أثر التذوّق في العملية النقدية

حسن النيفي

يجسّد عامل ( التذوّق ) في مقاربة النصوص الأدبية ركناً من اهم أركان العملية النقدية، بل ربما عدّه البعض الحامل الأساسي للأركان الأخرى، لأن ( الذوق ) ملكة فطرية لدى المرء، إن لم تتوفر فلا يمكن إيجاده، وإن توفر فيمكن تنميته بالمعرفة ومراكمة الخبرات والتجارب، أمّا الحوامل الأخرى فهي قابلة للاكتساب ولو لم تكن موجودة من قبل، ولهذا عدّه معظم النقاد المدخلَ الأول والأهم لتقييم الجوانب الجمالية في النص الشعري، ويمكن الذهاب إلى ان معظم المصنفات والمختارات الشعرية منذ الجاهلية وحتى القرن الثاني للهجرة، أي حين كان النقد العربي في إرهاصاته الأولى، كان يحكمها معيار الذوق بالدرجة الأولى، ومع ازدهار حركة العلوم والثقافة في القرون اللاحقة، شهد النشاط النقدي العربي تطوراً واضح المعالم سواء على مستوى التأليف النقدي أو على صعيد الغنى المعرفي الذي ارتقى بالدرس النقدي إلى مستوى ( المنهجية )، إلّا أن هذا التطور في التعاطي النقدي مع النصوص الشعرية لم يلغ عامل التذوّق، بل عزّز من حضوره وساهم في تنميته والارتقاء به من مستوى الانطباعات الذاتية الأولية إلى مستوى التعليل والغوص في الجزئيات.

ولئن كان عبد القاهر الجرجاني(400 هـ 471 هـ 1009 م – 1078 م ) قد جسّد منعطفاً نوعياً لعله هو الأكثر نضجاً في تاريخ النقد العربي، وذلك من خلال ما جاء في كتابيه ( دلائل الإعجاز – أسرار البلاغة)، فإنه أشار صراحةً وفي اكثر من موضع إلى ريادة عامل الإحساس بالجمال في مواجهة النص الشعري، وذلك باعتبار (هذا الإحساس قليل في الناس ….، ولا تستطيع ان تقيم الشعر في نفس من لا ذوق له)، ولعل الوقوف امام أساليب الجرجاني وعباراته ومفرداته في التعليق على النصوص تؤكّد جميعها على حضور عمليّة التذوق، كلجوئه مثلاً إلى أسلوب المقارنة بين بيتين من الشعر أو أكثر لشاعرين مختلفين، أو استخدامه لمفردات مثل ( مزية – حلاوة – أُنس – طلاوة إلخ).

ولم يكن النقاد في العصر الحديث بأقلّ من أسلافهم القدامى احتفاءً بعملية التذوق، بل ربما كان موقفهم حيال هذه المسألة أكثر نضجاً ووضوحاً، إذ يرى الدكتور إحسان عباس( 1920 – 2003 ) أن ( النقد في حقيقته تعبير عن موقف  كلّي متكامل في النظرة إلى الفن عامة أو إلى الشعر خاصة، يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبر منها إلى التفسير والتعليل والتحليل والتقييم، خطوات لا تغني إحداها عن الأخرى)، ولعله من الواضح في كلام الدكتور إحسان عباس أن عملية التذوق هي البداية، إلّا انها في الوقت ذاته هي البوابة التي ( يعبُرُ ) منها إلى فضاءات أخرى بدونها لن تكتمل الرؤية المتكاملة التي بها يكون العمل النقدي متكاملاً.

ولئن سلّمنا بأهمية ( التذوّق) كزادٍ أساسي لدى الناقد، فإنه ينبغي التسليم أيضاً بأن هذا الزاد هو ملكة فطرية تنمو وتتغذى بجملة من المعارف والثقافات والمناخات الاجتماعية التي تشمل التربية والعقيدة والعادات وما إلى ذلك، وبالمجمل يمكن التأكيد على أن ذوق الناقد او حتى القارىء العادي، إنما هو مجلى ثقافته وعقيدته وسلوكه، إلّا أن ماهية هذا الذوق ليست ثابتة، بل تتطور وتنمو وتغدو أكثر نضجاً كلّما ازدادت معارف المرء وارتقت ثقافته وأصبح أكثر انفتاحاً على عالم الفن والمعرفة وتجارب الآخرين، وتكون النتيجة عكسيةً تماماً كلّما ازداد المرء تقوقعاً وانغلاقاً على ذاته وابتعاداً عن التزوّد الدائم بالمعرفة والاطّلاع والتفاعل مع التجارب الإنسانية الأخرى، ويمكن القول إن الذوق في طوره الفطري هو كالموهبة الخام، إنْ لم يعمد صاحبها إلى رفدها بالمعرفة تبقى هزيلة وربما تميل بالتدريج نحو الاجترار، ومع مرور الزمن تميل نحو الاندثار.

