لم تكن مطالبة روسيا الأمم المتحدة بإغلاق معبر السلام الحدودي مع تركيا إلا خطوة أخرى ضمن سياق الحرب الإنسانية المضادة في الشمال السوري. استغلت موسكو تقريراً صادراً عن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، كشف أن المعبر شهد دخول 593 مركبة محملة بمساعدات إنسانية خلال شهري إبريل/ نيسان ومايو/ أيار الماضيين، في حين دخلت 2553 مركبة عبر باب الهوى خلال الفترة ذاتها. ولا يتعلق الأمر بطبيعة الحال بمدى نجاعة معبر باب السلام أو عدمها، بقدر ما يتعلق بلعبة ضغط سياسية تمارسها روسيا من البوابة الإنسانية. ويمكن وضع الطلب الروسي بإغلاق المعبر ضمن سياقين:
الأول، خاص بتركيا، في خطوة لممارسة ضغوط على أنقرة، وتوجيه رسالة روسية بأن قادة الكرملين قادرون على تهديد المصالح التركية، ليس على المستوى العسكري فحسب، بل أيضاً على المستويين الاقتصادي والإنساني، وجعل تكلفة الوجود التركي في الشمال السوري مرتفعة، خصوصاً في هذه المرحلة والمراحل المقبلة، مع دخول “قانون سيزر” حيّز التنفيذ، واستبدال العملة السورية بالعملة التركية في شمال غربي البلاد، الأمر الذي أدّى إلى ارتفاع ملحوظ في أسعار السلع الغذائية الأساسية.
سيؤثر إغلاق معبر السلام بشكل سلبي على مناطق عمليتي “درع الفرات” التي تضم أعزاز والباب وجرابلس وأريافها و”نبع السلام” التي تضم البلدات بين تل أبيض شمال غرب الرقة ورأس العين شمال غرب الحسكة، وستحدث فجوة كبيرة بين الإغاثة والاحتياجات الإنسانية الضرورية. وسيؤدّي هذا الأمر إلى رفع تكاليف عمليات النقل من باب الهوى إلى ريف حلب الشمالي، ومن ثم إلى شمالي الرقة وبعض مناطق في الحسكة.
تعي روسيا أن إغلاق معبر اليعربية ـ ربيعة الأقل تكلفة وسهولة في نقل المساعدات، وإغلاق معبر باب السلام مع رفضها سابقاً فتح معبر تل أبيض، سيضع الأتراك أمام مأزقٍ وتكلفةٍ كبيرين.
السياق الثاني، وهو أعمّ، مرتبط بمحاولات روسية خنق إدخال المساعدات الأممية إلى عموم الشمال السوري، من أجل وضع الأمم المتحدة أمام خيارين: قطع عمليات الإمداد الإنسانية الجارية والتسبب بكارثة إنسانية، أو القبول بالمطلب الروسي المتمثل بأن يكون النظام السوري بوابة العبور الرسمية للمساعدات الأممية إلى كل الأراضي السورية، سواء الخاضعة لسيطرة النظام أو لسيطرة المعارضة أو لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. ولذلك، أصرّت موسكو خلال جلسات مجلس الأمن السابق والقرارات الدولية ذات الصلة على نقطتين: رفض استخدام عبارة إدخال المساعدات، واستبدالها بعبارة تسليم المساعدات، وعبارة تسليم تعني أن ثمّة طرفاً داخلياً تناط به مسؤولية تسلم المساعدات. وفي الحالة الروسية، لا يوجد سوى النظام السوري، أي أن المساعدات الإنسانية يجب أن تسلم للجهات التابعة للنظام. موافقة النظام السوري المسبقة على دخول المساعدات الإنسانية، وموافقته المسبقة أيضاً على تحديد المعابر التي ستسلم من خلالها المساعدات.
لا يتعلق الضغط الروسي من أجل شرعنة النظام فحسب، ولا يتعلق أيضاً بمنح هذا النظام ورقة ضغط على مناطق سيطرة المعارضة فحسب، بل للمسألة أبعاد اقتصادية مهمة، فالمساعدات الأممية تشكل عامل استقرار اقتصادي بالغ الأهمية في الداخل السوري، لجهة توفر السلع الأساسية، ولجهة استقرار أسعار السلع الغذائية التي تنتج داخل سورية.
وتساعد المواد الإغاثية بمناطق النظام السوري، في تخفيض الأسعار وتقليل الواردات، ما يؤدي إلى انخفاض الحاجة إلى العملة الصعبة، وبالتالي تحسين الاقتصاد، ولو بشكل بسيط. وفضلاً عن ذلك، تساهم المساعدات الإغاثية في توفير جزء من القطع الأجنبي، وقد اعترف بشار الأسد بذلك العام الماضي.
من أجل ذلك، ترفض الولايات المتحدة الاستجابة للمطالب الروسية، خصوصاً بعد دخول قانون قيصر حيز التنفيذ، فلا يعقل أن تتحول الأمم المتحدة إلى منصةٍ لدعم النظام اقتصادياً، وتمكينه من التحكم بمصير المساعدات للشمال السوري الخارج عن سيطرته.
أمام هذا الوضع، ثمة عدة خيارات: قبول الأمم المتحدة والولايات المتحدة بالمطالب الروسية، خصوصاً أنه لا توجد مؤشرات على إقدام الولايات المتحدة على تجاوز مجلس الأمن حيال هذه المسألة، ويبدو أن هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً في هذه المرحلة.
ذهاب الأمم المتحدة إلى إيقاف إدخال المساعدات بشكل عام سيؤدّي إلى كارثة إنسانية كبرى، وقد حذّرت الأمم المتحدة من أن الفشل في تمديد التفويض لإدخال المساعدات الإنسانية إلى السوريين عبر الحدود سيقطع عمليات الأمم المتحدة الجارية حالياً. ولكن هذا الخيار لا يبدو متاحاً الآن مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية بشكل جنوني في سورية من جهة وفي ظل الانتشار التدريجي لفيروس كورونا من جهة ثانية. وهناك خيار ذهاب الأمم المتحدة، بدعم أميركي، إلى إدخال المساعدات من معبر اليعربية/ ربيعة والمعابر التركية، في تجاوز للفيتو الروسي، لكن هذه الخطوة قد تعرّض القوافل الإنسانية لخطر عدوان من روسيا أو النظام السوري، ولا يبدو هذا الخيار متاحاً الآن، لكنه قد يكون ممكناً في مرحلة لاحقة.
المصدر: العربي الجديد