسين والتي ظهرت فيما بعد بصورة واضحة تماما.

ومن المعروف أن الادارة العسكرية البريطانية في الهند والتي كانت تشارك الادارة العسكرية البريطانية في القاهرة الاشراف على دراسة الاستراتيجيات ووضع الخطط لتأمين المستعمرات البريطانية في الشرق والطرق الموصلة لها والخطط الحربية المرتبطة بالحرب العالمية الأولى كانت تعترض على خطة إثارة تمرد عربي ضد الأتراك من وجهة نظر أن مثل ذلك التمرد قد يقود مستقبلا لنشوء دولة عربية قابلة للتوسع ، لكن الرأي الذي استقر لدى وزارة الحرب البريطانية كان متسقا مع رأي مكتبها في القاهرة والذي ساهم في وضعه كل من غيرترود بل ولورنس.

وكان لورنس يعلم أن الوعد البريطاني بتأييد تشكيل دولة عربية لايساوي الورق الذي كتب عليه وأن بريطانيا العظمى لايمكن أن تتنازل بشيء لمجموعة من مئات العرب المتمردين الخارجين

من الصحراء لايملكون شيئا سوى جمالهم وخيامهم وما تقدمه بريطانيا لهم من سلاح ومعدات وأموال.

مع ذلك فقد راهن لورنس وغيرترود بل وغيرهم في الادارة العسكرية البريطانية على استخدام تلك المجموعات من المقاتلين العرب في حرب عصابات لإنهاك مؤخرة الجيش العثماني وقطع مواصلاته واستخدامهم كطليعة في الهجوم لاحقا على الشام والعراق ولكسب قلوب العرب والظهور بمظهر الحليف لطموحاتهم في الاستقلال بدل الظهور بمظهر المحتل الأجنبي على الأقل ريثما يتم إحكام السيطرة على المشرق العربي.

وقد عزز كثيرا من اقتناع وزارة الحرب البريطانية بخطة الخديعة الكبرى وصنع التمرد ” الثورة العربية الكبرى” ما مني به الجهد العسكري البريطاني في العراق..

ففي 9 نيسان عام 1915 وبعد أن قامت القوات البريطانية والتي كان المجندون الهنود يشكلون قسما هاما منها باحتلال البصرة تقدمت نحو بغداد بقيادة الجنرال السير جون نيكسون في حملة عسكرية كبرى سميت ب ” حملة مابين النهرين ” حتى وصلت إلى منطقة ” سلمان باك ” جنوب بغداد بحوالي 35 كم حيث المستنقعات وهناك تعرضت لهجوم عثماني مفاجىء معزز بالقبائل العربية التي ظلت موالية للدولة العثمانية فهزمت الحملة البريطانية شر هزيمة وتراجعت نحو الجنوب إلى بلدة تدعى الكوت التابعة لمحافظة واسط حيث تحصنت وأغلقت المدينة ، لكن الجيش العثماني مع حلفائه العرب حاصروا الكوت مدة 146 يوما ، ولم تتمكن القوات البريطانية التي جاءت من البصرة من فك الحصار وعرضت الحكومة البريطانية مبلغا كبيرا من المال على الدولة العثمانية مقابل فك الحصار والانسحاب بسلام  لكن الدولة العثمانية لم تقبل وفي النهاية استسلمت القوات البريطانية في واقعة تعد من أكبر الهزائم التي مني بها الجيش البريطاني في تاريخه فأُخذ قائد الجيش اللواء تشارلز تاونسند أسيرا إلى إستانبول، وسيق الجنود البريطانيون إلى بغداد ومنها إلى الأناضول حيث عملوا في السخرة وفي بناء خط سكة حديد (برلين – بغداد)، وهناك قضى الكثيرون منهم نحبهم بسبب المرض والأعمال الشاقة..

وحول تلك الهزيمة يقول المؤرخ الأميركي ديفيد فرومكين في “سلام ما بعده سلام”

“سيق الجنود (البريطانيون المأسورون) إلى مسيرة موت قطعوا خلالها مئة ميل إلى بغداد وخمسمئة ميل أخرى إلى الأناضول، وهناك أُرغموا على العمل في بناء السكك الحديدية وهم مقيدون بالسلاسل، ولم يبقَ منهم على قيد الحياة سوى عدد قليل، لقد مُنيت قوات تاونسند بأكثر من 10 آلاف إصابة منذ بدء زحفها نحو بغداد وحتى استسلامها، ومُنيت القوات البريطانية التي جاءت لإنقاذها في كوت العمارة بثلاثة وعشرين ألف إصابة… كانت هذه مذلة قومية أخرى حلَّت ببريطانيا على يد عدوّ عثماني كان المسؤولون البريطانيون يعتبرونه دائما عديم الفاعلية”.

حدثت هذه الهزيمة الكبيرة بين عام 1915و1916  ولاشك أن وزارة الحرب البريطانية قد توقفت طويلا عند دروس تلك الهزيمة  التي ساهمت إلى حد كبير في قناعتها بالخطة التي وضعها كل من

غيرترود بل ولورنس بإنشاء تحالف بين قيادات عربية ذات سمعة ونفوذ بين القبائل وبين الحكومة البريطانية بحيث لايظهر العمل العسكري لبريطانيا والحلفاء كغزو أجنبي أو صليبي جديد وإنما كجهد مشترك لطرف عربي تحت راية قومية وطرف بريطاني متحالف معه ، وقد أثبت التاريخ أن تلك الخطة كانت ناجحة إلى أبعد مما كان يأمل من وضعها وشارك في تنفيذها من البريطانيين أنفسهم.

يقول لورنس : ” لو أننا أعطينا للقبائل العربية في العراق الوعود التي  بذلناها لشريف مكة لأقدمت هذه القبائل على توجيه الضربات القاصمة لخطوط إمداد الجيوش التركية بين بغداد والكوت ولتوجب على العدو ( الأتراك) بعد عدة أسابيع من اشتراك القبائل معنا في الحرب أن يرفعوا الحصار المضروب على قواتنا ” ( أعمدة الحكمة السبعة ص28)

من المفارقات أن لورنس بينما يحاول في مكان إنتاج صورة رومانسية حالمة لتلك الثورة وقيادته لها ، وكأنها أسطورة بطل غربي نزل وسط البدو ليلهمهم الكفاح من أجل تكوين أمة جديدة ويقود تطلعاتهم في الحرية والاستقلال عن تركيا ، فهو يتحدث بوضوح في مكان آخر كالتالي : ” لقد كان واضحا من البداية أننا إذا ربحنا الحرب فإن تلك الوعود ( يقصد وعد بريطانيا باستقلال العرب بدولة والذي تم تقديمه في مراسلات بين الشريف حسين ووزارة الحرب البريطانية ) يمكن أن يكون مجرد ورقة ميتة ، ولو كنت ناصحا أمينا للعرب لنصحتهم بالعودة لبيوتهم وأن لايخاطروا بحياتهم في الحرب من أجل أمر كهذا ” ( من كتاب أعمدة الحكمة السبعة للورنس) )

فلورنس إذن كان على علم تام بأنه ينفذ عملية خداع كبرى للعرب وحتى بعد أن تم فضح تلك العملية بنشر اتفاقية سايكس بيكو في الصحافة الروسية أولا ثم البريطانية فقد بذل جهدا كبيرا في إقناع الأمير فيصل بن الشريف حسين بالاستمرار في التمرد ضد العثمانيين ودافع عن رأيه بأن الانجازات العسكرية في مساعدة الحلفاء هي التي ستكون حجر الأساس في إقناع بريطانيا بتحقيق وعودها للعرب.

فإذا رغبنا في البحث عن سبب هذا التناقض في السردية التي يقدمها لورنس فلابد من الأخذ بالاعتبار أن الجمهور المستهدف في كتابه ” أعمدة الحكمة السبعة ” ليس العرب وإنما هو البريطانيين خصوصا والغرب عموما فهو غير معني بثورتهم هنا بقدر ماهو معني بدوره الذي لعبه هو في تنفيذ عملية استخبارية كبرى وفرت على بريطانيا الكثير من الجهد والأرواح . ومن أجل ذلك كان صريحا في كونه من البداية للنهاية مجرد جندي بذل كل مالديه من جهد في التفكير والعمل لخدمة بريطانيا العظمى ، ورغم كونه يعرف تماما حجم إنجازه الكبير الذي دفع ونستون تشرشل إلى مدحه والثناء عليه بطريقة لافتة فهو يريد أن يكرس نفسه في ذاكرة الشعب البريطاني بكتابه كبطل تاريخي.

وهو لايرغب في الظهور باعتباره مجرد رجل استخبارات مغامر وجريء ، ولا يرغب بعرض مهمته التي نفذها دون رسم لوحة كاملة تترك الانطباع بأن مهمته كانت تحمل الكثير من المعاني النبيلة ، فقد ساعد  شعبا بدائيا مظلوما في كفاحه من أجل  الحرية والاستقلال ، شعبا أستطاع أن

يفهمه ويتأقلم مع عاداته وحياته المختلفة وأن يكسب ثقته واحترامه ، وبنى علاقات صداقة قوية وعميقة مع قادة تاريخيين مكنته من توجيههم وفق المصالح البريطانية العليا والتي كانت تبدو لهم متطابقة مع مصلحة ثورتهم ومستقبلهم.

ولورنس ليس فقط ضابط استخبارات معنيا بوضع الخطط العسكرية وتنفيذها بل كان يدير عملية متكاملة تتضمن تعبئة الرأي العام لصالح الثورة ضد الأتراك ، ” بينما كنت ضابط استخبارات في الدائرة العسكرية التابعة للجنرال موري مكلفا بجمع المعلومات المتعلقة بتوازن القوى فقد أضفت لعملي دون تكليف من أحد مهمة إصدار نشرة عربية سرية تعالج سياسة الشرق الأوسط ” وتلك حجة إضافية ضد محاولات تخفيف مسؤوليته عن ” الخديعة الكبرى ” للسياسة البريطانية في إعطاء الشريف حسين وعودا مكتوبة ثم التنكر التام لها ، فلورنس كان في قلب مصنع الخطط والسياسات للمنطقة العربية وليس في طرفها كجندي  يقاتل في وحدة معزولة لايعرف سوى تنفيذ الأوامر من رئيسه المباشر.

لم يكن المخطط السياسي البريطاني في المشرق العربي يقبل أبدا دولة عربية كبرى تضم شبه الجزيرة العربية والشام والعراق بحال من الأحوال ، وعلى النقيض من ذلك  فقد كانت التجزئة ركنا أساسيا في ذلك المخطط ، وقد قبلت بريطانيا بإعطاء سورية ولبنان لفرنسا في اتفاقية سايكس بيكو لأسباب متعددة منها أن وجود احتلالين مختلفين لسورية والعراق أحدهما بريطاني والآخر فرنسي سوف يؤدي إلى خلق دولتين بنظامين مختلفين أحدهما  يمثل النظام والثقافة البريطانية والآخر مشبع بالثقافة الفرنسية مما يعمق الانفصال بين الدولتين.

أما الجزء  الآخر من المخطط السياسي البريطاني فكان خلق كيان غريب في فلسطين ، ففي الثاني من تشرين الأول عام 1917 وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى وبينما كانت الثورة العربية الكبرى في انطلاقتها وبعد شهر واحد من دخول الجنرال اللنبي للقدس  كانت السياسة البريطانية تضع حجر الأساس لدولة اسرائيل عبر وعد بلفور.

*******************************

الفصل الخامس

غيرترود بيل

 

غيرترود مارجريت لوثيان بيل ( 1868 – 1926 ) اسمها الكامل :

Gertrude Margaret Lowthian Bell

ضابطة في الجيش البريطاني برتبة ميجور ( رائد ) في قسم المخابرات ، أرسلت عام 1915 في مهمة رسمية للالتحاق بالمكتب التابع للمخابرات البريطانية في القاهرة ، وهي باحثة في الآثار ، والتاريخ ، ومستشرقة تجيد الفارسية والعربية ، لعبت دورا هاما للغاية في رسم حدود سايكس بيكو ، وفي تسويق السياسة البريطانية في المنطقة ( العراق ، سورية ، الجزيرة العربية) بل كانت طرفا في صنع تلك السياسات بتقديم نصائحها وأفكارها التي تستند لمعرفة عميقة وخبرة بالجغرافية السياسية والبنية الاجتماعية والدينية – المذهبية والقبلية لتلك البلاد التي سبق أن قضت فيها عدة سنوات من البحث والاسنكشاف والدراسة منذ مطلع القرن العشرين  كعالمة آثار قبل أن تعود اليها في مهمتها كضابطة مخابرات بريطانية .

وبسبب ثقافتها الرفيعة ، وإنجازاتها خاصة في العراق على صعيد بناء الدولة ، بما في ذلك انشاء وتنظيم المتحف الوطني في بغداد، ونظرة بعض العراقيين الإيجابية نحوها والتي ظهرت في جنازتها  التي شاركت فيها فئات اجتماعية مختلفة في بغداد عام 1926  ” يطلق عليها العراقيون لقب خاتون وتعني بالفارسية المرأة النبيلة ” فقد ترددت في قبول حقيقة  كونها عميلة للمخابرات البريطانية وكان لدي شك في أنه وصف غير دقيق وغير منصف ، وربما كان ارتباطها بالخارجية البريطانية كمستشارة للشؤون العربية ، لكني وجدت وصفا صريحا لعملها كضابطة برتبة ميجور في الجيش وفي جهاز الاستخبارات  في جريدة الايكومنست البريطانية بتاريخ 7 ايلول 2006 .

وكمواطنة بريطانية فلاشك أنها قامت بخدمة بلادها بصورة مميزة ، وماذكره المقال في الإيكونومست  من اعتبارها بطلة قومية ليس من قبيل المبالغة ، لكنها من وجهة النظر العربية تظل ضابطة مخابرات لدولة إستعمارية تسللت إلى المجتمعات العربية لتعمل في تنفيذ مخطط  تقسيم وإستعمار ونهب للمنطقة العربية في نهاية المطاف .

لقد شكلت مع توماس لورنس أخطر ثنائي بريطاني استطاع اختراق القيادات العربية العليا في تلك المرحلة المصيرية وتوجيه تلك القيادات بفعالية فائقة وفق المصالح والمخططات البريطانية ، حتى لم يعد يعرف كما قيل عن غيرترود بيل هل هي مستشارة الملك فيصل بن الحسين في العراق أم هي صاحبة التوجيه والآمر الفعلي في القصر الملكي ببغداد .

لمحة عن الحياة الشخصية لغرترود بيل :

ولدت غيرترود مارغريت لوثيان بيل في  14 تموز عام  1868 في دورهام بانكلترا ، في أسرة غنية ، كان والدها واحدا من أهم ملاك مناجم الفحم في انكلترا ، توفيت والدتها مريضة في الثالثة من عمرها ، فلم تحظ بما يكفي من حنان الأم ورعايتها ، لكن زوجة أبيها الثانية الباريسية فلورنس اوليفيه والتي كانت قائمة بإدارة المنزل منحتها شيئا من الإهتمام وفتحت أمامها أبواب الثقافة الفرنسية إذ كانت ذكية ، قارئة ، و كاتبة مسرحية.

حدث أول تحول هام في حياة غيرترود حين اختارت الدخول في جامعة أوكسفورد لدراسة التاريخ وكانت أول امرأة تقبل في تلك الجامعة ، وحين نالت المرتبة الأولى على أقرانها في تخصصها أثبتت أن طموحها لم يكن ينقصه القدرة والموهبة لتحقيق الأهداف الكبيرة .

لكن التحول الخطير الذي رسم حتى النهاية مستقبل حياتها كان الإلتحاق بالجيش البريطاني في قسمه الخاص بالتجسس ، فما هي الأسباب التي تدعو ابنة الأسرة الغنية والتي نالت الشهادة الجامعية لإدارة الظهر للحياة المدنية السهلة والعمل في شتى الحقول المفتوحة أمامها والإلتحاق بتلك المهنة القاسية التي لاتجذب اليها سوى فئة محدودة من الارستقراطية الانكليزية فضلا عن النساء الارستقراطيات ؟

ليست الإجابة على ذلك اللغز سهلة لكن أحد السيناريوهات الذي يمكن أن يقدم حل ذلك اللغز هو أن ذلك الطموح الغريب الممزوج مع الذكاء والخيال دفعها للرحلات نحو الشرق والذي ابتدأت به – ربما – كباحثة ومستكشفة وعالمة آثار متنقلة بين شمال سورية حيث التقت بلورنس أول مرة ، ثم استانبول وطهران وخلال تلك الفترة التحقت بالجيش البريطاني الذي وجد أن ضم مستشرقة وعالمة آثار طموحة

وذكية لجهاز المخابرات سيكون استثمارا جيدا في تلك المرحلة حين كانت الامبراطورية البريطانية في ذروة توسعها الاستعماري .

ومثلما نشاهد كيف أن توماس لورنس مستعد لبذل أقصى جهوده وتحمل أشق المخاطر في سبيل بريطانيا العظمى ، نجد في غيرترود بل ذات الحماس والاستعداد لتحمل المشاق غير العادية ، وفي النهاية فهي ترضي طموحها المغامر المتمرد من جهة وولاءها العميق للتاج البريطاني ولوطنها من الجهة الأخرى ، أما القيم الإنسانية والأخلاقية الأخرى فتتضاءل أمام المشاعر السابقة ، وربما تجد ما يهدئها في نظرة الإحتقار لشعوب الشرق ، أو السعي أحيانا لتقديم المساعدة والانجازات الحضارية التي لاتتعارض مع مصلحة الهيمنة البريطانية بل تخدم تلك الهيمنة الاستعمارية بتغليفها بغلاف إنساني أو حضاري مثل إنشاء متحف بغداد .

وفي مطلع 1905 وضعت خطة لما سمته بمرحلة عمل تستهدف دراسة العادات والتقاليد الشعبية في الشرق. وفي الرحلة اكتشفت أسلوبًا فريدًا في جمع المعلومات؛ لا يهتم بمصدر المعلومة، فأهم المعلومات يمكن أن تحصل عليها من أتفه المصادر؛ نصيحة تعلمتها من ديبلوماسي مخضرم، وكانت أولى خطواتها في تجاوز الخط الدقيق بين البحث العلمي والجاسوسية، بين اكتشاف سر الغموض واستخدام الاكتشاف في إعادة تشكيل المنطقة، وهذا ما جعل شهرتها تلفت الانتباه بعد كتابها الذي خرجت به من تلك الرحلة “الصحراء والمعمورة “

قدمت غيرترود  بيل للمخابرات البريطانية دراسات ديمغرافية واجتماعية للمشرق العربي كانت جزءا هاما من الأساس الذي وضعت بموجبه حدود سايكس بيكو ، وكانت قد التقت باكرا بسايكس الانكليزي الذي اتفق مع بايكو الفرنسي حول تقاسم المنطقة .

وتظهر خرائط سايكس بيكو كيف أن بريطانيا تمكنت من وضع يدها على مكامن النفط في العراق وميناء البصرة الهام ، كما ضمت لأملاكها الاستعمارية فلسطين بموانئها على البحر المتوسط والقدس بكل رمزيتها التاريخية لدى الغرب ، وضمنت للصهيونية حرية الإستيطان والتسلح تحت رعايتها ، كما ضمنت حماية شرق قناة السويس التي ازدادت أهميتها التجارية العالمية ، بينما تركت لفرنسا سورية ولبنان وأهم مافيهما بالنسبة للدول الاستعمارية آنذاك هو الساحل المطل على المتوسط ، لكن بسط بريطانيا النفوذ على فلسطين بموانئها يافا وحيفا منح بريطانيا موطء القدم المطلوب على البحر المتوسط بحيث لم تعد بحاجة لبقية سواحل بلاد الشام .

وتظهر براعة الانكليز وعمق تفكيرهم أيضا في طريقة حكم البلاد المستعمرة ، فبينما اصطدمت فرنسا منذ اللحظة الأولى لدخولها سورية عام 1920 بالوطنية السورية ، واضطرت للكشف عن وجهها الإستعماري القبيح ، قدمت بريطانيا للعرب في العراق ملكا عربيا هاشميا ، ومملكة تبدو وكأنها سيدة مستقلة بينما تديرها المخابرات البريطانية من خلف ستار ، بل إن أقوى ممثل للتاج البريطاني هناك كان سيدة انكليزية مثقفة تجيد العربية وتحفظ أشعارها وتخالط النساء والرجال ومشايخ البدو وتجار بغداد وكبار الساسة وضباط الجيش حتى أصبحت كواحدة منهم بينما كانت تشرف على كل صغيرة وكبيرة في القصر الملكي ببغداد . وأعني بها غيرترود بل .

الفصل السادس

المعارك العسكرية لثورة الشريف حسين :

بدأت ثورة الشريف حسين ضد الدولة العثمانية في 5 حزيران عام  1916 حين  هاجم فيصل وعلي أبناء الحسين المدينة المنورة بهدف محاصرة المدينة ومحطة السكك الحديدية فيها ، لكنهم وبعد ثلاثة أيام من الهجوم اضطروا لإنهاء الهجوم والإنسحاب ، وقامت القوات العثمانية وعددها حوالي 12000 جندي والتي كان يقودها الجنرال فخري باشا بملاحقتهم خارج المدينة أثناء انسحابهم .

وخلال ذلك أصدر الشريف حسين بن علي في مكة بيانا عاما في 10 حزيران معلنا فيه الثورة ، وفي مكة كانت قوات الشريف حسين تحرز نتائج أفضل حيث نجحت في محاصرة المدينة وإجبار الحامية العثمانية الصغيرة على اللجوء للحصن المحلي الصغير . كما تمكن الأمير عبد الله بن الحسين من محاصرة الطائف . وفي ذات الوقت قامت القبائل المتحالفة مع الشريف حسين بمهاجمة مدينة جدة والبلدات الساحلية الأخرى على البحر الأحمر مثل ينبع ورابغ ، وعلى الفور

” لدعم  HMS Ben-My-Chree –أرسل الانكليز أسطولهم البحري بما في ذلك حاملة الطائرات “

قوات الشريف حسين ، وقد قامت السفن الحربية الانكليزية والطائرات المحمولة على حاملة الطائرات السابقة بقصف مواقع وتحصينات القوات التركية لعرقلة تصديها للهجوم البري لقوات الشريف حسين .

مع نهاية شهر تموز عام 1916 كانت قد سقطت بيد الشريف حسين كل من جدة وينبع ورابغ ، وهذا ما أتاح للانكليززيادة دعمهم لمختلف مناطق الحجازبصورة كبيرة بالسلاح والعتاد . كما أتاحت السيطرة على الموانىء إنزال أول وحدة عسكرية نظامية عربية من جنود الجيش العثماني الذين أسرهم الانكليز في معركة غاليبولي وفي العراق وفي سيناء الذين تطوعوا بعد أسرهم للقتال من أجل القضية العربية التي كان الشريف حسين يرفع رايتها في ذلك الوقت ، وكانوا يرتدون الزي العسكري الإنكليزي مع قبعة ذات كوفية عربية ، وقد تم تزويدهم بأسلحة حديثة مثل الرشاشات الثقيلة والمدفعية ، وأضاف تأمين بطاريات المدفعية والفنيين العسكرين من الجيش المصري مستوى آخر من الدعم .

كما أرسل الإنكليز فريق مهام عسكري خاص لتأمين التنسيق بين قيادة الثورة العربية والقيادة العسكرية البريطانية العليا في القاهرة ، هذا الفريق الذي عمل منذ تشرين أول 1916 والذي ضم الملازم توماس أدوارد لورنس المعروف بلورنس العرب ، والذي سيزداد بالعدد والإمكانات كلما تقدمت الحرب .

أدى الدعم البريطاني خاصة  لجهة تأمين المدفعية الثقيلة إلى تمكين قوات الشريف حسين من حسم المعركة في مكة والطائف وتحويل الحصار إلى نصر عسكري .

أمضى الشريف حسين بقية العام 1916 في تحصين مواقعه وتعزيز سيطرته على الحجاز والموانىء الساحلية ، وفي إحباط الهجمات المعاكسة التركية ، في حين تبين أن المحاولة الفاشلة لحصار المدينة المنورة كانت مكلفة جدا بينما استطاع الجيش الرابع العثماني ارسال التعزيزات بواسطة سكة حديد الحجاز إلى حامية المحطة للمدينة المنورة ، بعد ذلك حاول الجنرال فخري  باشا استعادة الموانىء الساحلية بادئا بميناء ينبع في شهر كانون الأول عام 1916 وفي النهاية تم صد الهجوم بفضل التدخل الحاسم لأسطول البحرية البريطانية . ومثل ذلك حدث عندما حاول فخري باشا استعادة ميناء رابغ في مطلع العام 1917 .

وفي الفترة السابقة تمكن الأمير فيصل الذي استعان بمستشاره الضابط البريطاني توماس ادوارد لورنس من السيطرة على ميناء الوجه على بعد 150 كم شمال ينبع ، ومن ذلك الموقع بدأ بشن الغارات لتدمير خطوط السكة الحديدية التي تصل تركيا بالحجاز ، والجسور التي تخدمها ، وكذلك على المحطات المعزولة ، وذلك طيلة العام 1917 .

كانت الخطة البريطانية لاحتلال فلسطين  حيوية بالنسبة لقوات الشريف حسين من أجل وضع الجيش العثماني بتعداده الكبير نسبيا ( 12000) جندي والذي كان مايزال مسيطرا على المدينة المنورة بين فكي كماشة وعزله عن خطوط الامداد ، ورغم الظروف الصعبة التي كان يمر بها فقد ظهر خطره في المحاولات الجادة لاستعادة الموانىء الساحلية والتي لعب الأسطول الحربي البريطاني المرابط على ساحل البحر الأحمر دورا هاما في إفشالها .

وبعد معركة العقبة التي قادها الأمير فيصل مع مستشاره لورنس والتي تميزت بالجرأة والنجاح ، وأسقطت آخر ميناء على البحر الأحمر ( لم تكن هناك حدود في ذلك الوقت بين ماسمي لاحقا الأردن ومنح ميناء العقبة وبين ما أصبح لاحقا العربية السعودية ) في يد قوات الشريف حسين بقيادة الأمير فيصل في حزيران من عام 1917 فقد اقتنع الجنرال اللنبي في قيادة القوات البريطانية بالقاهرة بالأهمية العسكرية لل ” الثورة العربية الكبرى ” أما فيصل فقد اتخذ العقبة مقرا لقواته التي أصبح اسمها جيش الشمال العربي ، ومن هناك استمر بشن الغارات على خط سكة حديد الحجاز ، وتمددت سيطرة جيش الشمال العربي حتى جنوب الأردن الحالي ، بعد ذلك بدأ اتصال فيصل مع الأحزاب النهضوية العربية في الشام .

أحدث انتصار القوات البريطانية في بئر السبع في زحفها لاحتلال فلسطين وتقدمها إلى وادي نهر الأردن زخما جديدا للحملة العسكرية للأمير فيصل التي وصفت سابقا بكونها حرب السكك الحديدية وقاد هذا الزخم للتوسع باتجاه الشرق . وعلى الرغم من الإحباط والتوتر الذي نشأ بعد الكشف عن اتفاقية سايكس بيكو إلا أن جيش الشمال العربي استمر في مساعدة الانكليز حيثما استطاع تقديم المساعدة ، وذلك يرجع إلى الجهد الكبير الذي بذله لورنس في اقناع الأمير فيصل بأنه وبالرغم مما يحمله اتفاق سايكس بيكو من نقض للاتفاق غير المعلن بين الشريف حسين والدولة البريطانية يمكن اعتباره خيانة للحليف العربي لكن من مصلحة ” الثورة العربية الكبرى ” الاستمرار في التحالف مع بريطانيا باعتبار ذلك هو السبيل الوحيدة لاقناعها بتقديم ” جائزة ” للعرب وربما للأمير فيصل شخصيا .

وحسب مذكرات الدكتور أحمد قدري فقد فكر الأمير فيصل بن الحسين بالتفاهم مع الدولة العثمانية والانحياز لصفها في مواجهة تقدم الجيش البريطاني نحو فلسطين لكن حكومة الإتحاديين في استانبول رفضت رفضا قاطعا التفاوض حول ذلك ، كتب الدكتور أحمد قدري : ” من أجل هذا ( يقصد افتضاح مخطط سايكس بيكو وحدوث تذمر في صفوف الوطنيين العرب ) راح فيصل يفكر بمفاوضة رجال الدولة العثمانية ثانية بغية توحيد العمل الحربي معهم إذا ما ضمنوا للعرب  بالاتفاق مع حلفائهم ( يقصد ألمانيا ) ما وعد الانكليز به الشريف حسين ، فيبقى العرب دوما حلفاء للدولة العثمانية وعلى اتفاق تام معها ” ” من كتاب مذكراتي حول الثورة العربية الكبرى – ص 69 “

لكن هل كان فيصل جادا في مثل ذلك الموقف أم أنه كان متأكدا مسبقا من رفض الدولة العثمانية وبالتالي فكل ما أراده هو احتواء تذمر الوطنيين العرب ، وتبرئة الذمة تجاه موقفه في التحالف مع انكلترا وفرنسا ضد الأتراك ، ذلك مالا يمكن القطع به ، لكن العلاقة الوطيدة التي نشأت مسبقا بين الشريف حسين والدولة البريطانية ، وما قدمته بريطانيا من أسلحة وأموال فضلا عن تدخل الأسطول الحربي البريطاني مباشرة ضد الجيش العثماني ، والعلاقة الوثيقة التي ربطت الأمير فيصل بالملازم البريطاني توماس لورنس الذي أصبح مستشاره الشخصي ، والمعارك التي خاضها ضد الجيش العثماني وأعمال تخريب الخط الحديدي الحجازي كل ذلك يصب في أن يميل المرء للإعتقاد أن مراجعته للموقف السياسي من الدولة العثمانية وعرضه العودة للإنضواء تحت رايتها لم يكن أمرا واقعيا إلى حد كبير  .

لكن ماهو أقرب للمنطق أن يستعمل الشريف حسين مثل ذلك الموقف للمناورة السياسية بهدف الضغط على بريطانيا تحت التهديد بالانسحاب من الحرب والتحالف مع الدولة العثمانية اذا لم يحصل الشريف حسين من جديد على ضمانات بتنفيذ ما اتفق عليه سابقا مع الدولة البريطانية ، لكن جواب الحكومة البريطانية كان طبعا المماطلة والتسويف أي لاشيء .

“وبعد أن  قام فيصل بارسال رسالة للدولة العثمانية يعرض فيها العودة للتحالف معها الى قائد القوات التركية في معان ليوصلها للحكومة العثمانية وجاء رد الحكومة العثمانية بالرفض ، ” رفع فيصل نتيجة مساعيه إلى والده الذي أراد أن ينتهز الفرصة ليحصل من بريطانيا على تأكيد أكثر صراحة بتعهدها تأمين استقلال العرب بالحدود المرسومة في المراسلات السابقة ( بين حسين ومكماهون) وقد هدد بالإنسحاب من المعركة مالم يوافق البريطانيون على ذلك ، فكان جوابهم المماطلة والتسويف ” مذكراتي – الدكتور أحمد الخطيب – ص 69

لاحقا لعب  جيش الشمال العربي بقيادة فيصل دوراهاما في معركة مجدو في ايلول 1918 بمهاجمة وتدميرالوصلة الرئيسية للخط الحديدي الحجازي في درعا وفي أماكن أخرى .

تبرز المراجع الغربية خطط الجنرال اللنبي العسكرية الماهرة في معركة مجدو التي تعتبر أهم المعارك العسكرية في المشرق العربي في الحرب العالمية الأولى ومن أهم المعارك في الحرب العالمية ، وخصوصا مفاجأة القوات العثمانية بالالتفاف حولها من الشرق في حين لم يكن متاحا تنفيذ تلك الخطة لولا تأمين الجناح الشرقي من قبل جيش الشمال المتحالف مع القبائل العربية كقبيلة الحويطات والقوى البدوية التي تجمعت حول  نوري الشعلان وعودة أبو تايه وكان يقودها الشريف ناصر .

قاد الجيش العثماني في هذه المعركة مصطفى كمال أتاتورك بينما قاد الجيش البريطاني الجنرال اللنبي وأسفرت المعركة عن خسارة كبرى للجيش العثماني وأسر عشرات الألوف ، واستولى الحلفاء على أراض جديدة .

وفي أعقاب هذا الانتصار ، تقدمت قوات اللنبي الخيالة بسرعة عبر فلسطين والأردن ، واجتاحت ما هو الآن لبنان الحديث ودخلت سوريا. وإلى الشرق ، تحرك الجيش العربي الشمالي شمالًا في سباق غير معلن لدمشق، فوصلوا إلى المدينة في 1 تشرين أول 1918 ليجدوا الفرسان الأستراليين يدخلون من جانب آخر. هكذا بقي الجدل حول من وصل إلى هناك أولاً منذ ذلك الحين.

بعد شهر ، وافقت الإمبراطورية العثمانية على هدنة ووجد قادة الثورة العربية أنفسهم في خضم مفاوضات متوترة مع حلفائهم السابقين ، البريطانيين والفرنسيين ، حول مستقبل المنطقة.

يتبين مما سبق مقدار المقاومة الكبيرة التي أبداها الجيش العثماني في الحجاز ، فوجود 12000 جندي عثماني في المدينة المنورة ومقاومتهم بقيادة الجنرال فخري باشا أفشلت محاولات محاصرتهم وبقيت المدينة بيد الدولة العثمانية منذ اندلاع ” الثورة ” في حزيران 1916 وحتى كانون ثاني 1919 أي بعد انهاء الحرب العالمية الأولى في 11/11/1918 بعدة أشهر .

يعد حصار المدينة المنورة واحداً من أطول الحصارات في التاريخ،  كان الوالي والقائد المدافع عن المدينة هو الجنرال فخري باشا الذي لقب من قبل البريطانيين بأسد الصحراء ..

وبصيغة أخرى فرغم الوضع الحربي الصعب للدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى خاصة بشطرها الزمني الثاني فقد بقيت قوات عثمانية هامة نسبيا هناك ، وبذلت أقصى جهد ممكن للدفاع عن الدولة وإحباط  ثورة الشريف حسين ، كما يتبين أن تدخل الأسطول الحربي البريطاني لعب دورا رئيسيا في سيطرة الشريف حسين على الموانىء الساحلية على البحر الأحمر أولا ، ثم بتوريد السلاح والعتاد والوحدات العسكرية النظامية العربية التي كانت قد أسرها الحلفاء خلال المعارك مع الجيوش العثمانية ، وكذلك الخبراء والضباط المصريين والعرب الذين التحقوا بالثورة بعد انشقاقهم عن الجيش العثماني .

يمكن ملاحظة أن الأعمال العسكرية للثورة العربية الكبرى قد انحصرت في السيطرة على الحجاز حتى العقبة مع بقاء المدينة المنورة بيد العثمانيين إلى نهاية الحرب العالمية الأولى واتفاق الاستسلام للدولة العثمانية ( معاهدة سيفر) أما المعركة الكبرى الفاصلة والتي أنهت الوجود العثماني في بلاد الشام فكانت في سهل مجيدو بفلسطين التي استمرت حوالي أسبوع بين الجيشين السابع والثامن العثمانيين والتحالف الذي قادته بريطانيا وشارك فيه الاستراليون والنيوزيلنديون ، بينما كان عمل الجيش العربي الشمالي بقيادة فيصل ينحصر في قطع خطوط الامداد وتدمير خط السكة الحديدية في شرق الاردن ومنطقة درعا وما حولها ، وتأمين الجناح الشرقي للهجوم ، وهكذا لم أجد في المراجع التاريخية الغربية أي إشارة لحضورالأمير فيصل وقواته العسكرية عند دخول الحلفاء لدمشق في الأول من شهر تشرين الأول عام 1918 . بينما يذكر أحمد قدري في مذكراته أن حملة جيش الشمال العربي اتخذت في معان مقرا لها بقيادة الأمير فيصل منذ العام 1917 ، وعندما وصلتها أخبار هزيمة الجيش العثماني في فلسطين وتفرق ذلك الجيش منسحبا نحو الشرق والشمال ثم سير الحلفاء نحو دمشق ، سارعت قوات الأمير فيصل بالتحرك نحو درعا لتلتقي هناك بالجيش البريطاني في 28 أيلول 1918 وتتجه معه إلى دمشق، فدخلها أولا الشريف ناصر ومعه رجال القبائل ومتطوعوا الدروز بقيادة سلطان باشا الأطرش ثم الحملة

النظامية ( جيش الشمال العربي ) ثم الخيالة الاسترالية ، وأرى أن ذلك هو الوصف الأكثر دقة والذي ينسجم مع تفكير توماس لورنس بحرصه على اتخاذ التغطية العربية كيلا يظهر دخول جيوش الحلفاء كعودة للحروب الصليبية .

ويعزز ذلك ماذكره لاحقا أحمد قدري من أن الأعلام العربية ويقصد علم الثورة العربية  كانت ترفرف فوق الأبنية الحكومية عند دخولهم لدمشق وذلك يعني أن الدعاية التي انتشرت في دمشق قبل دخول جيوش الحلفاء أن الثورة العربية الكبرى بقيادة الأمير فيصل هي من سيتسلم الحكم في دمشق أما الجيش البريطاني وبقية جيوش الحلفاء فهم أصدقاء وحلفاء وليسوا محتلين .

يذكر أحمد قدري أن عدد الجنود الأتراك الذين أسرهم العرب يزيد عن 25000 جندي وأن عدد الاصابات في الجيش العثماني بين قتيل وجريح يفوق ذلك العدد . بينما تتحدث المراجع البريطانية عن 25000 جندي عثماني بين أسير وقتيل وجريح .

على أية حال يتبين من الخسائر الكبيرة للجيش العثماني في معركة مجيدو إضافة للجيش العثماني الذي كان لايزال مرابطا في المدينة المنورة أن الجيوش العثمانية المرابطة في بلاد الشام والحجاز ربما يقترب عددها من  70000 جندي ، وكانت حسنة التدريب والانضباط كما قاتلت بشراسة في معظم المعارك واستطاعت ايقاع خسائر جسيمة بالتحالف في المعركتين الأولى والثانية حول غزة قبل أن يتسلم السير اللنبي قيادة التحالف ويتمكن من الاستيلاء على غزة في المعركة الثالثة في نشرين ثاني عام 1917 . بينما تكبد جيش الحلفاء خسائر فادحة في الهجومين السابقين الفاشلين قدرت بآلاف القتلى والجرحى .

فمن الواضح أن جيش الشمال العربي ما كان له أن يتقدم نحو بلاد الشام بل ماكان له أن يحافظ على السيطرة على الحجاز لولا الدعم الانكليزي في المرحلة الأولى ثم التدخل المباشربجهد منسق وكبير  ضمن سياق الحرب العالمية الأولى في المرحلة الثانية التي ابتدأت بمعارك سيناء وغزة عام 1917 ثم معارك فلسطين وجنوب سورية وانتهت في معركة سهل مجيدو .

وللإنصاف فيمكن من الجهة المقابلة ملاحظة أن الأداء العسكري لجيش ” الثورة العربية الكبرى ” قد فاق توقعات الدوائر العسكرية الغربية بما في ذلك البريطانية ، وقد رأينا سابقا كيف كان تقدير البروفسور سنوك لامكانيات تلك الثورة متواضعا للغاية ، وغاية ما كان ينتظر منها هو إرباك الجيش العثماني في الحجاز وتوجيه صفعة لنداءات حكومة الاتحاد والترقي للمسلمين للجهاد المقدس ضد الحلفاء في الحرب العالمية الأولى .

الفصل السابع

سيناريو افتراضي مختلف للتحالفات العسكرية والسياسية للعرب مع الحلفاء

رأينا سابقا  في كتابات لورنس مايشير صراحة إلى دراسة معمقة لنتائج معركة ” الكوت” في العراق كانون أول 1915 – نيسان  1916 التي اتحدت فيها القبائل العربية مع الجيش العثماني وأسفرت عن واحدة من أكبر هزائم الجيش البريطاني في التاريخ الحديث  حيث منيت القوات البريطانية بخسارة تقدر ب33000 إصابة بين قتيل وجريح وتم أسر عشرات الألوف من الجيش البريطاني وسوقهم للأناضول بمن فيهم قائد الجيش البريطاني تاونساند ، وكيف أن الاستخبارات البريطانية خرجت من تلك الدراسة باستراتيجية مختلفة للحرب في المشرق العربي وقد عبر عن ذلك توماس لورنس والذي كانت له اليد الطولى في وضع تلك الاستراتيجية في مكتب الاستخبارات في القاهرة وإقناع قيادة الجيش البريطاني والخارجية البريطانية بها ، وقد أثبتت تلك الاستراتيجية نجاحا باهرا وضعت لورنس في عداد الأبطال القوميين البريطانيين .

تتلخص تلك الاستراتيجية باستبدال الحملات العسكرية الصريحة والمكشوفة للحلفاء في المشرق العربي بحملات عسكرية بغطاء عربي – إسلامي عبر ما يشبه التحالف بين قيادات وقوى عربية – إسلامية ذات خلفية مقبولة من البيئة العربية مدعومة من قبل المثقفين والرأي العام ، بحيث تظهر تلك الحملات ليس بوصفها غزوا لجيوش أجنبية تستعيد لدى السكان ذاكرة الحروب الصليبية ولكن كقوى صديقة جاءت لتحررهم من الظلم التركي وتساعدهم لبناء دولتهم كما يحلمون بها منذ زمن طويل .

وفوق ذلك فهناك  الإستفادة من حرب عصابات تشنها تلك القوى على الجيش العثماني لقطع الإمدادات عنه وقطع الطرق أمام حركته ، وإرباكه وتشتيت جهده في عدة محاور . وتأمين أجنحة الجيش البريطاني ومساعدته في الإستطلاع والمعلومات وحيثما كان ذلك ضروريا .

ولسنا بحاجة لتكرار القول كم كانت تلك الإستراتيجية ناجحة وكم وفرت على بريطانيا من جهود ودماء

لكن ماذا لو افترضنا عكس ذلك ؟

تشير التقديرات العسكرية إلى أن عدد الجنود للجهتين المتحاربتين في معركة الكوت جنوب بغداد  كان متقاربا  حوالي ( 30000) جندي ، مع ذلك استطاع الجيش العثماني المتحالف مع القبائل العربية إيقاع هزيمة كبرى بالجيش البريطاني بعد أن فرض عليه حصارا امتد إلى 147 يوما في بلدة الكوت العراقية

وكما رأينا سابقا فقد ذكر لورنس صراحة أن نتيجة المعركة كان يمكن أن تختلف لو أن الجيش البريطاني استطاع إبعاد القبائل العربية عن القتال مع الجيش العثماني وكسبها إلى صفوفه .

فلو أن القوات العربية في بلاد الشام والحجاز التي شاركت بالأعمال العسكرية ضد الجيش العثماني قاتلت بدلا عن ذلك مع الجيش العثماني ضد الحلفاء لربما اختلفت نتائج المعارك كما حدث في الكوت .

وإذا رجعنا إلى  معركة مجيدو كمعركة فاصلة نجد أن المناورة التي قام  بها اللنبي بالزحف نحو القوات العثمانية المتمركزة قرب نابلس ومهاجمتها من الشرق  قادما من الجنوب كان يمكن أن تفشل تماما بضرب تلك الحملة من الشرق أثناء حركتها ، وقد كان بإمكان جيش صغير العدد إيقاف تقدم القوات المهاجمة وإفساد المفاجأة التي تمتعت بها حين هاجمت العثمانيين من الشرق .

أيضا لو لم يتم تدمير سكة الحديد وقطع الطرق المتجهة نحو الشمال لكان بالامكان إرسال تعزيزات عسكرية بسرعة للجيش العثماني في فلسطين .

أخيرا كان  يمكن للجيش الرابع العثماني المرابط في المدينة المنورة  وعدده يقارب 12000 رجل التوجه شمالا لمحاصرة الجيش البريطاني من جهة الجنوب والشرق.

تشير نتيجة معركة الكوت في العراق وكذلك معركة جنق قلعة في تركيا إلى أن الفارق في مستوى التسليح والتدريب بين الجيش البريطاني كما الجيوش الأوربية عموما  والجيش العثماني لم يكن بالقدر الذي يمنع انتصار الجيش العثماني الذي كان يعوض نقص السلاح والانخفاض النسبي لنوعيته بالشجاعة في القتال والإنضباط وبالتدريب العالي لضباطه وروحهم المرتفعة . والاستعداد لتحمل الخسائر البشرية دون التراجع أو الإستسلام .

فماذا كانت النتائج المحتملة لو انكسر الجيش البريطاني في سهل مجيدو في فلسطين بدل أن ينتصر ؟

من الصعب تصور اختلاف نتيجة الحرب العالمية الأولى حيث الأمر يتعلق بميزان قوى عالمي ولا يرتبط بمعركة هنا أو هناك ، لكن من أجل مقاربة أولية لما يمكن أن يحدث فيما لو خسرت بريطانيا والحلفاء معركة مجيدو كما خسرت في معركة الكوت ، يمكن المقارنة بحرب الإستقلال التي خاضها الشعب وفصائل الجيش التركي ضد احتلال قوات التحالف لأجزاء من تركيا وكيف اضطر الغرب في النهاية للتراجع عن معاهدة سيفر والإعتراف باستقلال وسيادة تركيا في حدودها الحالية .( معاهدة لوزان).

لقد خاضت تركيا حرب الإستقلال بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وبالرغم من تلك الهزيمة ولم تستسلم لإرادة الحلفاء في تقسيم تركيا وإنهائها كدولة ، بالتالي كان يمكن حدوث مايشبه ذلك بالنسبة لبلاد الشام والعراق وحتى الجزيرة العربية لو اتحدت القوى العربية التي حالفت الاستعمار الغربي مع الدولة العثمانية والجيش العثماني وانتصرت في معركة مجيدو .

لربما كانت ستظل لفترة ما ضمن الدولة العثمانية ، وبعد ذلك تنال استقلالا تاما أو شبه تام مع بقاء الرابطة العثمانية بما يشبه الإتحاد الأوربي حاليا .

وحتى لو فرض الغرب على تركيا التخلي عن الأراضي العربية فلن يكون باستطاعته بناء هياكل سياسية وعسكرية تابعة وتقسيم المنطقة كما يحلو له وتمكين الصهيونية من الإستيلاء على فلسطين .

ليست الغاية من هذا السيناريو الإفتراضي سوى مراجعة الفكرة الشائعة أنه ليس بالامكان أفضل مما كان ، وأن العرب محكوم عليهم مسبقا بما آل الوضع إليه . كلا لقد كان بالإمكان أفضل مما كان ، لكن الغباء السياسي ، والإرتهان للغرب، وضحالة الثقافة والوعي ، وقلة صبر النخب السياسية العربية في بلاد الشام ، وعدم تمتعها برؤية بعيدة المدى كل ذلك ساهم بقوة في صنع المصير الذي آل إليه المشرق العربي حتى اليوم.

********************************************* 

الفصل الثامن

” الثورة العربية الكبرى ” والحركات القومية في بلاد الشام

في البدء كان ثمة فرق بين الوعي السياسي للشريف حسين الذي شكل الخلفية الفكرية لإعلان الثورة عام 1916 والشعور الغامض بالإنتماء لهوية عربية هي أشبه بانتماء فطري طبيعي لكنه لايرتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بالتحرك السياسي ، ويظهر ذلك من بيان الثورة العربية الأول ، فالبيان لم يكن موجها للعرب بل للمسلمين وجاء في مقدمته الآتي : ” بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا منشورنا العام إلى كافة إخواننا المسلمين ” وهو في سرده لتاريخ العلاقة القريب بين شرافة مكة والدولة العثمانية يذكر الحكومة العثمانية بأنه حمل بالعرب على العرب في جنوب الجزيرة في منطقة أبها لقمع التمرد الذي حصل هناك وفك الحصار عن الحامية العثمانية عام 1327 للهجرة أي قبل  سبع سنوات من تاريخ إعلان الثورة. وتلك إشارة غير مباشرة أنه لايثور اليوم بدافع القومية العربية ، فلماذا يثور ؟

يجيب البيان بأن حكومة الاتحاد والترقي انحرفت عن مبادىء الاسلام ، ومست بأساسياته ويسوق الأمثلة على ذلك ، وأيضا ارتكبت الأخطاء الجسيمة في السياسة ومنها الدخول في الحرب العالمية الأولى مع ألمانيا وما جر ذلك على الدولة من مآس وويلات ، وأسفر عن خروج أراض كثيرة عن سيطرتها ، والأمر الثالث هو أن حكومة الاتحاد والترقي عطلت عمل الخلافة وأصبح السلطان العثماني بلا وزن ولا قوة حتى لم يعد قادرا على تعيين كاتب في قصره كما يذكر البيان .

لكن وأثناء سرد معالم الإنحراف عن الإسلام عند حكومة الاتحاد والترقي ، تعرض البيان للتعليمات التي صدرت للقضاء مخالفة للشرع الاسلامي ثم للحكم على كوكبة من “أفاضل المسلمين وكبراء نوابغ العرب وصلبهم ” وتشريد نسائهم وأطفالهم ومصادرة أملاكهم بما يخالف القرآن الكريم ” ولاتزر وازرة وزر أخرى ”  يقول البيان أيضا : ” ولاريب أنه يصعب حتى على ذوي القلوب القاسية إزهاق نفوس مثل ذلك العدد في آن واحد ولو كانوا من  بهائم الأنعام …” وهي إشارة غير مباشرة أن البيان لايدافع عمن حكم عليه بالإعدام بسبب عصبية قومية لكن بسبب الإنسانية ، أما معاقبة أسرهم فهي مخالفة للشرع في القاعدة الشرعية المستمدة من القرآن الكريم .

وفيما بقي من البيان نجد إشارة للعرب في مكانين ، الأول : ” هذا ما أبدوه من الأعمال أتينا به مختصرا تاركين الحكم فيه للعالم الإنساني عموما والعالم الإسلامي خصوصا وحسبنا برهانا على ماتكنه صدورهم نحو الدين والعرب ورميهم للبيت العتيق …بقنبلتين ( يبدو أثناء المواجهة مع الحامية العثمانية بمكة ) .”

والثاني : ” ولكننا لانترك كياننا الديني والقومي ألعوبة بيد الاتحاديين ” وهذه هي أوضح إشارة واردة للبعد القومي في وجوده الجنيني عند “الثورة العربية” في بيانها الأول .

لكن ما يقلل من أثر التوجه القومي ويعيد البيان إلى موقفه السياسي هو الخاتمة التي ذكرت أنه بحمد الله فقد استقلت البلاد استقلالا تاما عن الدولة العثمانية والبلاد هنا ليست سوى الحجاز . يقول البيان : ” وقد يسر الله للبلاد نهضتها ، كما وفقها بحوله وقوته لأخذ استقلالها وتكليل مساعيها بالفوز والنجاح ….فاستقلت فعلا وانفصلت عن البلاد التي لم تزل تئن تحت سلطة المتغلبين من الإتحاديين انفصالا تاما مطلقا ..”

وفي النهاية : ” هذا ماقمنا به لأداء الواجب الديني علينا …”

لم يذكر البيان أنه يتطلع إلى تخليص العرب من الإتحاديين في الشام أو العراق أو  بقية البلدان العربية أبدا ، ولا يدعو لدولة عربية واحدة ، وعلى النقيض من ذلك فهو يعتبر أن ” البلاد” استقلت استقلالا تاما ، وواضح هنا أنه يقصد الحجاز وليس سوى الحجاز .

بدأت الحركات السياسية العربية التي أخذت في البداية لباس الجمعيات كما هو حال الحركات السياسية في الدولة العثمانية في تلك المرحلة بعد إقرار دستور عام 1908 ، فإذا أخذنا بالاعتبار أن الشريف حسين قد تم تعيينه من قبل الدولة العثمانية كشريف لمكة في ذات العام فيمكن لنا أن نقدر أن الفرصة لم تكن متاحة للشريف حسين للقاء أعضاء الجمعيات العربية والحوار معهم أو الاتفاق حول رؤية سياسية متقاربة ، وكذلك أبناؤه فيصل وعلي وزيد وعبد الله ، كما أن الأخبار التي وصلتنا عن نشاطهم السياسي في استانبول في تلك الفترة لاتتضمن مايشير إلى تلك العلاقة .

ومنذ العام 1908 نشأت في استانبول عدة جمعيات سياسية الأهداف بقالب إجتماعي أو أدبي ومنها جمعية ” العربية الفتاة ” و ” الإخاء العربي ” و ” المنتدى الأدبي ” وقد عملت تلك الجمعيات في استانبول لفترات متفاوتة ، فبالنسبة لجمعية الإخاء العربي وبعد المحاولة الفاشلة التي قامت بها فصائل من الجيش العثماني لإلغاء الدستور واستعادة مركز الخليفة السياسي في آذار عام 1909 ،فقد اتهمت جمعية الإخاء العربي بالتواطىء مع الإنقلابيين وبالتالي تم منعها بصورة نهائية من قبل الإتحاديين  .

أما جمعية ” العربية الفتاة ” فقد اختارت أن يكون مقرها في باريس وهناك تشكلت أول هيئة إدارية لها عام 1911، لكنها استطاعت ضم أعضاء من ” المنتدى الأدبي ” إلى صفوفها في استانبول منهم سيف الدين الخطيب ورفيق رزق سلوم ويوسف مخيبر بينما بقي مركزها في باريس ، ويمكن النظر لتلك الجمعية كواحدة من أهم التجمعيات السياسية القومية – العربية والتي سوف يزداد دورها فيما بعد خاصة أنها تمكنت من مد نشاطها إلى دمشق وهناك التحق بها شكري القوتلي الذي أصبح فيما بعد رئيس الدولة السورية ، كما التحق بها آخرون في بلاد الشام مع العام 1913 .

وفي الجيش العثماني نشأت جمعية عربية سرية هي جمعية العهد تكونت من بعض الضباط العرب عام 1913 وأشهرهم عزيز المصري وياسين الهاشمي ونوري السعيد ومولود مخلص وسليم الجزائري وعلي النشاشيبي ، ومالبث أن اتصلت بجمعية ” العربية الفتاة ” وهكذا أصبح للحركات القومية العربية جناحان عسكري ومدني ، سوى أن الجناح العسكري كان الأكثر راديكالية والأقل خبرة بالسياسة .

وفي القاهرة تأسس حزب اللامركزية العلني أواخر عام 1912 على يد عدد من الشباب السوريين المثقفين المقيمين في مصر ومنهم : رفيق العظم ورشيد رضا ، وفؤاد الخطيب ، ومحب الدين الخطيب

وسليم عبد الهادي وحافظ سعيد ونايف تللو وعلي النشاشيبي وشبلي الشميل واسكندر عمون . وكان للحزب مكانته الكبرى لعلنيته والحرية النسبية التي تمتع بها في مصر واتصاله بالصحافة المصرية .

يعتبر ايلي خدوري حزب اللامركزية أهم الأحزاب المدنية التي ألفها في القاهرة المهاجرون السوريون وكان – كما يقول خدوري لديه اتصالات وأعضاء في سورية .( كتاب محب الخطيب ودوره في الحركة العربية – ص 69 )

حدد برنامج الحزب أهدافه في الدعوة إلى تطبيق اللامركزية الإدارية في الولايات العثمانية العربية والمطالبة بالإصلاح ونقل السلطة إلى السكان المحليين وضمان مركز اللغة العربية في الإدارة والتعليم.

في بيروت تأسست الجمعية الإصلاحية بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب البلقانية وازدياد الحديث في المنابر الأوربية حول وراثة أقاليم الدولة العثمانية وتقاسم الدول الأوربية تلك الأقاليم فيما بينها ( تركة الرجل المريض ) وهكذا بدأ العرب يفكرون أيضا بمستقبل بلادهم بصورة مستقلة تحسبا للقادم ، فاجتمع عدد من المثقفين والسياسيين في بيروت في كانون أول عام 1912 ، وطلبوا من الحكومة في استانبول تطبيق اللامركزية في البلاد ، وأن يكون للولاية مجلس عمومي يشرف على الإدارة المحلية وأن يكون لذلك المجلس حق محاسبة الوالي وطلب عزله من الإدارة المركزية في استانبول  ، وأن تكون اللغة العربية رسمية إلى جانب اللغة التركية في الأقاليم العربية .

مؤتمر باريس :

بعد الأعمال التحضيرية انعقد مؤتمر باريس بمشاركة حزب اللامركزية ومقره مصر وبرئاسة عبد الحميد الزهراوي  ، والجمعية الاصلاحية ومقرها بيروت ، والعربية الفتاة ومقرها باريس وممثلين عن العراق والجاليات العربية في كل من استانبول وأمريكا الجنوبية والولايات المتحدة وفرنسا .

فيما يلي أهم المطالب التي أقرها المؤتمر وقد أبقيت المطالب كما جاءت بلغة المؤتمر :

أولا : أن الإصلاحات الحقيقية واجبة وضرورية للمملكة العثمانية فيجب أن تنفذ بوجه السرعة .

ثانيا : من المسلم به أن يكون تمتع العرب بحقوقهم السياسية مضمونا وذلك بأن يشتركوا في الإدارة المركزية للمملكة اشتراكا فعليا .

ثالثا : يجب أن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة لامركزية تنظر في حاجاتها ومتطلباتها للرقي .

رابعا : اللغة العربية يجب أن تكون معتبرة في مجلس النواب العثماني ويجب أن يقرر هذا المجلس كون اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية .

خامسا : تكون الخدمة العسكرية محلية في الولايات العربية إلا في الظروف والأحيان التي تدعو إلى الاستثناء الأقصى .

 

يمكن النظر إلى مؤتمر باريس باعتباره محطة رئيسية في تاريخ الحركات القومية العربية ، فبعد ذلك المؤتمر أصبح لدينا برنامج سياسي مشترك واضح المعالم ،  وكما هو ظاهر من لغة القرارات فقد صيغت كمطالب إصلاحية مقدمة للدولة العثمانية وليس كبرنامج عمل ثوري إنقلابي ، فمؤتمر باريس مؤسس على الإعتراف بسيادة الدولة العثمانية ، لاعلى الخروج عن تلك السيادة والإنفصال عنها ، وبذلك فهو يفتح الباب أمام الحوار مع حكومة الإتحاديين للوصول للإصلاحات المطلوبة ، لكنه يقدم مطالبه بلغة جازمة تعطي الإنطباع بأن الحركات القومية العربية قد نفد صبرها وأن مطالبها لم تعد تحتمل التأجيل  والتسويف .

لكن تيارا سياسيا عربيا مختلفا كان يتبلور في ذات الوقت ، لم يقيض له الإنتشار ولا الفعالية ولايمنع ذلك من إعطائه الأهمية التي يستحقها يمثله حزب الإصلاح التي تأسس في دمشق في الفترة ذاتها والذي كان ضد  مؤتمر باريس ، ويعتبر انعقاده في فرنسا مؤشرا لتدخل الغرب في تفكيرالمؤتمرين وتوجهاتهم وقراراتهم . بينما كان ذلك التيار أقرب للدولة العثمانية وأحرص على أن يكون الإصلاح بعيدا عن الأجندات الغربية، وأبرز ممثلي هذا التيار هم : المفكر والسياسي الكبيرشكيب أرسلان ، والدكتور حسن الأسير والشيخ أسعد الشقيري والشريف علي حيدر وأخوه جعفر والشيخ عبد العزيز الشاويش من أقطاب الحزب الوطني المصري الذي كان يناوىء سلطة الانكليز في مصر والسيد عبد العزيز الثعالبي من الوطنيين التونسيين والشيخ سليمان الباروني من وجهاء الوطنيين الليبيين.

وخير ممثل لذلك التيار هو الأمير شكيب أرسلان الذي كان يرى أن الأتراك أنفسهم هم سبب انحدار الدولة العثمانية بسبب سوء إدارتهم وتناحرهم والفساد الذي انتشر في إدارة الدولة والولاء للأجنبي ومن تلك الأمراض تسلل الأجنبي واستطاع أن يمتلك مراكز اقتصادية ومالية وثقافية ، لكن الأمير شكيب رغم ذلك كان يفضل بقاء الدولة العثمانية لأن البديل عن الحكم العثماني ليس الحكم العربي ولكن الحكم البريطاني والفرنسي فاختيار العثمانيين هو اختيار لأخف الضررين ( كتاب شكيب أرسلان : تاريخ الدولة العثمانية – المقدمة )

أما عن مؤتمر باريس فيقول شكيب أرسلان في رسالته المعنونة ” إلى العرب ” وفي الفقرة الخاصة بمؤتمر  باريس :

” أما اللامركزيون فكان قصارى سعيهم أن جعلوا القلق يسود على الأفكار ، وزرعوا بذور النفور بين العرب والترك ، وفتحوا مجالا للصحف الأجنبية للخوض في مسألة سورية ، وإذا دققت في جميع حركاتهم وسكناتهم تجدها رامية إلى غرض واحد ،وهو إيجاد مسألة أوربية في سورية ، أو مسألة سورية في أوربة “

السؤال الآن : ماذا كان رد حكومة الإتحاديين في استانبول ؟

أرسلت حكومة الإتحاديين مندوبا عنها للتفاوض بشأن مطالب مؤتمر باريس هو السيد مدحت شكري بيك ، وبعد جهد كبير تم الاتفاق بين الفريقين على الأمور الآتية :

1 – يكون التعليم العالي فقط باللغة التركية ، وما عداه فيكون باللغة العربية في جميع الولايات العربية .

2 – يجب على جميع الموظفين في البلاد العربية معرفة اللغة العربية باستثناء الولاة ، ويجري تعيينهم من قبل السلطات المحلية ماعدا القضاة فيجري تعيينهم من قبل الحكومة المركزية .

3 – توسيع السلطات للإدارات المحلية لتشمل النافعة ( ربما يقصد الخدمات العامة ) والتعليم والأوقاف الخ …

4 – يكون في الوزارة مبدئيا ثلاثة وزراء من أبناء البلاد العربية ، وتضم وظائف الدولة الكبرى عددا كافيا منهم يتناسب مع عدد العرب في الدولة .

5 – لما كان أعضاء مجلس الأعيان يعينون تعيينا من قبل السلطان وجب تعيين اثنين من العرب عن كل ولاية عربية .

وبعد أن أعلنت الحكومة الإتحادية عزمها على تنفيذ تلك البنود ، تراجعت فعليا وبدلا عنها قامت بتنفيذ برنامجها الخاص للإصلاحات والذي شمل الآتي :

1 – تعيين كل من عبد الحميد الزهراوي ومحمد بيهم ويوسف سرسق وعبد الرحمن اليوسف ومحي الدين النقيب وأحمد كيخيا في مجلس الأعيان .

2 – تعيين كل من شكري العسلي وعبد الوهاب الانكليزي وناجي السويدي وأمين التميمي في مناصب رفيعة .

3 – تأسيس مدرستين ثانويتين عربيتين في دمشق وبيروت .

4 – صار بمقدور المحاكم العربية سماع المرافعات باللغة العربية .

اكتفت حكومة الإتحاديين بذلك البرنامج للإصلاحات الذي لايشبه البنود المتفق عليها في شيء ، فلم تمنح للعرب أي حقوق سياسية ذات وزن ، أما اللامركزية فقد تم تجاهلها بصورة تامة ، وما قدمته حكومة الإتحاد على قلته كان قابلا للسلب طالما ارتبط بقرارات تعيين من قبل الحكومة المركزية .

أحدث تراجع الحكومة الاتحادية عن البنود التي اتفق عليها مع مؤتمر باريس ، والإجراءات الهزيلة التي نفذت بدلا عنها رد فعل لدى جمعية ” العربية الفتاة ” وتم إبلاغ عبد الحميد الزهراوي ضرورة الالتزام بمقررات مؤتمر باريس فوافق على ذلك بعد استشارة حزبه ( حزب اللامركزية ) في القاهرة .

ويبدو من خلال رسالة بعثها عبد الحميد الزهراوي إلى زميله في حزب اللامركزية بمصر رشيد رضا صاحب مجلة المنار الاسلامية وأحد أركان حزب اللامركزية أنه بعد وصوله استانبول قادما من باريس وبذله الجهد لمعرفة الأجواء السياسية في العاصمة ، أصبح يميل إلى منح الإتحاديين الفرصة وعدم القطع معهم بعد اقتناعه بقوتهم وحسن نيتهم تجاه العرب على النحو الذي كان عليه شكيب أرسلان لكنه بقي مترددا من اتخاذ موقف سياسي محدد خاصة مع الضغوط التي واجهها من جمعية العربية الفتاة وربما من حزبه أيضا بعد استشارته كما سبق .

كتب عبد الحميد الزهراوي في الرسالة السابقة : ” الإتحاديون هم أولياء الأمر مباشرة ، وهم اليوم يتسلحون بعزائم شديدة ماضية ، وناوون نية قاطعة أن يجددوا شباب الدولة بقدر ما تسمح به الظروف ، ويشتهون أن يخلص إليهم العرب وأن يساعدهم فضلاؤهم في هذا السبيل ، ويعترفون بخطيئاتهم الماضية ، ويودون أن لايعودوا لمثلها قدر الإمكان ، أنا مؤمن بنياتهم وأقوالهم هذه كل الإيمان لأدلة كثيرة ظهرت لي ، ولكنني مرتاب من جهة قابليتهم لتطبيق العمل على النية ، وعلى كل حال أرى أن عدم تركهم وحدهم خير من تركهم ، ويرجى أن تقوى شوكتهم ..”

يمكن اعتبار ماسبق أن كتبه عبد الحميد  الزهراوي رئيس مؤتمر باريس وربما أهم الشخصيات السياسية العربية ضمن الحركات القومية في ذلك الوقت شهادة هامة وذات مصداقية عن سياسة الإتحاديين وهي تقترب إلى حد كبير من آراء الأمير شكيب أرسلان ، لكن ماينبغي أخذه بالاعتبارأن تلك الشهادة ليست سوى صورة لحظية لمسار مضطرب ومتغير ، تحكمت به ظروف الحرب العالمية الأولى وانخراط الدولة العثمانية فيها ، وقد أسفر ذلك المسار في نهاية المطاف عن إعدام عبد الحميد الزهراوي ذاته على يد الإتحاديين وحدوث شرخ في علاقة الدولة العثمانية ليس مع المثقفين العرب فقط ولكن مع الرأي العام العربي في بلاد الشام على نحو خاص ، وكان ذلك الشرخ فرصة ثمينة لتسلل السياسة الغربية الإستعمارية التي قدمت نفسها للعرب كمنقذ ومخلص من ظلم الأتراك . أما لماذا حدث ذلك الشرخ ومن المسؤول عنه فذلك موضوع آخر لكن مايمكن قوله هنا هو أن تعيين جمال باشا واليا على بلاد الشام وما قام به من إعدام سبعة وثلاثين من القيادات السياسية والمفكرين العرب شكل ضربة كبيرة للعلاقات العربية – التركية .

أخيرا فمن المفيد قبل الإنتقال للمرحلة اللاحقة  التوقف قليلا لإلقاء نظرة متأملة على ما ورد في الرسالة فيما يشبه التحليل السياسي للوضع بمجمله في تلك المرحلة الزمنية وخاصة لوضع القوى التي يمكن الإتكال عليها في عملية الاصلاح والنهوض العربي .

فبعد وصفه لحال المجتمعات العربية في سورية والعراق ( وسورية في ذلك الوقت كانت مصطلحا لسورية الحالية ولبنان وربما يعمم ليضم فلسطين والاردن ) وكيف أن عصور التحضر التي مرت عليها دفعتها للإستكانة للحاكم وأضعفت العنفوان والحماس للتغيير وما يطلبه ذلك من استعداد للتضحية .

لذلك فهو يوجه نظره  باتجاه جزيرة العرب فيقول : ” أما أهل الجزيرة فهم الأهل وفاهم الله الخير وشد سواعدهم ، أولئك يجب وصل الرابطة بهم من غير أن نقطعها مع الحضر ” سكان المدن والقرى في بلاد الشام والعراق ” .

تلك أول إشارة للتفكير في الإستناد إلى عرب الجزيرة ضمن الحركات القومية العربية قبل حوالي ثلاث  سنوات من إعلان ” الثورة العربية الكبرى ” في الحجاز .

بعد مؤتمر باريس وما أسفر عنه واتضاح موقف حكومة الاتحاديين انتقلت الهيئة الادارية لجمعية ” العربية الفتاة” إلى بيروت  .

حدث بعد ذلك أن انتقل عزيز المصري إلى مصر بعد الإفراج عنه وكان سجن  في استانبول بسبب نشاطه القومي بين الضباط العرب وكاد يصدر فيه حكم بالإعدام لولا تدخل رجالات العرب وأعضاء حزب اللامركزية في مصر ويظهر ذلك أن العلاقات لم تنقطع وقتها بين الاتحاديين وحزب اللامركزية

لكن عزيزالمصري الذي خرج من السجن أشد نقمة على الإتحاديين من أي وقت اتفق مع حقي العظم المقيم في القاهرة على الدعوة للإنفصال التام عن الدولة العثمانية وتوزيع منشورات باسم ( الجمعية الثورية العربية ) تدعو لذلك وتندد بحكم الاتحاديين .

وحين وقعت تلك المنشورات بيد الدولة العثمانية اعتبرت  أنها صادرة  عن حزب اللامركزية في حين أنها كانت من عمل عزيز المصري وحقي العظم دون أخذ موافقة حزب اللامركزية .

وكانت تلك المنشورات ” الثورية ” أهم الوثائق التي استندت إليها المحكمة العسكرية العثمانية في عاليه بلبنان والتي حكمت على عشرات المفكرين والناشطين السياسيين العرب بحجة انتسابهم لحزب اللامركزية .

ويمكن ملاحظة كيف حدث انتقال في موقف الحركات القومية العربية بعد بدأ اليأس يدب في النفوس من إمكانية حصول العرب على حقوقهم ضمن الدولة العثمانية وفي إطار اللامركزية .

يشرح محب الدين الخطيب موقف الغالبية في الحركة القومية العربية كالتالي :

” لم يكن في العرب المسلمين عاقل واحد يفكر في الانفصال عن الدولة العثمانية قبل أن يتم استعدادهم لهذا الانفصال ( ذلك  يعني أن المسألة مسألة وقت ) لكنهم كانوا يريدون أن تعترف لهم الدولة بحق العرب في الحياة ، فيكون التعليم في سورية والعراق والحجاز وجميع بلاد العرب باللغة العربية ، وأن تكون العربية لغة رسمية في البلاد العربية ، وأن يمثل العرب تمثيلا صادقا في الوزارة ، ومجلس الأعيان وسائر المرافق ، هذا ماكانوا يحاولون إقناع الاتحاد والترقي به بعد المؤتمر العربي الأول  ( يقصد مؤتمر باريس ) ” ثم يصف محب الدين الخطيب جماعة الإتحاد والترقي بأنهم “كانوا مراوغين ، وحولوا هذه المعاني السامية إلى محاولة إرضاء البعض الوظائف “

وحين بدأت تظهر بوادر الحرب الحرب العالمية الأولى لجأت حكومة الإتحاديين إلى مايشبه سياسة الطوارىء والأحكام العرفية لضمان الجبهة الداخلية وخوفا من أن تكون الحرب مناسبة لأعمال الثورة والتمرد ليس من قبل العرب فقط وربما كان الخوف منهم الأقل نسبة للخوف من ثورات االشعوب والأعراق الأخرى كالأرمن والروم الذين كان لهم وجود ديمغرافي وثقافي واقتصادي داخل الأناضول وخاصة داخل استانبول وقد سبق أن عانت الدولة العثمانية من حروب البلقان حين تمردت شعوب تلك المنطقة على الحكم العثماني واشتعلت فيها الثورات .

في عام 1914 وعقب دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا ظهرت معارضة عربية لقرار حكومة الإتحاديين الدخول في الحرب فاستقال سليم البستاني الوزير العربي في حكومة الاتحاديين احتجاجا على قرار الحرب .

أرسلت حكومة الاتحاديين جمال باشا لحكم بلاد الشام بعد إعلان الحرب ، وفي الفترة ذاتها انتقلت هيئة إدارة جمعية ” العربية الفتاة ” لدمشق وضاعفت من نشاطها بين الشباب الذين حشدتهم الحكومة الإتحادية في دمشق  كمجندين استعدادا لامكانية زجهم في المعارك في أي وقت  ، وحددت العربية الفتاة هدفها ضمن الأحداث المستجدة باستقلال العرب وكان ذلك أول مطالبة صريحة بالانفصال عن الدولة

العثمانية لكنها اشترطت عدم تعرض البلاد لخطر استعمار الدول الأوربية ، ففي تلك الحالة تقول جمعية ” العربية الفتاة ” إنها ستكون إلى جانب الدولة العثمانية .

لاشك أن أي متأمل في موقف جمعية ” العربية الفتاة ” سيجد أن جوهره الحقيقي هو الدعوة للإنفصال عن الدولة العثمانية واعتبار ظروف الحرب فرصة لتحقيق ذلك ، أما الشرط الذي وضعته فهو غير واقعي ، إذ كيف ستقبل الدولة العثمانية من الجمعية التي لم تعلن بوضوح موقفها في بداية الحرب بل طالبت بالاستقلال أثناء الحرب أن تعود للقتال معها اذا اتضحت النوايا الإستعمارية للدول الغربية ؟؟

بالتالي فالشرط الأخير ليس سوى حجة شكلية للرد على رأي الأمير شكيب أرسلان ومن معه في أن الإنفصال عن الدولة العثمانية لن يسفر عن دولة عربية مستقلة بل عن استعمار أوربي .

كتب أحمد قدري أحد مؤسسي جمعية العربية الفتاة في مذكراته ( ص 38) الآتي :

” بيد أن هذا كله لم يمنع الجمعية من إصدار قرارها بأن  غاية العرب هي الإستقلال ، حفاظا على كيان البلاد العربية ، لاعداء للأتراك ، أما إذاكانت البلاد العربية عرضة لخطر الإستعمار الأوربي فالجمعية تعمل مع أحرار العرب كافة للدفاع عن البلاد العربية جنبا إلى جنب مع الأتراك .”

فهل يعقل أن الجمعية كانت عمياء لدرجة لم تر معها خطر الإستعمار الأوربي الداهم الذي رآه شكيب أرسلان ؟ أم أنها كانت تنتظر وصول الجيش البريطاني للقدس ودمشق لتعرف فيما إذا كان  هناك خطر استعمار أوربي أم لا ! وهل لدى العرب القدرة على دفع قوى الاستعمار الأوربي أم هل ستكون تركيا بوارد نجدة العرب بعد انفصالهم  لدفع الإستعمار الأوربي عنهم  ؟

ويقر أحمد قدري في ذات السياق أن جمعية ” العربية الفتاة ” كانت تتمتع بالحرية في العمل  والنشاط في دمشق في عهد قائد الجيش الرابع العثماني زكي باشا الحلبي الذي كان واليا في دمشق  عن حكومة الإتحاديين قبل استبداله بجمال باشا عقب إعلان الحرب .

كتب أحمد قدري : ” ويرجع معظم الفضل في عوننا على العمل (يقصد نشاط جمعية العربية الفتاة في دمشق) إلى تلك الحرية التي كنا نستمتع بها في عهد قائد الجيش الرابع زكي باشا الحلبي ،  ولكن هذا القائد مالبث أن استبدل بجمال باشا مغادرا سورية إلى ألمانيا ممثلا للجيش التركي لدى الإمبراطور غليوم الثاني وذلك في 5 كانون أول 1914 وهو اليوم الذي وصل فيه جمال باشا إلى سورية ” ( مذكرات أحمد قدري – ص38)

وهذا دليل على أن حكم الدولة العثمانية حتى في عهد الإتحاديين لم يكن على تلك الدرجة من الشدة والقسوة التي صورت بها الدولة العثمانية ، وأن جمال باشا بإعدامه المثقفين والناشطين السياسيين العرب كان ظاهرة طارئة ارتبطت بظروف الحرب ولم يكن يعكس سياسة قمع واضطهاد ثابتة وطويلة الأمد . لكن ما أقدم عليه من أحكام ظالمة تسبب في تلطيخ صفحة العلاقات العربية التركية بالسواد ودفع الرأي العام نحو الاقتناع بالإنفصال والبحث عن المخلص .

اتصفت الفترة الزمنية بعد ذلك بتمدد عمل جمعية ” العربية الفتاة ” وتمكنها من ضم شخصيات سياسية واجتماعية مؤثرة مثل رضا باشا الركابي ونسيب بك الأطرش ونواف الشعلان شيخ قبيلة الرولة ، كما تقاطع عملها مع عمل جمعية العهد السرية التي كانت تعمل وسط الضباط العرب في الجيش العثماني ويؤشر ذلك إلى المنحى التصاعدي لاتجاه الجمعية السياسي نحو الانفصال عن الدولة العثمانية ، كما بدأت تظهر الاتصالات وأعمال التنسيق غير المعلن بين الجمعية وبين الشريف حسين في الحجاز حيث أصبح الحجاز ملجأ للعناصر المطلوبة من قبل الدولة العثمانية لنشاطها السياسي القومي ، فبعد ملاحقة عضو الجمعية فائز الغصين لنشاطه وسط القبائل العربية في تدمر واعتقاله ونفيه إلى ديار بكر أمكن للجمعية تهريبه إلى الحجاز ليصبح مستشارا للأمير فيصل بن الحسين ، ثم لجأ إلى الحجاز بعض من الكوادر الرئيسية لجمعية ” العربية الفتاة ” خوفا من الملاحقة والإعتقال ومنهم الأمير عارف الشهابي وعبد الغني العريسي وتوفيق البساط وابراهيم هاشم من الضباط الإحتياط ، لكن أثناء سفر الأمير عارف الشهابي وعبد الغني العريسي انكشف للسلطات العثمانية أمرهم فألقي القبض عليهم ونقلوا إلى عاليه بلبنان لمواجهة المحكمة العسكرية .

مع تصاعد نشاط جمعية العربية الفتاة وتصاعد ميولها السياسية نحو الإنفصال عن الدولة العثمانية ونشاطها ضمن صفوف الضباط العرب بالتوازي والتنسيق مع نشاط جمعية العهد تصاعد أيضا في المقابل ميل جمال باشا لحكم بلاد الشام بالقبضة الحديدية ، فشن حملة اعتقالات واسعة ضد الناشطين القوميين ، وتولت محكمة عاليه العسكرية محاكمتهم بطريقة أشبه بعمل المحاكم العرفية ، وفي 21 آب 1915 نفذت أحكام الاعدام بالشنق في أول مجموعة من القوميين العرب بأمرمباشر من جمال باشا دون استشارة الحكومة الاتحادية ومصادقة الإرادة السلطانية كما هو متبع في حالات الاعدام .

والتهمة التي وجهت إليهم هي الإنتماء لحزب اللامركزية وأيد جمال باشا قراره بإظهار المنشورات التي أصدرها حقي العظم وعزيز المصري رغم أن الجمعية كانت علنية ومعترفا بها من حكومة الإتحاديين .

أحدث تنفيذ  أحكام الاعدام بالشباب من القوميين العرب ارتدادات كبيرة ، وكان من نتائجها انتقال مشاعر السخط ضد الدولة العثمانية من النطاق الضيق للمثقفين والناشطين السياسيين وبعض الوجهاء إلى نطاق أوسع شمل أطيافا من الرأي العام الذي كان بعيدا عن مجريات السياسة حتى ذلك الوقت .

كتب الأمير شكيب أرسلان في كتابه : ” تاريخ الدولة العثمانية ” :

” إن سياسة جمال باشا في سورية كانت من أعظم المصائب على الدولة العثمانية ، وعلى الأمة الاسلامية ، وأنه هو المسؤول عنها بالدرجة الأولى ، وأن طلعت وأنور كانا مسؤولين أيضا ، لكونهما تركاه يفعل مايشاء . ” ( تاريخ الدولة العثمانية – ص 433)

ومافعله جمال باشا بغبائه السياسي ورعونته أنه منح دعاة الإنفصال عن الدولة العثمانية بيئة وحاضنة شعبية لنشاطهم وعطفا واسع النطاق ، وانتقلت الأخبار إلى الحجاز فأضافت للأسباب التي كانت وراء “الثورة العربية الكبرى” سببا آخر ، ونشأت حالة من التعاطف بين الشريف حسين والحركات القومية في بلاد الشام تطورت سريعا نحو التعاون والتنسيق وبذلك أمدت الحركات القومية في بلاد الشام الحجاز بالمثقفين والضباط والأفكار الثورية والأفق القومي العربي ولاحقا بالبيئة الشعبية الحاضنة التي حولت حركة الشريف حسين من حركة استقلال سقفها الحجاز كما تبين سابقا من إعلان الثورة العربية عام 1916 إلى حركة تستهدف إنشاء دولة عربية تضم  بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية والعراق .

حول جمال باشا :

يقول شكيب أرسلان في كتابه ” تاريخ الدولة العثمانية ” – ص 470 إنه ذهب لألمانيا عام 1917 وذلك بعد أن وصل إليها جمال باشا قادما من سورية وأنه حين حاول توضيح مساوىء حكم جمال باشا لبلاد الشام والأثر السلبي الذي تركه حكمه على العرب وجد أن الألمان يعرفون ذلك ، لكنهم كانوا يدارون جمال باشا ومما سمعه شكيب من الألمان أن جمال باشا ربما كان  له اتصالات سرية مع فرنسا أثناء الحرب ، كتب شكيب أرسلان : ” يقال ( عن جمال باشا ) والقول هنا للألمان : إنه راسل فرنسا على أن ينفصل عن الدولة ويصطلح مع الحلفاء ، على أن يجعلوه أميرا مستقلا في الشام وفلسطين ، وأن الفرنسيين مالوا لهذه الفكرة لولا معارضة الانكليز لها والله أعلم “

ولعل تلك المعلومة التي لا أظن أنها خالية من الحقيقة ، فهي قد أتت من طرف ليس له عداوة شخصية مع جمال باشا بل بالعكس كان يساير كثيرا جمال باشا ويحاول جذبه كي لايبتعد عن الحلف الألماني – التركي في الحرب كما يفهم من كلام شكيب أرسلان ، اقول لعل تلك المعلومة إن صحت تلقي بعض الضوء على الأسباب الكامنة وراء اتهام جمال باشا للمثقفين والناشطين العرب بالتعامل مع السفارات الأجنبية والتخطيط للانفصال عن الدولة العثمانية ثم محاكمتهم وإعدامهم .

فهو بعمله هذا كان يحاول تغطية اتصالاته هو بفرنسا والتخطيط السري للإنفصال عن الدولة العثمانية والإنضمام للحلفاء . وكأنه يقول لزملائه في الحكم : انظروا كم أنا شديد مع أي نزعة انفصالية وأي شكوك حول اتصال العرب مع فرنسا .

الفصل التاسع

القوميون العرب و”الثورة العربية الكبرى” بعد إعلان الشريف حسين الثورة عام 1916

بدأت الإتصالات المنسقة بين المنظمات القومية العربية في بلاد الشام والأمير فيصل بن الحسين حين قدم الأمير فيصل إلى دمشق عام 1915 مبعوثا من قبل والده للتفاوض مع الأتراك لتثبيت حكم الشريف حسين للحجاز بعد أن تسربت الأخبار للشريف حسين أن الدولة العثمانية تعتزم تقليص سلطته على الحجاز لحساب الوالي العثماني الذي أرسلته إلى هناك وهيب باشا تمهيدا لنزع كامل تلك السلطة لعدم الثقة بالشريف حسين لجهة نزعته الإستقلالية التي بدأت تظهر وصلاته بالدولة البريطانية ، وفي ذلك يذكر شكيب أرسلان أن السلطان عبد الحميد كان على اطلاع على تلك الصلات وقد حذر منها، وعبر بوضوح عن عدم ثقته بالشريف حسين قائلا انتظروا ما سيفعله هذا الرجل .

بادرت جمعية العربية الفتاة في دمشق لعقد اجتماع مع الأمير فيصل في ايلول 1915وقد رغب الأمير فيصل في الاجتماع بمعرفة مدى قوة الحركة القومية في سورية من ياسين باشا الهاشمي رئيس أركان حرب الجيش الرابع العثماني المرتبط سرا بالحركة القومية ورضا باشا الركابي وسأل : ماذا تحتاج سورية لتشترك بالحركة التحريرية العربية عند الإقتضاء فكان الجواب أن سورية لاتحتاج سوى أن يكون الشريف حسين على رأس تلك الحركة .

ولست أدري هل كان ذلك الجواب من باب الإدعاء الذي لايحمل رصيدا من الواقع أم أن التنظيمات السرية العربية داخل الجيش العثماني الرابع في دمشق وحولها كانت تعد بالفعل للثورة ؟

ومن المعروف أن جمال باشا لم يقم فقط بإعدام أبرز المثقفين والناشطين القوميين العرب ونفي عوائل كثيرة من سورية إلى الأناضول لكنه قام بحملة بعثرة الضباط العرب المقيمين في دمشق إلى جبهات القتال البعيدة في القفقاس وجنق قلعة وغيرها .

تابع الأمير فيصل السير بعد دمشق إلى استانبول ، واجتمع هناك مع قادة الإتحاديين أنور وطلعت وأطلعهم على ما وصل إلى والده من أخبار مؤكدة حول عزم وهيب باشا سحب السلطة من يد الشريف حسين فكان ردهم إيجابيا ومطمئنا وقرروا عزل وهيب باشا وتعيين وال عثماني آخر هو غالب باشا ، ويبدو أن حكومة الإتحاديين كانت حريصة على عدم إعطاء الحلفاء الفرصة لجذب الشريف حسين لصفها ، وكان لديها أمل في الإبقاء على الحجاز بل والإستفادة من القوى المحدودة التي بين يدي الشريف حسين لدعم المجهود الحربي شرق قناة السويس ، وحين لقي الأمير فيصل من الحكومة الإتحادية تلك الحفاوة والإهتمام حاول التوسط لتخفيف قبضة جمال باشا على الحركة القومية في سورية لكن وساطته لم تثمر في النهاية ، بينما كان جمال باشا قد قام باعتقال الدفعة الثانية من المثقفين والناشطين القوميين العرب وهم : شفيق المؤيد والأمير عمر ورفيق رزق سلوم وعمر حمد وعبد الغني العريسي وعارف الشهابي وتوفيق البساط وسيف الدين الخطيب والشيخ أحمد طبارة وسليم الجزائري وجلال البخاري وأمين لطفي وسليم الأحمد عبد الهادي وفايز الخوري ورضا الصلح ورياض الصلح ، وحين لم يفلح الأمير فيصل في وساطته للإفراج عنهم أبرق لوالده يعلمه بذلك فاهتم الشريف حسين بالأمر وأرسل لحكومة الاتحاديين يلح في طلب الإفراج عن المعتقلين وبرر ذلك بضرورة تكاتف العرب مع الأتراك في الحرب العالمية وأن ذلك يتطلب المحافظة على مشاعر العرب ، وأرفق ذلك بالتأكيد على ضرورة الإبقاء على إمارة مكة بيد الأشراف وتحقيق المطالب العربية في النظام اللامركزي ، لكن حكومة الإتحاديين رفضت مطالب الشريف حسين فيما يتعلق بالإفراج عن المعتقلين وأصرت على محاكمتهم ودعم موقف جمال باشا الصارم دون تعديل .

وهنا نرى كيف تحول الإهتمام المحدود بأخبار بلاد الشام لدى الشريف حسين إلى بداية الانخراط في عملية تعاون وتنسيق بين ما أصبح يظهر وكأنه جناحان للحركة القومية العربية وعمق استراتيجي للمنظمات القومية العربية في بلاد الشام ، وسؤال الأمير فيصل عن مدى استعداد سورية للثورة حين يحين الأمر يشي بوضوح عن تفكير الأمير فيصل مبكرا بضم بلاد الشام للحجاز وتوسيع آفاق الثورة التي كان قد بدأ التفكير فيها من قبل .

لكن ذلك التفكير لم يكن سوى في مراحله الأولى ، فهو يشبه الإستطلاع وجس النبض ، كما يمكن أن نلاحظ أن الأمير فيصل وهو الشخصية الأقوى والأكثر ذكاء وطموحا بين أبناء الشريف حسين هو من كان يستشرف آفاق توسيع الثورة من الحجاز إلى بلاد الشام ، بينما جاء إعلان الثورة من الشريف حسين  لاحقا بعد ثمانية أشهر تقريبا مقتصرا على الحجاز كما سبق ذكره .

في السادس من أيار عام 1916 تم تنفيذ حكم الإعدام بالقافلة الثانية من القوميين العرب الذين كانوا معتقلين في عاليه ولابد من تسجيل المواقف الشجاعة لذلك الفريق من القوميين العرب على أعواد المشانق ، فعندما صعد عمر حمد للمشنقة صاح بالحاضرين : ” إن هذا الذي ترتكبه الحكومة الآن سيقوض أسس الدولة ويكون سببا في خرابها ثم خاطب الحاضرين قائلا : إنني أموت فداء الأمة العربية غير خائف ولا وجل ، فليسقط الخونة وليحيا العرب ، وعندما جاء دور توفيق البساط التفت نحو المشنوقين وكان عددهم أحد عشر شابا ثم صاح بصوت جهوري وعلى محياه ابتسامة مرة : ألا مرحبا بإرجوحة الأبطال ، مرحبا بأرجوحة الشرف ..مرحبا بالموت في سبيل الوطن ثم رفس الكرسي بقدمه .

ولايمكن لأي منصف عاقل أن لا يقر بأن هؤلاء الشبان الشجعان الذين امتلأت نفوسهم بحب الوطن والاستعداد للتضحية لايمكن أن ينحدروا لمرتبة العمالة مع جهات أجنبية كعملاء ، وذلك ما أشار اليه أيضا شكيب أرسلان من أن ما احتج  به جمال باشا من وثائق وجدت في السفارات الأجنبية ببيروت من تعامل بعض الناشطين القوميين مع تلك السفارات يتعلق بعدد قليل ممن تم اعتقالهم وإعدامهم ، وفضلا عن ذلك فحتى زيارة ذلك القليل للسفارات لاتعني العمالة لها بالضرورة ، فإذا كانت تلك الزيارات غير مبررة وتوجب التوقيف والمساءلة ، فكان يمكن للقضاء العادي البت فيها وإيقاع العقوبة التي تتناسب مع تجاوز القانون وارتكاب المخالفة . لكن الواضح أن جمال باشا لم يكن يهمه تحقيق العدالة بقدر ماكان يهمه قمع الحركة القومية العربية في بلاد الشام ومنعها من الصعود والإنتشار بالتخويف والارهاب .

فهو وإن كان قد نجح في هدفه مؤقتا ، لكن ثمن ذلك كان انهيار العلاقة بين الشعبين العربي والتركي ، وتحول السوريين بصورة لم يسبق لها مثيل نحو التخلص من الحكم العثماني .

وسيق من عاليه لدمشق للإعدام  كوكبة ثانية من القوميين العرب منهم عبد الحميد الزهراوي المفكر والسياسي الكبير الذي سبق أن رأينا عقلانيته واعتداله في بحثه عن الحقيقة والحوارات التي أجراها مع الإتحاديين هناك ، وتزكيته لهم بوصفهم بالإخلاص والميل لإعطاء العرب حقوقهم ، ورأيه في ضرورة منحهم الفرصة الكافية والإتفاق معهم ، ويعكس اعتقاله ثم إعدامه مدى الظلم والعمى السياسي الذي أصاب جمال باشا مما لايمكن ايجاد أي تبرير له مهما كان .

ومنهم شفيق المؤيد وعبد الوهاب الانكليزي وشكري العسلي والأمير عمر الجزائري ورفيق رزق سلوم وقد أعدموا جميعا في ساحة الشهداء بدمشق في 6 أيار عام 1916 .

غادر جمال باشا سورية في خريف عام 1917وكانت القوات البريطانية قد تقدمت نحو غزة ، أما العقبة فكانت قد سقطت بيد الأمير فيصل في واحدة من أهم المعارك التي خاضها ضد الجيش العثماني .

وفي تلك المرحلة تحولت أنظار الحركة القومية العربية في بلاد الشام نحو جيش الشمال الذي يقوده الأمير فيصل وبدأ التنسيق الذي لم يعد مقتصرا على الأفكار السياسية بل أصبح يتمحور حول الأعمال العسكرية وما يمكن تقديمه للجيش العربي الزاحف نحو الشمال من معلومات ودعم . وحين تقدم جيش الشمال باتجاه معان واتخذ فيصل هناك مقرا له أصبح طريق التواصل مع بلاد الشام مفتوحا إلى حد مقبول .

وإلى معان كانت يتوارد الثوار من بلاد الشام للإلتحاق بجيش الشمال بقيادة الأمير فيصل ، رغم بعض المخاطر التي كانت تعترض طريقهم بسبب بقاء المخافر والنقاط التركية هنا وهناك ، وبقاء ولاء بعض الوجهاء ورؤساء العشائر والموظفين  للدولة العثمانية .

أما الناشطون السياسيون الذين لاعهدة لديهم بالقتال ، أو بعض فئات السكان الذين باتوا مذعورين من حكم القبضة الحديدية لجمال باشا فقد توجهوا نحو الأمير فيصل لحمايتهم ريثما ينتقلون لمصر وقد كان للبعض منهم  خصوصا اللبنانيين  أقارب هناك .

اتخذ الأمير فيصل من الضباط والسياسيين  من بلاد الشام قادة عسكريين ومستشارين سياسيين منهم جودة الأيوبي القائد العسكري وفؤاد الغصين مستشاره الخاص  ونسيب السكري وهما من جمعية العربية الفتاة ، وفايز المؤيد ، وعين الأمير فيصل رستم حيدر رئيسا لديوانه ورفيق التميمي رئيسا لديوان أخيه زيد ، وتحسين قدري مرافقا خاصا له ، وهكذا كانت قيادة جيش الشمال تمتلىء بصورة متزايدة بالضباط والناشطين القوميين العرب من بلاد الشام .

أما الشريف حسين فقد استقدم المثقف والكاتب العربي الدمشقي محب الدين الخطيب والذي كان يعمل في إطار جمعية عربية تسمى الجامعة العربية أسسها رشيد رضا في مصر ، بعد اعلان ” الثورة العربية “

يقول محب الدين الخطيب في مذكراته إنه سافر إلى الحجاز مع نوري السعيد ، بينما تقول بعض الوثائق التي نشرها أمين سعيد إن أول قافلة من الجنود العرب غادرت السويس للالتحاق مع الشريف حسين كانت بتاريخ األأول من شهر آب 1916 وكانت تتألف من سبعة ضباط عرب منهم نوري السعيد .

وحين جاء محب الدين للحجاز قام بتأسيس مطبعة أميرية لحكومة الحجاز وإصدار جريدتها الرسمية ” القبلة ” وقد كان الخطيب يكتب أيضا المنشورات الموجهة إلى القبائل العربية في الحجاز والجزيرة عموما لشرح أهداف الثورة وتحريض شيوخ القبائل للانضمام للشريف حسين . وقد أصبح محب الدين

الخطيب محل ثقة الشريف حسين وساعده الأيمن خاصة لجهة نشر أفكار الثورة العربية والدعوة لها ، واستقدام الضباط  العرب لتنظيم الجيش العربي في الحجاز ومنهم عزيز المصري .

وكان لمحب الدين الخطيب اليد الطولى في إطلاع الشريف حسين على أفكار رجال الحركة العربية وخططهم وأمانيهم ، ومن جملة ذلك فكرة ألوان العلم العربي التي كانت العربية الفتاة قد أقرتها قبل الثورة ( كتاب محب الدين الخطيب ودوره في الحركة العربية – ص130 ).

وكما سبق ذكره في الفصل الخاص بالمعارك العسكرية فقد تقدم الجيش البريطاني بقيادة اللنبي وكذلك جيش الشمال بقيادة فيصل والشريف ناصر نحو دمشق بعد المعركة الفاصلة في مجيدو وانكسار القوات العثمانية وتراجعها نحو الشمال ، وبدخول دمشق انتهت مرحلة تاريخية وبدأت مرحلة أخرى .

************************************************

استنتاجات حول ” الثورة العربية الكبرى” والحركات القومية في بلاد الشام

نشأت ” الثورة العربية الكبرى ” في الحجاز كتمرد لشرافة مكة على الدولة العثمانية ، فشرافة مكة رغم ضعف القوى العسكرية التي كانت تحت تصرفها لكنها كانت عميقة الجذور الإجتماعية في الحجاز ، لأسباب تاريخية ودينية وقبلية ، لذلك لم تحاول الدولة العثمانية بعد  أن بسطت  سلطتها على الحجاز المس بامتيازات تلك المؤسسة شبه الملكية لمئات السنين ، واكتفت بضمان ولائها للدولة ، لكن العلاقة بين شرافة مكة والدولة العثمانية تبدلت بعد أن  أمسكت جماعة الإتحاد والترقي بالسلطة في استانبول ، ويبدو أن حكومة الإتحاد والترقي ذات التوجهات القومية والعلمانية الغربية لم تكن مقتنعة بمنح شرافة مكة تلك الامتيازات التي تجعلها سلطة موازية لسلطة الدولة في الحجاز ، فبدأت تسير بطريق دعم سلطة الوالي العثماني على الحجاز على حساب سلطة ونفوذ شرافة مكة . وعندما شعر الشريف حسين أن الأمور ستنتهي بسلبه حكم الحجاز وتصفية نفوذ مؤسسة شرافة مكة تولدت لديه فكرة الثورة واستقلال الحجاز بدعم وتشجيع من الحكومة البريطانية ، لكن عقد التخادم بينه وبين بريطانيا كان

يتضمن شرطا مقابل دعمه بالسلاح والمال وحتى بالقوى العسكرية والتدخل المباشر ، وهذا الشرط هو هو خدمة المجهود الحربي البريطاني ضد الدولة العثمانية التي أصبحت  في خانة الأعداء مع بدء الحرب العالمية الأولى.

ليس واضحا تماما  كيف ومتى تبدل هدف الثورة من استقلال الحجاز كماعبرعن ذلك إعلان الثورة في حزيران عام 1916 إلى هدف إنشاء دولة عربية تضم الجزيرة العربية والشام والعراق  ، لكن مراسلات حسين مكماهون اعتبارا من النصف لثاني لعام 1915 تضمنت ذلك الهدف على نحو تفصيلي بالتالي فربما يتوجب علينا الإقرار بوجود ذلك الهدف  بصورة مضمرة قبل اعلان الثورة عام 1916

وحسب العقلية البراغماتية للشريف حسين وابنه فيصل فتحقيق ذلك الهدف النهائي أي إنشاء دولة عربية كبرى يمكن أن يمر بمراحل ، وأول مراحله هو إعلان الحجاز مملكة عربية مستقلة ، ثم التطلع إلى توسعة تلك المملكة لتضم بلاد الشام والعراق وباقي الجزيرة العربية بالتحالف مع انكلترا وبمساعدتها العسكرية والسياسية .