إذاً نحن أمام طورين إجرائيين في العملية النقدية، الاول طور التذوّق، والثاني طور (التفسيرو التعليل والتحليل والتقييم) وفقاً للدكتور إحسان عباس، ولئن كان الطور الأول مؤاتياً للناقد بحكم وجوده الفطري، فإن الطور الثاني هو ما يحتاج إلى جهد وتحصيل ومثابرة مستمرة، ولعل هذا الجهد لا يقدم عليه إلّا الناقد الأصيل المهجوس دوماً بنزوع معرفي وحاجة شديدة إلى التزوّد بالثقافة ومواكبة التطور الإنساني في شتى الميادين، وبدون هذا الجهد يمكن للناقد أن يبقى متذوقاً فقط، تحكمه معايير ذوقه التي لا تتجاوز أفق معارفه ومعتقداته وميوله الفطرية المحدودة، ولعل هذه الضرورة توجبها مسألتان: تحيل الأولى إلى ان النص الشعري في غالب الأحيان ليس مجرّد انعكاس لمشاعر وأحاسيس وحالات وجدانية ونفسية تنتاب الشاعر فحسب، بل هو أيضاً مجلى لأفكار ورؤى وفلسفات ومعتقدات، إذ إن الشاعر الحق هو مُنتِجٌ للفكر، ولكنه يفكر بطريقة فنية وليست منطقية كما لدى الفلاسفة، وعلى الناقد الذي يتصدّى لهكذا نصوص أن يكون قادراً على استبطان العملية الجمالية من الداخل للكشف عن الأفكار من جهة، وكذلك ليبيّن كيف جسّد الشاعر أفكاره جمالياً أو فنياً، وهل أفلح في ذلك أم أخفق من جهة أخرى.

وتحيل المسألة الثانية إلى زوال التخوم التقليدية التي كانت قائمة بين العلوم الإنسانية، إذ باتت الفلسفة وعلم الاجتماع و علم النفس وعلوم اللغة تقدّم للناقد زاداً معرفياً هائلاً و تزوّده بأدوات منهجية بالغة الأهمية في عمله النقدي، ولعل أي استعراض للمناهج النقدية الحديثة يؤكّد مدى استفادة الحقل النقدي ( منهجياً ومعرفياً ) من الحقول المعرفية الأخرى.

لعل الباعث الحقيقي لكتابة مثل هذه المقالة التي لا تعدو كونها تأكيداً لما هو مؤكّد، هو شيوع نوع من الكتابات لنقاد وكتاب ومثقفين عبر منابر ومواقع وصحف يدّعي أغلبها التخصص، تنبثق معظم تلك الكتابات عن ملكة التذوّق التي تحوّلت في نظر أصحابها إلى مرجعيات مُحصّنة ومُحاطة بضرب من الوقار والقداسة، وربما أضحى مجرّد الشك أو المساس بهذه المرجعيات ( الذوقية ) خروجاً عن معايير الجمال عامةً، ولعل التداعيات المرضية لحالات يُتْم التذوّق يمكن استبيانها في سياقات مختلفة، لعل منها شيوع الأحكام القيمية المطلقة، كأن يقول أحدهم: فلان أشعر الشعراء، أو هات لي بشاعر غير فلان، ولو أنك دققتَ في كلامه لوجدتَ أن انحيازه إلى شاعره الوحيد قد يكون ناتجاً عن ميله النفسي أو الشخصي أو الإيديولوجي لهذا الشاعر أو ذاك، وأن سلطان التذوّق المغلق لديه حال بينه وبين جميع الشعراء الآخرين الذي لا يتجانسون معه عقدياً أو ثقافياً، فكم من شاعرٍ في الحالة السورية – مثلاً – جعل منه أصحابه المقربون أو حزبه أو جماعته شاعر فتحٍ عظيم في عالم الإبداع، في حين أنه خارج قطّاعه الإيديولوجي أو حاضنته الاجتماعية لا يكاد احد ان يسمعه أو يعرف عن نتاجه الشعري شيئاً. وكذلك قد تقرأ دراسة نقدية لنص شعري، فتجد نفسك حيال نص إنشائي موازٍ للنص المدروس، وهذا النص الموازي لا تجد فيه إلّا انطباعات وإحالات ومشاعر ربما لا وجود لها إلّا لدى الناقد الذي لا يرى في النص المدروس سوى ما يعتقده سابقا أو ما بنفسه هو، وربّما ما عزّز هذا المنحى من الكتابة ظهور مناهج نقدية حديثة كالبنيوية والتفكيكية ومعظم المنتج الفكري ل(رولان بارت – 1915 – 1980 ) الذي تركت كتاباته أثراً واضحاً في النقد الغربي الحديث، و التي ترى النص الادبي بنية لغوية لا صلة لها بالمؤلف، الأمر الذي يتيح للناقد الذهاب إلى أين يشاء دون الاتكاء إلى أية قرينة دالة في النص.

لعله من الصحيح أن النص الشعري النفيس لا يكتشفه أو يفضح مكنوناته الجمالية والفكرية إلّا الناقد صاحب الحساسية العالية والبصيرة النافذة والذوق المتفرّد، ولكنه في الوقت ذاته صاحب الثقافة المنفتحة والشاملة الذي يمكّنه نزوعه المعرفي من تجاوز المحدّدات الفطرية والتخوم الإيديولوجية لذوقه، والارتقاء به نحو فضاءات معرفية وإنسانية متجدّدة على الدوام.

المصدر: العربي القديم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى