قراءة في رواية: الفئران

أحمد العربي

حميد العقابي روائي وشاعر عراقي مستقر في الدنمارك منذ ١٩٨٥م. هذا أول عمل روائي أقرأه له.

الفئران رواية تعتمد اسلوب السرد بلغة المتكلم على لسان شخصيتها الأساسية. مكان الحدث هو أحد السجون السياسية في بلد عربي ما. المتحدث سجين محكوم عليه بالسجن المؤبد، يصف عبر الرواية حالته وحالة السجن والسجناء المتعاقبين على السجن بشكل دائم.

صاحبنا السجين يتحدث عن انه لا يعلم لماذا اعتقل، وأنه مثل كثيرين من السجناء احضروا إلى السجن وليس بالضرورة أن هناك سببا ما لإعتقاله وسجنه. انه في بلد الحاكم فيه هو القائد الأب المهيمن المقدس المسيطر على البلاد والعباد، يفعل ما يشاء، وليس أمام الناس – كل الناس –  الا ان تسبّح بحمده وتشكره، كإله على الأرض وفوق رقاب هذا الشعب. صاحبنا يحكي ان البلاد قد خرجت حديثا من حرب استمرت سنوات مع إحدى دول الجوار (يفهم ضمن السياق أنها الحرب العراقية الايرانية)،  وأن السلطة قد تنازلت عن جزء من الأرض للجار العدو، وانه سقط في هذه الحرب الكثير من الشهداء سواء الجنود أو الشعب  وهم بمئات الآلاف وان الخسارة الاقتصادية المصاحبة للحرب أعادت الناس إلى الفاقة والفقر هذا غير المصابين والمعاقين والأرامل والأيتام والأسر التي فقدت معيلها، علما ان البلاد غنية بالنفط وموارد اخرى كثيرة، مع ذلك توّج القائد الحاكم نفسه بطلا على غرار صلاح الدين الأيوبي. هذا القائد الذي يتحكم بحياة الناس عبر اجهزته الامنية وجيشه وقمعه جعل الشعب قطيعا وكل فرد فيه يصمت عن كل ما يعيش حفاظا على الحياة خارج السجون والمعتقلات. مع ذلك كان النظام يعتمد على السجون والمعتقلات كأحد مراكز تدريب وتأهيل أفراد الشعب على الطاعة والذل والعبودية وتقبل كل شيء في الدنيا، والانحناء لكل الظروف للاستمرار في الحياة في هذه الظروف. لذلك لم يكن غريبا ان يُعتقل صاحبنا دون أن يكون مسيّسا، ولا يُحسب على المعارضة، ولم يكن له أي نشاط مشبوه، مع ذلك اعتقل وأودع السجن، وبدأ يعيش التعذيب والإذلال و الضرب و الاساءة. يضعنا صاحبنا المسجون في اجواء غرائبية عن السجن وما عاش فيه من أهوال. لقد امتهن السجناء جميعا، جسديا ونفسيا بحالة قاسية جدا جعلتهم يستسلموا لما هم فيه، خوفا من الأسوأ، لأن هناك دائما الاسوأ. هناك دائما مجموعة من الجنود المدججين بالسلاح يقودهم عريف فظ يعذبهم دون كلل او ملل. ومن مستجدات ما حصل مع صاحبنا ومجموعة من السجناء، انه تم اختيارهم ليكونوا ضحية تجارب يقوم عليها السجانين والمسؤولين عنهم، لاكتشاف درجة تحمّلهم، وقدرتهم على الصمود، وكيف يتم هدر انسانيتهم بالكامل. اجتمع بهم مسؤول عسكري كبير، واخبرهم انه تم اختيارهم بارادة القائد العظيم ليكونوا فئران تجارب لخدمة مصلحة الوطن والقائد، وانهم محظوظون بذلك. بدأت التجارب عليهم عبر عزلهم في غرفة سجن كبيرة بأسرّة طابقية على الصفين، غذائهم قطعة جبن صغيرة يوميا لكل واحد منهم ترمى من سقف الغرفة، لذلك هم ضحية جوع دائم. شروط الحياة والنظافة سيئة جدا. ينتشر بينهم البق والقمل والجرب وامراض اخرى. يتبارون بكمية القمل التي يفقصونها كل على حدى، دربوهم على استجابات إلى أوامر عسكرية مقترنة بحركات الكلاب و مصحوبة بالعواء لمزيد من الإذلال. وضعوهم في شروط حرمان جسدي جعلهم يتقبلون  أن يلوط بعضهم ببعضهم، وبعلنية مقرفة. وتحضر جنديات يظهرن اجسادهن باشكال وحالات مختلفة، لمزيد من الاغراء والحرمان والإذلال. الغوا اسماءهم الحقيقية وأطلقوا عليهم أسماء حيوانات. صاحبنا كان اسمه الواوي، هناك الفهد والثعلب والحمار والقرد والخفاش…الخ. يحصل التعذيب الجسدي كل الوقت، تحت اعتبارات وهمية والمقصود إيصالهم لمرحلة الطاعة والتسليم الكامل. طالبوهم بالاساءة اللفظية والسلوكية لبعضهم البعض، هناك من لم يستجب، أولئك عذّبوا بقسوة حتى يستسلموا و ينفذوا المطلوب منهم. لقد تجرعوا المهانة والاذلال وفقدان الاعتبار الذاتي حتى لأنفسهم. السجانون يأخذون البعض دون عودة، وإن عاد البعض فقد كانوا ذاهلين من هول ماعاشوا، البعض يموت تحت التعذيب او من شروط الحياة السيئة، الموتى يوضعون في أكياس القمامة ويأخذهم الجنود الى جهة لا يعلمها السجناء. استدعي صاحبنا الى غرفة فيها ضابط كبير، أُخذ تحت الضرب والاهانة والاساءة. دخل واجهه ضابط كبير بجواره مطرقة تدل على أنه قاضي، وسأله بفظاظة هل تقر بذنوبك ؟!!. أجاب مستغربا عن أية ذنوب تتحدث ؟!!، صرخ الضابط بمرافقي صاحبنا من الجنود، إنه لم يتأهل بعد ؟!!، وحكم عليه بالسجن المؤبد. وهكذا أصبح صاحبنا شاهدا على افواج من السجناء تأتي، يستمر البعض مسجونا، ويموت البعض ويخرج البعض، هكذا عاش كحجر داخل مجرى النهر يرى الماء يتدفق حوله، وهكذا حاله مع السجناء الجدد دوما. يرصد حالاتهم يسمع حكايايتهم. كان بعض السجناء القدامى يسجنون مرة أخرى، سأل أحدهم ما الذي فعلته يامجنون حتى تعود لسجن تعرف ما مصيرك فيه ؟!!. اجابه هذا أفضل لي؟!!، الحياة في البلاد كلها خارج السجن ليست أفضل من الحياة هنا. وفي حديثه مع أحدهم سأل صاحبنا لماذا لا تخرج من السجن ؟، فيجيبه صاحبنا وكيف اخرج وانا محكوم بالمؤبد ؟!!، يجيبه السجين الآخر وإن يكن هذا السجن وهم، وجداره من ورق، وما صورة القائد المالئة للحائط إلا خدعة، جرّب الخروج من الحائط وستخرج. لم يقتنع صاحبنا، مع ذلك حاول التجريب، وفعلا خرج من حائط الوهم الورقي، وسار في ظلام دامس الى تجويف ليخرج من تحت الارض، حيث كان سجنه مع الآخرين، وجد الناس كل مهتم بنفسه، الى درجة لم ينتبه إليه أحد. كان عاري الجسد، ولا أحد يهتم بعريّه، وصل الى بيته، دخل الى البيت، لحظته زوجته، تأملته قليلا ومن ثم غادرته الى شؤونها دون أي تعليق. هكذا وجد الناس بعد خروجه. لا يهتم أحد بأمر أحد حتى من أقرب الناس إليه. مع تقبل كل ما يعيشونه، مهما كان غريبا أو قاسيا أو ممتلئً بالظلم.

هنا تنتهي الرواية.

وفي تحليلها نقول:

٠ نحن امام رواية أخرى جديدة نقرأها تؤرخ للتعذيب السياسي، و لفعل الدول القمعية الاستبدادية التي استهانت بالشعوب وحياتهم وكرامتهم. العشرات من الروايات ان لم يكن أكثر التي كتبت حول هذا الموضوع، وكل٥ا تطل على حالة القمع والتعذيب السياسي والإذلال، معبرة عن ظروف الدول العربية وحكّامها المستبدين واسالبيهم المتنوعة من المحيط إلى الخليج،  للاسف.

٠ الرواية كتبت عام ٢٠٠٦م والكاتب عراقي، والإيحاء فيها عن السلطة العراقية والشعب العراقي وظروف الاعتقال السياسي هناك، وكيف نفهم ان هذه الانظمة التي تقمع شعبها وتستعبده و توظّفه في حروب عبثية تؤدي لموت الناس وخراب البلاد كما حصل في العراق التي احتلها الأمريكان عام ٢٠٠٣م. لقد قدم النظام الذريعة للأمريكان لاحتلال العراق والوصول لما وصل اليه بعد ذلك الى عامنا هذا ٢٠٢٠م، حيث يتحرك الشعب العراقي مجددا مطالبا بحقوقه في دولة ديمقراطية تصون حقوقه وكرامته. تطرد جميع انواع الاحتلالات من ايران والامريكان.

أخيرا: لقد كان الربيع العربي الذي أزهر في اوائل عام ٢٠١١م والمستمر للآن في موجات متتالية في كثير من البلدان العربية، هذا لربيع الذي أكد أن الشعوب العربية حرّة وعصيّة على الاستعباد، وستبقى تتحرك منتصرة لانسانيتها و لتسقط دول القمع والاستبداد، وتلغي هدر الانسان وتبني اوطانا تنعم بالحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والحياة الافضل…

.٢/٥/٢٠٢٠.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رواية “الفئران” للروائي والشاعر العراقي “حميد العقباني” قراءة جميلة وتعقيب موضوعي للكاتب “احمد العربي” الرواية تتحدث عن أحد السجناء السياسيين في بلد عربي. سجين محكوم عليه بالسجن المؤبد، يصف حالته وحالة السجن والسجناء المتعاقبين على السجن بشكل دائم.

زر الذهاب إلى الأعلى