وفي حين كانت بلاد الشام تزخر بالمفكرين والسياسيين القوميين العرب وتشهد نموا في المنظمات العلنية والسرية تحت مسميات الجمعيات ، وتتبلور مطالب تلك الحركات شيئا فشيئا باتجاه الاستقلال فقد كانت عاجزة عن إيجاد قوى عسكرية تستند إليها ، وقد رأينا كيف أن عبد الحميد الزهراوي قد فكر مبكرا بالاستناد إلى ” عرب الجزيرة العربية ” ، وبسبب بعد المسافة بين مركز الدولة العثمانية والحجاز وما كانت تتمتع به من استقلال ذاتي نسبي فقد أصبحت كما مصر ملجأ للناشطين الهاربين من بطش الحكومة الإتحادية وبعد أن أعلن الشريف حسين الثورة تطورت تلك العلاقة بسرعة إلى أن حدث نوع من الإندماج بين الثورة الحجازية والحركة القومية العربية وسمح ذلك بدخول الأمير فيصل لدمشق كمحرر ثم كملك عربي للملكة العربية السورية وسط ترحيب واسع النطاق .

لكن ارتباط ” الثورة العربية ” بالدوائر البريطانية كان قد وصل إلى مستوى لم يعد من خلاله بإمكان الشريف حسين أو الأمير فيصل أو أي من أولاده الإعتراض على الإرادة السياسية للدولة البريطانية العظمى التي تدخل جيشها مباشرة في المعارك ضد العثمانيين ، واستطاع ذلك الجيش بأسلحته المتطورة وقيادة الجنرال اللنبي تحطيم الجيش العثماني في المعركة الفاصلة التي حدثت في سهل مجيدو في فلسطين عام 1918وأدت إلى انسحاب الجيش العثماني نحو شمال بلاد الشام ثم بعد ذلك إلى داخل حدود تركيا الحالية .

وبينما كانت الحركة القومية العربية في بلاد الشام تهدف إلى الإستقلال التام وترحب بدولة عربية كبيرة واحدة تضم الجزيرة وبلاد الشام والعراق وتقف ضد أي إلحاق أو استعمار غربي ، فقد ظهر لاحقا الفرق بين طبيعة تلك الحركة بمجملها مع استثناء أقلية صغيرة داخل المسيحيين اللبنانيين الذين رحبوا بالإستعمار الفرنسي فيما بعد ، وبين قيادة ” الثورة العربية الكبرى” التي تورطت في علاقة ذات طابع  استراتيجي مع الدوائر البريطانية لاتترك سوى هامش محدود في الخيارات السياسية المصيرية .

يقول البرت حوراني في كتابه ” الفكر العربي في عصر النهضة ” حول موقف فريق من اللبنانيين الموارنة : ” …لذلك نادوا باستقلال لبنان التام تحت الحماية الفرنسية ، على أن توسع حدوده وتكون بيروت عاصمته ” – الفكر العربي في عصر النهضة – ص 345

فبعد أن هلل العرب السوريون لدخول جيش الشمال العربي لدمشق وللأمير فيصل الذي أصبح لاحقا ملك المملكة العربية السورية  وتفتحت أمانيهم وانتعشت أحلامهم بالإستقلال والوحدة العربية عادت  فتحطمت بعد سنتين حين طلبت انكلترا من الملك فيصل مغادرة دمشق والإذعان لإنذار الجنرال الفرنسي غورو القادم بجيشه من لبنان للإستيلاء على سورية حصة فرنسا كما رسم اتفاق سايكس بيكو.

وبدلا من أن يرفض الملك فيصل تلك الأوامر بشرف ويختار المقاومة دفاعا عن مملكته وعن وطنه  ، كما فعل وزير الدفاع يوسف العظمة ، اختار الانصياع للإرادة البريطانية والتخلي عن منصبه والخروج من سورية  نحو أوربة لأجل مراجعة الحكومة البريطانية ، والتشكي  لها من التجاوزات التي قامت بها فرنسا في اقتحام الجيش الفرنسي دمشق والمدن السورية وفرضه شروط استسلام على سورية ، بما في ذلك التصميم على إنهاء المملكة العربية السورية وخروج فيصل من سورية .

طلبت انكلترا من الملك فيصل عدم مواجهة الفرنسيين إطلاقا ، وتهدئة الشعب السوري ، في تفاهم سياسي مع فرنسا لتنفيذ اتفاق سايكس بيكو ، وهنا كان أمام الملك فيصل خياران : إما الدفاع عن مملكته الوليدة والانضمام لصفوف الوطنيين السوريين في رفض الانتداب الفرنسي والشروع بمقاومة ذلك الاحتلال أو الخضوع للسياسة البريطانية التي عمل معها ومن خلالها طيلة السنوات الماضية ، وترك سورية لمصيرها والذهاب لأوربة لمراجعة الموقف مع الحكومة البريطانية وتحصيل مايمكن تحصيله والتذكير بالخدمات التي قدمتها الأسرة الهاشمية والعهود التي قطعتها بريطانيا للشريف حسين في مراسلاته مع مكماهون .

لكن فيصل  لم يتردد في الذهاب للخيار الثاني ، فملك سورية بالنسبة له هو وظيفة وجائزة ، وسورية ليست كل شيء ، فهناك أسرته الهاشمية ، وهناك مملكة الحجاز ، فإذا سلبت منه سورية فالأمل أن انكلترا لن تتخلى عنه ، وستعوضه عنها ، ولديه في الدولة البريطانية أصدقاء نافذين وفي مقدمتهم لورنس ، وغيرترود بل ، والجنرال اللنبي وغيرهم .

كتب فيصل إلى لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا بعد خروجه من دمشق إلى حيفا ثم ايطاليا رسالة معبرة أقتطف منها التالي :

قصر ايشتي – ايطاليا – 11 ايلول – 1920

” لحضرة المستر لويد جورج رئيس الوزارة الانكليزية المحترم : “

“إن الأعمال غير الشرعية التي قامت بها فرنسا في سورية قد اضطرتني للسفر لأوربة موفدا من قبل والدي الملك حسين لأعرض القضية العربية مرة أخرى أمام حكومة صاحب الجلالة “

” فالأعمال التي قامت بها فرنسا ( يقصد احتلال سورية عسكريا ) تشكل خرقا لمعاهدة فرساي فقد أخذت فرنسا من العرب المنطقة الوحيدة التي تضم المدن العربية خلا الجزيرة العربية ، وجعلت موقف عائلتنا أمام العالم الاسلامي عامة والعالم العربي خاصة موقفا لايمكن لعائلة احتماله ، فعائلتي هي العائلة القائدة في جزيرة العرب “

” ثم إذا سافرت أنا لباريس في شهر تشرين  أول السابق وسعيت للمفاوضة مع الحكومة الفرنسية وعدت لسورية أحمل أحسن الرغائب للتفاهم مع الفرنسيين ، ثم سعيت أن أجعل الشعب هادئا وأحول بينه وبين مهاجمة الفرنسيين عندما كانوا ضعفاء في سورية وكانت المصاعب في مملكتي تكتنفهم من كل حدب وصوب ، ولم يكن لديهم في سورية سوى حامية تتألف بعض الأحيان من ألف رجل ، إذا أنا فعلت هذا كله ، فإنما فعلته كي أستطيع أن أقول ذات يوم للدولة التي أعطتني كلمتها أني نفذت التعليمات التي تلقيتها بكل دقة ” !

” فقد كانت الكتب الرسمية التي تصلني من اللورد اللنبي تصر علي ملحة ألا أتخذ موقفا عدائيا من الفرنسيين ، حتى إنني قد تلقيت برقية من اللورد كرزون قبل احتلال دمشق بثلاثة أيام يطلب فيها إلي بالحاح أن لا أتخذ أي موقف عدائي . ولهذا لم أفكر قط محاربة الفرنسيين ومقاومتهم ، الأمر الذي كان يجعل موقف الفرنسيين في سورية صعبا للغاية لو أقدمت عليه ، وفوق هذا فقد كنت أقبل دوما شروط الفرنسيين رغم أنها مستحيلة ، أملا أن أسافر فيما بعد إلى أوربة وأسوي المسألة فيها “

جاء أيضا في المذكرة التي رفعها الملك فيصل إلى الحكومة البريطانية بعد خروجه من  سورية التالي : ” أنا أعتقد من كل وجهة من وجهات النظر أن احتلال دمشق كان غير شرعي ، فقد أيد مؤتمر الصلح في اجتماعاته الأولى إيكال أمر إدارة المنطقة الشرقية إلي وهي الادارة التي كنت استلمت زمامها منذ الهدنة تحت سلطة الجنرال اللنبي كما اعترف بذلك ضمنا في 15 أيلول عام 1919 في  المذكرة التي أرسلها مستر لويد للمسيو كليمنصو ولممثلي الدول العظمى ولي شخصيا ، إذن ليس لأي قائد فرنسي الحق أن يسلبني هذا المركز ” – مذكرات الملك فيصل – ص 37

ومعنى ماسبق أن اتفاقا تم في مؤتمر الصلح على أن تمنح فرنسا المنطقة الساحلية لبلاد الشام من الحدود التركية وحتى فلسطين مقابل ترك المنطقة الداخلية من بلاد الشام التي أشارت إليها المذكرة أعلاه بالمنظقة الشرقية للادارة الانكليزية أو من تفوضه تلك الادارة ، وأن الملك فيصل كان موافقا على ذلك وحسب اعتقاده فقد كانت الحكومة الفرنسية ملتزمة بذلك أيضا ، بالتالي فقد حدث خرق الاتفاق بزحف غورو نحو دمشق ، لكن الملك فيصل بقي لديه أمل في ردع الأعمال التي قام بها غورو وأن تضغط الحكومة البريطانية على الحكومة الفرنسية لاعادة الوضع إلى ماكان عليه وحسب الاتفاق ، لكن الأمور كانت تسير باتجاه مختلف تماما .

جاء في كتاب ” محب الدين الخطيب الآتي : ” عقب إذاعة نبأ اتفاق انكلترا وفرنسا على إحلال الجيوش الفرنسية محل الجيوش الانكليزية في المنطقة الغربية من سورية وكذلك كيليكية أذاع المؤتمر السوري بيانا إلى الشعب أعلن فيه أن واجب الأمة التي يمثلها في أمانيها ورغائبها يقضي عليها بالدفاع عن وحدتها واستقلالها وشرف قومها إلى آخر نسمة فيها “

حدث ذلك قبل إنذار غورو ونجم عنه حدوث اختلاف بين الملك فيصل والمؤتمر السوري .

” وتطورت الأحداث باتفاق فيصل كليمنصو وعودته لدمشق ..ويفسر محب الدين الخطيب سبب العداوة التي أظهرها له الملك فيصل أن فيصل باتفاقه مع كليمنصو أصبح في موقف يتنافى مع إيمان الرأي العام السوري ” – كتاب محب الدين الخطيب – ص 145

ولعل ذلك يلقي ضوءا على الأسباب الحقيقية التي دفعت الملك ومعه قسم من الإرستقراطية السورية للموافقة على إنذار غورو بما في ذلك تسريح الجيش فورا .

لقد مثلت نهاية المملكة العربية السورية ودخول الجيش الفرنسي دمشق  فاجعة كبيرة وخيبة أمل للسوريين العرب ، وهي تعيد للحياة ما حذر منه الأمير شكيب أرسلان ، وما تجاهله أو غفل عنه أركان الحركة القومية العربية في بلاد الشام حين لم يعطوا لخطر الإستعمار الغربي حجمه الحقيقي بينما انصرف كل تفكيرهم وعملهم للتخلص من ظلم حكومة الإتحاد والترقي العثمانية ونسوا الذئاب الاستعمارية التي تقف خلف الأبواب  مترصدة فرصتها للانقضاض على المنطقة العربية وتمزيقها شر ممزق .

ملاحظة : نص رسالة الملك فيصل إلى الحكومة البريطانية من كتاب ” أوراق الملك فيصل ” للكاتب محمد يونس العبادي – 2014

ملحق

معاهدة فيصل – وايزمان

 

إن الأمير فيصل ممثل المملكة العربية الحجازية والقائم بالعمل نيابة عنها والدكتور حاييم وايزمن ممثل المنظمة الصهيونية والقائم بالعمل نيابة عنه، يدركان القرابة الجنسية والصلات القديمة القائمة بين العرب والشعب اليهودي ويتحقق أن أضمن الوسائل لبلوغ غاية أهدافهما الوطنية هو في اتخاذ أقصى ما يمكن من التعاون سبيل تقدم الدولة العربية وفلسطين ولكونهما يرغبان في زيادة توطيد حسن التفاهم الذي بينهما فقد اتفقا على المواد التالية:

1 – يجب أن يسود جميع علاقات والتزامات الدولة العربية وفلسطين أقصى النوايا الحسنة والتفاهم المخلص وللوصول إلى هذه الغاية تؤسس ويحتفظ بوكالات عربية ويهود معتمدة حسب الأصول في بلد كل منهما.

2 – تحدد بعد اتمام مشاورات مؤتمر السلام مباشرة الحدود النهائية بين الدول العربية وفلسطين من قبل لجنة يتفق على تعيينها من قبل الطرفين المتعاقدين.

3 – عند إنشاء دستور إدارة فلسطين تتخذ جميع الإجراءات التي من شأنها تقديم أوفى الضمانات لتنفيذ وعد الحكومة البريطانية المؤرخ في اليوم الثاني من شهر نوفمبر سنة 1917.( وعد بلفور )

4 –  يجب أن تتخذ جميع الإجراءات لتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين على مدى واسع والحث عليها وبأقصى مايمكن من السرعة لاستقرار المهاجرين في الأرض عن طريق الإسكان الواسع والزراعة الكثيفة. ولدى اتخاذ مثل هذه الإجراءات يجب أن تحفظ حقوق الفلاحين والمزارعين المستأجرين العرب ويجب أن يساعدوا في سيرهم نحو التقدم الاقتصادي. (يتكلم هنا عن حقوق الأجور للعمال الزراعيين العرب وليس عن حقوق الفلسطينيين بأرضهم ووطنهم !)

5 –  يجب أن لا يسن نظام أو قانون يمنع أو يتدخل بأي طريقة ما في ممارسة الحرية الدينية ويجب أن يسمح على الدوام أيضا بحرية ممارسة العقيدة الدينية والقيام بالعبادات دون تمييز أو تفضيل ويجب أن لا يطالب قط بشروط دينية لممارسة الحقوق المدنية أو السياسية.

6 – إن الأماكن الإسلامية المقدسة يجب أن توضع تحت رقابة المسلمين.

7 –  تقترح المنظمة الصهيونية أن ترسل إلى فلسطين لجنة من الخبراء لتقوم بدراسة الإمكانيات الاقتصادية في البلاد وأن تقدم تقريرا عن أحسن الوسائل للنهوض بها وستضع المنظمة الصهيونية اللجنة المذكورة تحت تصرف الدولة العربية بقصد دراسة الإمكانيات الإقتصادية في الدولة العربية وأن تقدم تقريرا عن أحسن الوسائل للنهوض بها وستستخدم المنظمة الصهيونية أقصى جهودها لمساعدة الدولة العربية بتزويدها بالوسائل لاستثمار الموارد الطبيعية والإمكانيات الاقتصادية في البلاد.

8 –  يوافق الفريقان المتعاقدان أن يعملا بالاتفاق والتفاهم التامين في جميع الأمور التي شملتها هذه الاتفاقية لدى مؤتمر الصلح.

9 – كل نزاع قد يثار بين الفريقين المتنازعين يجب أن يحال إلى الحكومة البريطانية للتحكيم .

وقع في لندن، إنجلترا في

اليوم الثالث من شهر كانون ثاني سنة 1919.

اي أن اتفاق حاييم وايزمان رئيس الحركة الصهيونية وفيصل بن الحسين تم قبل عقد مؤتمر الصلح وأثناء التحضير لذلك المؤتمرفهو تبرع من فيصل بن الحسين للحركة الصهيونية بالتعهد بدعمها في سعيها لتوطين اليهود وجلبهم لفلسطين واعتراف والتزام بوعد بلفور بحيث لانبالغ إذا قلنا إن وعد بلفور يجب أن يعدل ليسمى وعد بلفور – فيصل .

تظهر تلك المذكرة حقيقة المعايير التي تحكم تفكير وسلوك الأسرة الهاشمية ، ويبدو أن التمسك بالأرض الفلسطينية والحرص على هويتها العربية الاسلامية بما في ذلك المقدسات الاسلامية فيها ( المسجد الأقصى ) لايحتل أي مكان ذي أهمية مقابل شراء الدعم لمشاريع الممالك والعروش .

وللإنصاف فلم يسجل مثل ذلك الموقف للشريف حسين ولربما كان هذا سببا في حجب الدعم الانكليزي عنه في الحجاز مما أدى لعزله ونفيه خارج مملكته ، في حين تعزز دعم ابنه فيصل وكوفىء بتنصيبه ملكا على العراق .

ولابد للمرء من أن يستحضر هنا موقف السلطان عبد الحميد المشهور من طلب المنظمة الصهيونية السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين وإعطائهم حق تملك الأراضي حين رفض رفضا قاطعا مثل ذلك الطلب رغم الاغراءات المالية الهامة التي قدمت للدولة العثمانية حين كانت ترزح تحت الديون .

**************************************************

 

فهرس الأعلام والشخصيات الواردة في هذا البحث

1 – كريستيان سنوك هرخرونييه:

البروفسور كريستيان سنوك هرخرونييه الأستاذ في جامعة ليدن – هولندا  والمستشار لوزارة المستعمرات الهولندية وأحد المستشرقين في دراسة الاسلام ، ولد في 8 شباط عام 1857 في هولندا وتوفي في 26 حزيران عام 1936 ، وأثناء فترة تدريسه كمحاضر في جامعة ليدن بين العام 1880 والعام 1889 زار سنوك هرخرونييه الجزيرة العربية بين العام 1884 والعام 1885 واستقر لفترة في مكة .

كتب مؤلفه الكلاسيكي حول تاريخ مكة بعنوان ” مكة ” بين الأعوام ( 1888-1889) في مجلدين يتناول الأول تاريخ مكة منذ فجر الاسلام ، كما يتناول الدين الاسلامي ، والتقاليد والشعائر الاسلامية، والمجتمعات الإسلامية الأولى . بينما يتناول الجزء الثاني (نشر عام 1931)  مكة في أواخر القرن التاسع عشر ، ويتضمن تفاصيل عديدة للحياة اليومية بمكة في ظل الثقافة الاسلامية ، كما يدرس حالة الجماعة الأندنوسية المقيمة في مكة  ، وبين عامي 1890-1906 اهتم سنوك إضافة لعمله الأكاديمي بوضع أسس السياسة الهولندية تجاه الإسلام خاصة في المستعمرة الأندنوسية كمستشار لوزارة المستعمرات .

وقد ظلت أفكاره معتمدة في وزارة المستعمرات حتى انتهاء الحكم الهولندي لأندنوسيا عام 1942 .

وكملاحظة تستحق الوقوف قليلا عندها فقد تمكن سنوك من دخول مكة والإقامة فيها ودراسة شعائر الحج بعد أن ادعى الاسلام ، ولقي من الوالي العثماني الدعم لكن الوالي حرص على أن يقوم عدد من رجال الدين باختبار إسلام سنوك قبل السماح له بدخول مكة عام 1885، وبالطبع فقد نجح أستاذ اللغة العربية في جامعة ليدن في الإمتحان .

كتب سنوك إلى صديقه الباحث الألماني كارل بيزولد يشرح له أنه ادعى الاسلام ليتمكن من دخول مكة والإقامة فيها في 18 شباط 1886ورسالته تلك محفوظة في مكتبة جامعة هيدل بيرغ .( المرجع : (https://en.wikipedia.org/wiki/Christiaan_Snouck_Hurgronje#cite_note-munafik-2)

2 – الشريف حسين :

ولد الشريف حسين بن علي عام 1845 في إسطنبول بالدولة العثمانية وتوفي في عمان بالأردن عام 1931.

تسلم الامارة على مكة بين عامي 1908 و1916 ثم  بعد ” الثورة العربية الكبرى ” ملكا على الحجاز بين عامي 1916 و1924.

مثل حسين في مؤتمر فرساي للسلام ابنه الثالث فيصل، لكنه رفض التصديق على معاهدة فرساي (1919)، رافضاً الانتداب على سوريا وفلسطين والعراق من قبل فرنسا وبريطانيا.

بعد أن نجحت قوات آل سعود في دخول الطائف ومكة عام 1924. وفي 5 أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام تنازل الشريف حسين بن علي عن العرش لنجله الأكبر علي، وقد نقله البريطانيون إلى قبرص.

وعاش الشريف حسين بن علي في قبرص حتى عام 1930، ثم عاد ليعيش مع ابنه عبد الله في شرق الأردن حيث توفي عام 1931.

وللحسين بن علي 4 أبناء هم علي وعبدالله وفيصل وزيد.

3 – الملك فيصل بن الحسين

ولد فيصل بن الحسين عام 1883 وتوفي عام 1933 ودفن في بغداد .

ثالث أبناء الشريف حسين وأكثرهم شهرة وطموحا .

تسلم قيادة جيش الشمال العربي أحد جيوش الشريف حسين بعد إعلان ” الثورة العربية ” في الحجاز .

خاض العديد من المعارك ضد الجيش العثماني أشهرها معركة العقبة التي استولى فيها على ميناء العقبة وهزم الحامية العثمانية المرابطة فيه .

عرف فيصل بن الحسين بولائه التام للحكومة البريطانية ورافقه باستمرار كمستشار شخصي  ضابط الاستخبارات البريطاني الشهير توماس ادوارد لورنس .

حكم سورية كأمير بعد انسحاب العثمانيين عام 1918 ثم تم تنصيبه ملكا على سورية من قبل المؤتمر السوري في آذار عام 1920 .

غادر دمشق بعد دخول الجيش الفرنسي في تموز 1920 واختارته بريطانيا بعد ذلك ليكون ملكا على العراق حتى وفاته عام 1933 .

له خمسة أولاد بينهم الأمير غازي الذي أصبح فيما بعد مملكا على العراق والأمير محمد وعزة وراجحة ورئيفة .

توماس ادوارد لورنس  – 4

الكولونيل توماس ادوارد لورنس ( 1888 – 1935 )

ضابط استخبارات بريطاني عمل بمهمة للجيش البريطاني لتشجيع الشريف حسين على الثورة ضد الدولة العثمانية وتأمين المساعدة العسكرية والمالية الضرورية ولاحقا لمساعدة جيوش الحلفاء في المعارك ضد العثمانيين في فلسطين وسورية .

رافق الأمير فيصل بن الحسين باستمرار كمستشار شخصي ، وبعد دخول الحلفاء والأمير فيصل لدمشق ضعف نشاطه وانسحب لاحقا من الحياة العامة عام 1922 وأمضى بقية حياته في خدمة سلاح الجو الملكي البريطاني .

الضابطة غيرترود بل ( 1868 -1926  )  –  6

السيدة غيرترود مرغريت لوثيان بل هي ضابطة بريطانية برتبة ميجور ، عملت لصالح قسم الاستخبارات في الجيش البريطاني ، بدأ اهتمامها بالمنطقة العربية منذ العام 1899 حين قامت بزيارة استكشافية للمشرق العربي ودرست بعمق ديمغرافية بلاد الشام والعراق وشمال الجزيرة العربية ، وساعدها في ذلك معرفة اللغة العربية والأدب والتاريخ العربيين ، إلى جانب اهتمامها التقليدي بالآثار .

ثم عادت ثانية كمستشارة شخصية للأمير فيصل ، ولعبت أهم أدوارها في رسم حدود الدول التي سوف ترثها بريطانيا وفرنسا عن الدولة العثمانية ( تركة الرجل المريض ) ثم في إنشاء المملكة العراقية وتنصيب فيصل ملكا عليها ، وكان لها حضور قوي في كواليس قصور السلطة في بغداد كما في الحياة الاجتماعية والثقافية هناك وبقيت في بغداد بعد ذلك حتى وفاتها .

لم تتزوج السيدة غيرترود بل وتوفيت منتحرة بتناول كمية مميتة من المهدئات. ودفنت في بغداد .

السير ادموند اللنبي ( 1861 – 1936 ) – 7

الفيلد مارشال أدموند هنري هاينمان اللينبي  : من أبرز العسكريين البريطانيين في الحرب العالمية الأولى ، نال شهرته من انتصاره في معارك فلسطين ضد الجيش العثماني خاصة في معركة غزة الثالثة ومعركة سهل مجيدو التي تقرر فيها مصير الوجود العثماني في بلاد الشام .

 

عبد الحميد الزهراوي ( 1871 – 1916)  – 8

من أهم المفكرين والسياسيين القوميين العرب ولد في مدينة حمص بسورية لعائلة متدينة يقال إن لها نسب يمتد للحسين بن علي ، كان عبد الحميد علما من أعلام النهضة العربية ، كتابة ونشاطا سياسيا وفكريا ، كان يمثل الجناح العقلاني المعتدل ضمن الحركات القومية العربية ، كان في وقته من أهم القادة لجمعية اللامركزية التي مقرها مصر ، وترأس مؤتمر باريس أول تجمع منظم للحركات القومية العربية والذي صدر عنه أول برنامج عمل مشترك للحركة القومية العربية على اختلاف تنظيماتها ، انتخب مع خالد البرازي مبعوثين عن لواء حماة إلى مجلس المبعوثان  وبعد مؤتمر باريس والحوار الذي تم مع حكومة الاتحاديين عينته حكومة الاتحاديين في مجلس الأعيان اعترافا بمكانته السياسية واعتداله ، ومن خلال مشاركته في المجلس حاول الزهراوي تطبيق سياسته بالاصلاح من داخل الحكم ، وتحمل من أجل ذلك الكثير من نقد المتطرفين ، ومن مهازل القدر أن يجلب ذلك السياسي الوطني المعتدل من مجلس الأعيان للمحاكمة في عاليه فقط لكونه على صلة بحزب اللامركزية ويتم اعدامه بمحاكمة صورية . رحم الله شهيد الحرية والنهضة العربية .

الدكتور أحمد قدري  -9

أحمد بن عبد القادر قدري : ( 1893 – 1958 )

سياسي وطبيب سوري وشخصية نهضوية بارزة ، ولد بدمشق وكان والده ضابطا في الجيش العثماني ، درس الطب في استانبول ثم باريس ، أحد القوميين العرب الذين أسسوا جمعية العربية الفتاة سرا في استانبول عام 1908 بعد اعلان الدستور العثماني ، وربما كانت مجرد فكرة جامعة في البداية ثم تبلور هيكلها التنظيمي ودستورها لاحقا في 1911 ، وهو أحد أهم الناشطين السياسيين من أجل منح العرب حقوقهم السياسية والثقافية ضمن الدولة العثمانية في البدء ، شارك في تنظيم المؤتمر العربي الأول في باريس 1913 وأصدر جمال باشا أمر باعتقاله فاعتقل لمدة شهرين ثم خرج حين لم يتوفر لدى المحكمة دليل لادانته ، واستمر في نشاطه السياسي السري في جمعية ( العربية الفتاة ) في دمشق حتى وصل جيش الشمال العربي إلي معان واتخذ منها مقرا له ، فالتحق به هناك ، وبقي مرافقا له طبيبا خاصا وعاملا في حقل السياسة الوطنية .

وحين غادر فيصل دمشق بعد دخول الجيش الفرنسي صحبه في البداية الدكتور أحمد قدري ثم انفصل عنه مغادرا إلى مصر وافتتح عيادة طبية وجلب عائلته إلى مصر ، وحين تأسست الدولة العراقية وتولى الحكم فيها الملك فيصل استدعى أحمد قدري كمستشار سياسي ثم قنصلا للعراق في مصر عام 1930 ، وأخيرا وبعد فاة الملك فيصل ، عاد أحمد قدري لدمشق وعينه صديقه شكري القوتلي رئيس سورية أمينا عاما لوزارة الصحة حتى إحالته على المعاش وتوفي بدمشق سنة 1958 .

10 – محب الدين الخطيب ( 1886 – 1969 )

جاء في الموسوعة العربية : الويكيبيديا عن محب الدين الخطيب الآتي :

” محب الدين بن أبي الفتح بن عبد القادر بن صالح بن عبد الرحيم بن محمد الخطيب، أصل أسرته من بغداد من ذرية الشيخ عبد القادر الجيلاني. هاجرت أسرته إلى حماة في بلاد الشام، ونزح فرع منها إلى قرية “عذراء” وفريق إلى دمشق ” .

علم من أعلام النهضة ، ولد بدمشق وتعلم فيها وباستانبول ، مثقف وكاتب ومفكر عربي – اسلامي ، التحق بالشريف حسين عام 1916 في مكة وحرر هناك جريدة ” القبلة” وكان موضع ثقة الشريف حسين ومستشاره الخاص ومندوبه إلى رؤساء القبائل ، حكم عليه جمال باشا بالإعدام غيابيا ، عاد إلى دمشق بعد خروج العثمانيين منها ، وعمل في تحرير جريدة ” العاصمة ” ويمثل محب الدين الخطيب الخط الوطني الأقرب لنبض الشعب السوري ، وإرادته الحرة ، التي لم تتفق مع سياسة الأمير فيصل المهادنة لفرنسا  ،وبعد دخول الفرنسيين هرب إلى مصر إذ كان مطلوبا للمحاكمة من قبل ادارة الاحتلال الفرنسي لمواقفه الوطنية ، وفي مصر أشرف على نشر عدد كبير من كتب التراث .

الجنرال غورو  ( 1867 – 1946 )  -11

هنري جوزيف أوجين غورو ضابط فرنسي قاد الجيش الفرنسي في نهاية الحرب العالمية الأولى ضد الأتراك ، كان من أنصار النظرية العسكرية الفرنسية القائمة على ” الهجوم حتى الابادة ” اشتهر بكونه المندوب السامي للانتداب الفرنسي على سورية وبكونه من تولى إعلان دولة لبنان الكبير بعد ضم أربعة أقضية من سورية إلى متصرفية جبل لبنان ، جرت محاولة لاغتياله من قبل البطل الشعبي أدهم خنجر ، لكنها فشلت ، وعلى إثرها لجأ أدهم إلى سلطان باشا الأطرش لكن الجيش الفرنسي استغل غياب سلطان باشا الأطرش وقام باعتقاله ، وقد سبب ذلك انطلاق الثورة في جبل العرب وفي سورية عموما .

ويذكر أنه أصر على اقتحام دمشق بجيشه رغم قبول الملك فيصل وحكومته للانذار الذي وجه إليهم عام 1920 لتفادي اقتحام المدينة عسكريا وما يمكن أن ينجم عن ذلك .

كما ينسب له قوله عند قبر صلاح الدين الأيوبي بدمشق ” هاقد عدنا ياصلاح الدين ” وهو خبر واسع الانتشار لكنه غير مؤكد حتى الآن .

**************************************

الفهرس :

1 – مدخل

2 – الفصل الأول : شرافة مكة .

3 – الفصل الثاني : قراءة في  إعلان الشريف حسين الثورة على حكم الدولة العثمانية.

4 – الفصل الثالث : قراءة في مراسلات حسين مكماهون .

5 – الفصل الرابع : لورنس و” الثورة العربية الكبرى “.

6 – الفصل الخامس : غيرترود بيل .

7 – الفصل السادس : المعارك العسكرية لثورة الشريف حسين .

8 – الفصل السابع : سيناريو افتراضي مختلف للتحالفات العسكرية والسياسية للعرب مع الحلفاء.

9 – الفصل الثامن : ” الثورة العربية الكبرى ” والحركات القومية في بلاد الشام .

10 – الفصل التاسع : القوميون العرب و”الثورة العربية الكبرى” بعد إعلان الشريف حسين الثورة عام  1916.

استنتاجات حول ” الثورة العربية الكبرى” والحركات القومية في بلاد الشام. – 11

ملحق : اتفاقية حاييم وايزمان – فيصل.  – 12

13- فهرس أهم الأعلام والشخصيات الواردة في البحث .

مراجع البحث :

1 –  كتاب ” الثورة في شبه الجزيرة العربية ” بحث

للبروفسور سنوك هرخرونييه – طبع في نيويورك ولندن – 1917

2 –  مراسلات حسين مكماهون – مؤسسة الدراسات الفلسطينية .

3  – كتاب : خط في الرمال – تأليف جيمس بار ترجمة سلافة ماغوط

4 – كتاب : تاريخ الحجاز – حسين ناصيف

5 – كتاب أعمدة الحكمة السبعة – ادوارد لورنس

6 –  كتاب تاريخ الدولة العثمانية – شكيب أرسلان

7 – كتاب : محي الدين الخطيب ودوره في الحركة العربية – د. محمد عبد الرحمن برج

8 – كتاب ادوارد لورنس : ثورة في الصحراء .

9 – كتاب : مذكراتي عن الثورة العربية الكبرى – الدكتور أحمد قدري .

10 –  جريدة الإيكونومست البريطانية بتاريخ 7 أيلول 1906

11- كتاب ” الصحراء والمعمورة ” غيرتريد بل ترجمة الدكتور عادل زكار

12 – كتاب : الفكر  العربي في عصر النهضة – البرت حوراني

13 – كتاب : مذكرات طه الهاشمي

14 –  موسوعة المعارف البريطانية بريتانيكا

15 –  كتاب أوراق الملك  فيصل – محمد يونس العبادي

16 – مكتبة الكونغرس ( صورة تاريخية لإعلان الثورة العربية – 1916 )

17 – الوكيبديا العربية .

0
0

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى